إعدامات في مصر وتبديل للدين في تونس.. ألا من مراجعة لفقه الانسحاب والتنازل بدعوى المصالح والمفاسد؟!
بقلم أ. محمد إلهامي
أكثر الأسئلة التي كان يطرحها الإعلام العلماني على أي سياسي إسلامي: ماذا ستفعلون في النساء العاريات على الشواطيء، في النساء غير المحجبات واللاتي لا يردن أن يرتدين الحجاب، في مصانع ومحلات بيع الخمور، في السينما والمسرح، في رياضات السباحة وفن الباليه… وهكذا!
في المقابل فإن سائر الإجابات التي يبذلها الإسلاميون في هذه الأبواب تفيد بث الطمأنينة لهذه القطاعات، حتى إن أكثرها وضوحاً و”تشدداً” هي الإجابة التي تتحدث عن التدرج والرفق في تغيير هذه الأمور، وتتفق الإجابات الإسلامية على أن هموم الأمة أوسع وأكبر من هذه الأشياء، هموم في الاقتصاد والسياسة والطاقة والتعليم. وبالرغم من هذا فإن الحملات الإعلامية العلمانية وحديث المثقفين العلمانيين يأخذ هذه الصورة: هؤلاء خطر على الحريات، هؤلاء خطر على الفن والثقافة والسياحة والرياضة والمسرح، هؤلاء لا يفكرون إلا بغرائزهم ولا ينتبهون إلا للمرأة وحجاب المرأة ويتركون هموم الوطن الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية، هؤلاء طلائع الظلام القادم من العصور الوسطى الرجعية!
ثم حين يكون العلماني في موقع السلطة، بانقلاب أو توريث، مدعوم بالدول الأجنبية بطبيعة الحال، فإنه لا يفعل شيئاً في أبواب الاقتصاد والسياسة والإنتاج والطاقة والتعليم، أبداً.. بل هو يتوجه من ناحيته لمحاربة دين الناس وعقيدتهم وأخلاقهم، لا حرية متاحة إلا حرية الانحلال والإباحية، ولا تقدم إلا على مستوى انتشار الخمور والفجور، ولا قوانين تصدر إلا التي تزيد من سطوة الحاكم العلماني وهيمنة الأجنبي ومحاربة الدين. وها هو الباجي قايد السبسي لم يجد شيئاً ينبغي أن يُهتم به سوى إصدار قانون يُسَوِّي بين الرجل والمرأة في الميراث رغم امتلاء تونس بالمشكلات! ومع هذا فالنخبة الثقافية العلمانية بامتداد العالم العربي لا تحدثه عن هذه المشكلات المزمنة بل تصفق له على هذه المشكلة الجديدة التي يصنعها في بلده.
هذه هي أولويات العلمانيين..
وإنها لأولوياتهم منذ وُجِدوا في بلادنا، فهم أبناء الاستعمار الأجنبي وربائبه، وما كان لهم أن يصلوا إلى السلطة ويحكمونا إلا بقوة الاستعمار المسلحة ودعمه، وبقدر ما أنهم رسَّخوا وعَمَّقوا ما نحن فيه من التخلف على سائر المستويات بقدر ما أنهم نشروا في بلادنا الكفر والانحلال والتهتك.
المشكلة الحقيقية أن كثيراً منا لا يفهمون ذلك، يرونهم شركاء الوطن لا صنائع الاستعمار، يحسبونهم أصحاب فكر مختلف لا أصحاب عداوة أصيلة، يتوهمون أن هدفاً مثل “تقدم الوطن” أو “استقلال الوطن” يمكن أن يجمع بيننا وبينهم. بعضنا جاهل بهم وهو جهل فادح فاضح لا يُعذَر صاحبه به، وبعضنا من ضعفه وعجزه يريد أن يتوهم هذا لئلا يواجه الحقيقة التي تزيده شعوراً بحجم التكاليف والمسؤولية، وبعضنا من أخطائه وفشله وخياناته أيضا يُسَوِّق هذا الوهم لئلا يقال عنه: أخطأ وفشل وخان.
هؤلاء الذين هم منا، هم من يجبروننا على إعادة التكرار والثرثرة في الكلام المعروف المملول عن عداوة هؤلاء وكونهم صنائع الاستعمار وممثلو مصالحه في بلادنا.. أولئك يقطعون الطريق حول تطور الكلام والأفكار لتبحث في “كيفية التخلص منهم” لنظل نراوح مكاننا في إثبات أنهم خصوم وأعداء.
وهم من ناحيتهم لا يُقَصِّرون في إظهار عداوتهم، فما إن تلوح لهم فرصة حتى تكون منازلنا بين القبور والسجون والمنافي، بين من قضى نحبه ومن ينتظر، من لم يمُت بالرصاص مات بالتعذيب، ومن لم يمت بالمشنقة مات من أمراض السجن، ومن لم يمت بهذا كله مات بباب من أبواب الفساد الذي ينشرونه في بلادنا: تحت ركام عقار بُني بخلاف مواصفات الأمان، أو حَرقاً في قطار، أو غرقاً في سفينة، أو تحت عجلات سيارة على الطريق العام.
