بقلم الشيخ عبدالله السكرمي – موقع إسلام أونلاين
جاء الخطاب بالأحكام أمرًا ونهيًا في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى جماعة المؤمنين، ممن ارتضوا الله ربًّا، والإسلام دينًا، ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، حتى في الأحكام التي تتعلق بأفراد مخصوصين من الأمة، كأمر القتال، أو الحكم بين الناس، أو القصاص، ونحو ذلك من الأحكام، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة:178]، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:58]، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات:9]، وغير ذلك من الآيات.
فهذه الأحكام ونحوها ينهض بعبئها الأفراد المخصوصون، الذين أُسندت إليهم، ومع ذلك نجد المُخاطب بها والمأمور بتنفيذها هم مجموع الأمة، مما يعني أن إيجاد هؤلاء الأفراد الذين تُسند إليهم هذه المهام، واجب على الأمة في مجموعها، وهو متعلق أكثر بأهل العلم والخبرة والزعامة وموضع الثقة من سوادها الأعظم، وهم الذين اصطلح الفقهاء من قديم على تسميتهم بـ (أهل الحل والعقد في الأمة).
وقد اختلف الفقهاء قديمًا في تحديد من هم أهل الحل والعقد هؤلاء، والشروط الواجبة فيهم، وبعض الأحكام المتعلقة بهم. ولكن المتفق عليه أن هؤلاء ينوبون عن الأمة جميعًا في اختيار (السلطة)، وهو واجب عظيم يتحملونه.
وحين تقوم الأمة من خلال ممثليها هؤلاء بإقامة السلطة، فإنها تعفي نفسها من مسؤولية القيام بكثير من الأحكام العامة، وتتحمل السلطة عن الأمة عبء القيام بها، وذلك مثل: حفظ سيادة الشريعة في الدولة، ورعاية قيام أصول الدين وشعائره، والفصل في المنازعات والخصومات، واستيفاء الحقوق ممن مطل بها، ومعاقبة المجرمين والجناة، ونحو ذلك.
ولذا يهييء الإسلام للسلطة مساحة كبيرة لسن ما تراه من تشريعات وقوانين وتنظيمات، تيسر مهمتها، وتحقق مصلحة الأمة من خلالها، ويوجب على الأمة طاعتها، ومساندتها، حتى تؤدي مهمتها خير أداء. ولا تُعفى الأمة من واجب المراقبة، والنصح والتوجيه، والتقويم لهذه السلطة التي اختارتها.
ومن هذا الاعتبار وغيره، ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى القول بأن (السُّلطان للأمة)، وأنها (مصدر السُّلطات)، وهو وإن كان من المفاهيم الجديدة، التي دخلت إلى بلاد المسلمين في الفترة الأخيرة، مع الغزو الفكري لبلاد المسلمين، إلا أنَّه من حيث الاستعمال لا غبار عليه، ما دام يعبر عما يقره الإسلام.
فالقول بأن: (السلطان للأمة)، يعني: أنَّ لها الحق في اختيار السلطة الحاكمة من خلال ممثليها ونوَّابها (أهل الحل والعقد)، ولها الحق في تقويمها ومحاسبتها إن خالفت الأصول العامة. وهذه الأصول في الإسلام هي الأسس الثابتة التي وضعتها الشريعة، مما يعني أن سلطان الأمة لا يعلو على سيادة الشريعة، التي تحكم الشَّعب والسلطة معًا. وهذا مقبول في الإسلام، وتدل عليه بعض الأحكام الشرعية، وعمل الصحابة في خير قرونها.
ومن الأدلة الشرعية على مسؤولية الأمة عن قيام السُّلطة – إضافة لما سبق من خطاب الله للأمة بالأحكام-: أحاديث البيعة، التي دلَّت على أن الأمة هي المسؤولة عن اختيار سلطتها وحكَّامها، وأنهم هم الذين يبايعونهم، ويقيمونهم حُكامًا عليهم، ولا يكون الشخص حاكمًا إلا ببيعة الأمة له. كحديث: عبادة بن الصامت في بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (دعانا رسول الله صلى الله عليه و سلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا)[1]. وحديث: عبد الله بن عمر: (كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: “فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ”)[2]. فالنبي صلى الله عليه وسلم – مع كونه رسولًا- أخذ البيعة على النَّاس، وهي بيعة على الحكم والسلطان، وليست بيعة على النُّبوة، ولذا أخذها على الرجال والنساء، ولم يأخذها على الصغار الذين لم يبلغوا الحلم. وهو ما حصل -أيضًا- مع الخلفاء الراشدين من بعده صلى الله عليه وسلم، فقد أخذوا البيعة من الأمة، وما صاروا خلفاء إلا ببيعة الأمة لهم.
ومن الأحكام الشرعية الدالة على مسؤولية الأمة في إقامة السُّلطة، ما جاءت به الأدلة الشرعية من أن أولي الأمر يستمدون سلطانهم على الأمة من بيعة الأمة لهم، وهذا ما وضحته أحاديث الطاعة، وأحاديث وحدة الخلافة، كقوله صلى الله عليه وسلم: “ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر”[3]. وقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، إلا مات ميتة جاهلية”[4]، فجعل النبي عصيان الأمير من مفارقة الجماعة؛ ولا يكون ذلك إلا لأن الأمة ارتضته وقدّمته فصار عصيانه عصيان للأمة، والخروج عليه خروج على الأمة. وهذا يدل على أن السلطة تستمد طاعتها من اجتماع الأمة عليها.
ومن هنا جعل الله عز وجل أولي الأمر من الأمة؛ لأنهم جاءوا باختيارها وبيعتها لهم، وليسوا جبرًا عليها، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59].
ويرى العلامة رشيد رضا أن الله عز وجل جعل الأمر بطاعة (أولي الأمر) ولم يقل (ولي الأمر) إشارة إلى الأمة؛ فهم أولو الأمر، وولي الأمر (الخليفة) واحد منهم، وإنما يُطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه له وثقتهم به[5].