إلغاء الأوقاف.. دوافعه وخطورته وآثاره
بقلم عبد القادر محمد المهدي أبو سنيج
تحتل الأوقاف موقعها المتميز في التشريع الإسلامي للأعمال الخيرية التي حض الإسلام عليها، فهي تعد من أبرز أساليب إنفاق الأموال في وجوه الخير، ويكفي اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم له كأفضل أسلوب لتلبية رغبة قوية لدى سيدنا عمر رضي الله عنه في التصرف الخيري في أحسن مال أصابه. ونظراً لهذه الأفضلية التي يتحلى بها الوقف، فقد ثبت أنه لم يبق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فردٌ له قُدرة على الوقف إلا ووقف .([1]).
والأوقاف هي ” عمل الأمة الصالح ” الذي دخل كل بيت مع ضوء الشمس، وهي كذلك قوة “المجتمع” في مواجهة عوادي الزمن عن تقصير “الدولة”.
فهي “مال الأمة” الذي يعين الدولة وعكس هذه القاعدة يجر ويلات لا حصر لها.
ويختلف الوقف عن الزكاة المفروضة والصدقات التطوعية بكونه أكثر نفعاً وأدوم فائدة، ويعم الناس جميعهم، المسلم وغيره، وهو عقد يراد به الإسهام في تنمية المجتمع المسلم وتقدمه وازدهاره، بتلبية حاجاته الدينية والتعليمية والاقتصادية والصحية والأمنية، وبتقوية شبكة علاقاته الاجتماعية، وترسيخ قيم التضامن والتكافل وتعميق الإحساس بالأخوة والمحبة.
ولقد تميز الوقف بأنه غير محدد المصرف، ولكنه مرتبط بشرط الواقف ما يجعل منه مصدراً وحيداً لقطاعات خيرية حيوية كثيرة لا تشملها الزكاة المفروضة ولا الصدقات التطوعية. ([2]).
وإن اغتصاب الوقف أو إلغائه أو تحجيمه أو إدخاله ضمن مؤسسات الدولة والحكم تأكله السرقة، كل ذلك يسبب انتكاسة خطيرة للعمل الخيري وإماتة لقيم الفضل الاجتماعية التي يتعدى نفعها صاحبها ويتجاوزه إلى غيره من الناس، وتلكم القيم هي التي تبعث الإنسان على فعل الخير وتدفعه لإنتاج وسائل البر وسبل الإحسان.
وهذا يلحق ضرراً بالغاً بالمنظمات الأهلية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية مما ينعكس سلباً على تلبية حاجات قسم كبير من سكان المعمورة من دينية، وصحية، واجتماعية، واقتصادية، وعلمية وثقافية، وإنسانية، وأمنية.
وهذا يبين أهمية الوقف ومركزيته في الخدمات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية للمجتمعات، خصوصاً بعدما تأكد عجز كثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية عن تلبية قسط كبير من هذه الخدمات، وتأكد قصر يد المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة وغيرها عن الوصول إلى منكوبي الحروب والكوارث وأهل الحاجة.
بل إن بعض الدول رفعت يدها عن التعليم والصحة، وتخلت عن دعم المواد الغذائية الأساسية وتركت المواطنين ذوي الدخل المحدود فريسة للقطاع الخاص، ولم يبق إلا جمعيات خيرية لها أهداف تصادم أهداف ديننا وأمتنا.. وبهذا يظهر القصور والتقصير في حق النابغين في التعليم وقبلهم أهل البؤس والفقر والحاجة فتموت قيم الفضل الاجتماعية بل الفضائل متعددة المنافع متعدية النفع.
فالوقف أُنشأت به مؤسسات خيرية دائمة، ولا يزال بعضها قائماً إلى الآن، ويؤدي وظيفته ولكن الحاجات متجددة ومتزايدة، ومؤسسات الوقف أصبحت قاصرة عن تلبية احتياجات المجتمع بسبب تحجيمه واغتصابه.
فكيف يكون الحال إذا ألغي الوقف أو اندثر؟
ما يتسبب في بؤس اقتصادي شديد وزيادة في أعداد الأميين والفقراء والمرضى وذوي الاحتياجات.
ولو أضيف إلى ذلك ضعف قيم فعل الخير مع ظهور حب الأثرة، وغياب التعاطف مع الآخرين، وهي قيم إن تفشت في أي مجتمع يعيش في رخاء أو بؤس فإنه لا محالة يسود البغض وتعم الكراهية، ويستحكم فيه الحقد والحسد والضغائن، فتنتشر الجرائم والموبقات الأخلاقية والاجتماعية.
فيغيب الأمن ويضطرب المجتمع، ويموج بأنواع من الجرائم التي تذهب بقوته وأمنه وتضعف إيمان أهله وثقتهم وولائهم وانتمائهم.
فتنتشر جرائم الأعراض والأموال، وعصابات الإجرام المنظم من مهربي المخدرات ومجرمي النهب والسرقة وانتشار تجارة الأعضاء البشرية والأعراض المحرمة.
وانتشار الحركات الهدامة كالتبشير، والإلحاد.