إن أي حساب لتكلفة بقاء هذه الأنظمة على أمتنا سيؤدي مباشرة إلى نتيجة تقول: إن كل فوضى ناتجة عن الثورة عليهم وإسقاط أنظمتهم هي بكل تأكيد أهون وأقل ضرراً، فحجم ضرر هذه النظم على الأمة لمدة ستين سنة لا يمكن حصره، بينما لا يمكن أن تستمر فوضى في مكان ما لستين سنة مثلاً، الناس يستطيعون تدبير أمرهم وحكم نفسهم والتكيف مع أوضاعهم أفضل كثيراً من حالهم تحت أنظمة قاهرة تتفنن في قتلهم وسلب أموالهم وتمكين الأجنبي في بلادهم.
وقد ثبت من سيرتهم التي كتبوها بدمائنا، ورسموها بسياطهم فوق لحومنا، أنهم لا يؤمنون بشيء، إذ ليس من مبدأ أو قاعدة يمكن التفاهم معهم عليها، لا هم يؤمنون بالديمقراطية ولا بالحريات العامة ولا بحق الشعب في المتابعة والمراقبة فضلاً عن المحاسبة.
فمن هاهنا كانت لحظات الثورات العربية لحظات فارقة ذهبية لقلب هذا الوضع، والتخلص من هذه الأنظمة، ذلك أن الشعوب لا تنفجر متى أردنا ذلك، بل ولا تزال تحير علماء الاجتماع في تحديد توقيت وأسباب انفجارها، إلا أن أولئك الجاهلين المغفلين منا سارعوا لامتصاصها وتبريدها، بل وظفت الأنظمة بعضاً منهم لتداركها قبل وقوعها، حدث هذا في مصر وتونس والمغرب واليمن والأردن.
في تلك البلاد، كان الإسلاميون وسيلة امتصاص وتبريد الثورات وتداركها، رغم أنهم أكثر الكاسبين من نجاح الثورات، وأول الخاسرين إذا أخفقت، بل هم من قبلها مضطهدون ومن بعدها مضطهدون. فالإسلاميون في اليمن هم من شلُّوا حركة الثورة وأدخلوها في دهاليز اللقاء المشترك والمبادرة الخليجية وترتيبات المبعوث الأممي حتى أكل الحوثي اليمن، وقد كانوا قادرين –فقط لو تجاسروا وقرروا- أن يُجَنِّبوا اليمن مصيره المريع الذي يلقاه اليوم بين طرفين مجرمين: الحوثي ممثل إيران، مقابل السعودية والإمارات، ولا يدفع الثمن إلا أهل اليمن.
والإسلاميون في المغرب قبلوا أن يشاركوا مشاركة شكلية في الحكومة التي هي بلا صلاحيات ليكونوا درع القصر في الالتفاف حول الثورة الوشيكة، وليكونوا أيضاً سيفه في طعنها والقضاء عليها في مهدها، وقد فعلوا، ثم وجدوا أنفسهم بلا صلاحيات ولا قدرة، بل إذا نجحوا فالمدح متجه لجلالة الملك وإذا فشلوا فالسب والشتم متوجه إليهم! ومثل هذه التجربة تقال عن الأردن أيضاً مع تغيير تفاصيل غير مؤثرة!
والإسلاميون في مصر كانوا الأسرع إلى تهدئة الشارع وتبريد الثورة، ولولا ظهور شخصية ثورية مثل حازم أبو إسماعيل مع وجود رغبة دولية في “تجريب” الإسلاميين في الحكم لكانت قد تكررت تجربة 1954 بحذافيرها، لكن هذه المتغيرات أفسحت المجال لسَنة في السلطة منزوعة الصلاحيات، ومع هذا فإن أداءهم في هذه السنة كان أداء من امتلك الدولة وسيطر عليها، فسيطر عليهم الحرص على الدولة ومؤسساتها وتغييب الشعب عن الصراع الدائر في الدهاليز بل والحرص على تهدئته وتبريد روحه الثورية، فكان أن انقلبت هذه الروح الثورية بفعل مؤسسات الدولة وإعلامها لتكون ضد الإسلاميين أنفسهم، لم يفكر أولئك في مواجهة هذه الدولة العميقة لحظةَ أن كانوا قادرين ووراءهم ثورة شعبية رفعتهم –رغماً عنها- إلى السلطة، كما لم يفكروا في مواجهتها وهم مهددون، ثم لم يفكروا في مواجهتها بعد الانقلاب.. حالة عجيبة من حالات الانكسار النفسي والهزيمة المعنوية! وصار الذي هتف “سلميتنا أقوى من الرصاص” نزيلاً في الزنزانة بتهمة الإرهاب!