وعندها تبدأ هجرة الكفاءات العلمية إلى ديار غيرنا، ومنها الهجرات غير الشرعية أو السرية أو “قوارب الموت”.
وهناك نتيجة دينية ودعوية خطيرة تنجم عن ضعف الوقف أو إلغاؤه أو اغتصابه واندثاره وهي انحسار المد الإسلامي في أفريقيا وآسيا وأوروبا في مقابل طغيان التيار التبشيري والإلحادي مع وضعنا في الاعتبار سهولة التواصل وتوفر وسائلها حتى عند الفقراء. ([3]).
قال أبو زهرة: حكى لنا التاريخ أن قوماً من ذوي السلطان قد مكن الله لهم في الأرض، فعاثوا فيها فساداً، وعدوا على الأوقاف يأكلونها، وقد عاونهم على ذلك قضاة ظالمون وشهود زور، أما في العصر الحاضر، حيث الوازع الديني بدأ يضعف أكثر فأكثر، وحيث الجشع المالي أخذ يعظم أكثر فأكثر، فإن الخطاب أشد والمصيبة أكبر، إذ شرع الاهتمام بأمر الوقف يفتر، والتساهل في الحفاظ على نفعه يزداد.
بل إن المؤسسات الوقفية في بعض الدول الإسلامية زالت أو في طريقها إلى الزوال، لاسيما بعد أن سلب الواقفون أو ذرياتهم حق رعاية أوقافهم”..([4]).
ودوافع الاستيلاء على الأوقاف واغتصاب أصله وثمرته هي دوافع استبدادية محضة، وهي ترجع إما لما يدره الوقف من أموال يسيل لها لعاب الفسدة والحقدة من ظلمة المستبدين، ويساعدهم ويشجعهم على ذلك علماء وقضاة السوء وشهود الزور.
أو يكون الدافع هو التحكم في الشعوب وقهرها، وهذا ظهر مع ظهور الدول الحديثة القطرية، ذلك لأن الوقف عمل خيري يشمل شرائح واسعة من الفقراء وذوي الحاجات ما يجعل الوقف منافساً للدولة التي أنشأت أساساً لحماية مواطنيها أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، فالدولة الحديثة تريد أن تضمن ولاء المواطن ولاءً مطلقاً لا تشوبه شائبة، والعائق الوحيد أمام الدولة القطرية والدول الوظيفية الحديثة التابعة للمستعمر هو قطاع الأوقاف، وقد ظهر هذا منذ تولي محمد علي وما تلاه وحينما تعجز الدولة عن ذلك تجعل له وزارة خاصة لتبديد الأوقاف([5])، وسهولة نهشها وتبديد ثمرتها وتصبح مهمة الدول سلب الثمرة لا تسبيلها ونذكر ونردد هذه الكلمة التي قالها أمير البيان شكيب أرسلان:” (الإفرنج لا يكرهون في الدنيا شيئاً كرههم “للأوقاف الإسلامية” ولا يخافون في مستعمراتهم من شيء كمخافتهم منها …. لأنهم يعتقدون أن المسلمين إذا أحسنوا إدارتها وضبط حاصلاتها، كان لهم منها منبعُ إعدادٍ عظيمٍ في أمورهم السياسية) ([6]).
نرددها لأن الفهم القاصر، والعقول المتهمة جعلت الوقف منافساً وغريماً سياسياً والحقيقة أنه يخفف عن الدولة كثيراً من الأعباء.
بل إن بعض الأنظمة صارت تتهم القطاع الخيري الوقفي بأنه مصدر تمويل للإرهاب وهو باب الإحسان والبر الذي شمل المسلم وغير المسلم.
هذا بعد الشبهات المعلبة والتي طالت الوقف الأهلي بأنه سبب في تكثير البطالة وداعية للخمول، مع ما فيه من حرمان الورثة، أو شبهة ظلم النظار في الوقف الخيري.
وحال هؤلاء كحال من أراد إصلاح بيت فقرر هدمه.
وبكل وضوح يجب إعطاء الوقف فرصته كاملة ليؤدي دوره كاملاً غير منقوص وتمكينه أولى وأوجب من إلغائه وتوفير كفاءات لرعايته أوفر وأولى من توفيرها لحصره وحصاره لاغتصابه واندثاره.
والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1401هـ: 5/ 599؛ القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994م: 6 / 323.
[2]) ينظر نظام الوقف الإسلامي ص 16. وينظر ص 26 / 58 وما بعدها من الوقف وتنميته وخطورة اندثاره عن العمل الخيري المؤلف: الناجي لمين دار الكلمة المنصورة – مصر ط2 سنة النشر: 1435 ه– 2014م .
[3]) الوقف وتنميته وخطورة اندثاره عن العمل الخيري . ص6، 73 وما بعدها. بتصرف وزيادة .
[4]) محاضرات في الوقف 172/ 182 وما بعدها.
[5]) الوقف وتنميته وخطورة اندثاره عن العمل الخيري ص 26 / 58 وما بعدها بتصرف وزيادة
[6] ) الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف ص٩٠، ط البابي الحلبي.
المصدر: مجلة المجتمع