تجربة تونس فريدة جداً في بيان نكبتنا ونكستنا العربية الإسلامية، وواحدة من أهم الشواهد الضخمة المنتصبة على ما نحن فيه من التيه. يقولون عن راشد الغنوشي مفكر، رغم أن سلوكه السياسي نموذج من السذاجة والضعف والارتباك ثم الفشل. ولا يمكن تفسير مساره إلا أنه آمن بالديمقراطية أكثر من إيمانه بالله وبكتابه وبرسوله، فإن كلام الله وسيرة رسوله ضد الغنوشي على طول الخط.. والغنوشي الذي تأسف قديماً وأدان الحركة الإسلامية لأنها لم تهتم بعلوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد ظهر أنه لم يعتبر من هذه العلوم ولم يستفد منها شيئاً!
فمختصر مسار حركة النهضة التونسية أنها لم ترد إقامة الإسلام الذي هو مبرر وجودها كحركة إسلامية فتنازلت عن كل تأسيس إسلامي في الدستور أو هياكل الدولة، بل ولا احترمت الديمقراطية كوسيلة لبيان إرادة الشعب التي رفعتها إلى السلطة فتنازلت عن السلطة، إنما احترمت رغبة الأقوياء –وهم في أشد حالات ضعفهم، في لحظة الثورة- وسمَّت ذلك “البحث عن التوافق، الصيغة المشتركة للتعايش…” ونحو هذه الألفاظ النخبوية السفيهة الكفيلة باستجلاب الهزيمة في أي لحظة صراع فارقة. فانتهى هذا إلى أنها أسلمت الثورة إلى نظام (بن علي) نفسه مرة أخرى، وبشرعية كاملة، وهي الآن لا تملك أن تحمي نفسها من أن تنزل نفس السجون إن قررت السلطة أن تفعل هذا. وبالموازاة مع هذا كله أسهلت حركة النهضة التنازل عن الإسلام وتكييفه وتأويله وتطويعه وتعديله ليتفق مع رغبات الحداثة الغربية العلمانية الغالبة. ثم لا يأتينا من الغنوشي إلا مقالات تبريرية وتراجعات وتعديلات على أفكاره القديمة حتى صار الغنوشي نموذجاً مثالياً للتأصيل “الشرعي” للعلمانية!
سيقولون: كل هذه البلاد وفَّرت على نفسها الصراع والدماء الذي انطلق في مصر وليبيا وسوريا.
ونقول: الاستسلام حلٌّ يجيده كل أحد، ويملكه كل أحد، ولا يُعدَّ ذكاء ولا حكمة أنك تنسحب من المعركة، تنسحب منها في أفضل فرصة ممكنة (فرصة ثورة شعبية).. ولا يُمدح أحدٌ بأنه انسحب من كل معركة فوفَّر على نفسه وجنوده الحياة! هذا يسمى انسحاباً واستسلاماً وضعفاً وجبناً ويسمى أيضاً خيانة!.. ولا يُعدّ الانسحاب حكمة إلا من قائد تتواصل انتصاراته لكنه انسحب من واحدة أو اثنتين لظروف رآها، أما من يقضي حياته في الانسحاب وتجنب المعارك فلا يسمى حكيماً بل جباناً!
نعم، مرسي لم يكن رئيساً جيداً، لم يخض المعركة بحقها في الوقت الذي كان الشعب فيه معه، لكن صمود اللحظة الأخيرة هو ما جعل صورة الحق والباطل واضحة في مصر حتى الآن، وهذا ما يُحسب له، لا يزال السيسي عسكرياً منقلباً.. بينما لا يستطيع أحد أن يقول مثل ذلك عن السبسي في تونس! فإنه يتمتع بشرعية كاملة!
وهكذا ماذا تكون الثورة قد حققت من النتائج، إن نحن أخذت حركة النهضة بناصيتها فأعادتها إلى النظام القديم ومعها الشرعية التي تنقله من مغتصب إلى ديمقراطي؟! هذا مع أنه لا ضمانة أبداً أنه سيحترم هذه الديمقراطية ولن ينقلب عليها، إذ لسنا نعرف من أخلاقهم ولا من أخلاق داعميهم الإيمان بالديمقراطية، كما ليس بأيدي النهضة والغنوشي من الضمانات الواقعية والاستعدادات العملية ما يجعلهم يتخوفون من الانقلاب على الديمقراطية.
إذا أردنا إجمال الحقائق في عالم البشر والسياسية فسيكون من بينها هذه الأمور:
1. لا تنهض الأمم إلا حين تمر بمخاضات عسيرة مؤلمة تفقد فيها كثيراً من الخسائر حتى يتحقق لها التحرر والاستقلال، الذي يؤهلها لتكون قوى كبيرة وعظمى فيما بعد.
2. الاستبداد المعاصر هو صنيعة الاحتلال، والاحتلال داعمه وكفيله، فمعركة التصدي للاستبداد الداخلي هي جزء من معركة التحرر من الاحتلال الأجنبي، وهؤلاء الحكام وهذه الأنظمة ليسوا مجرد وطنيين وقع بيننا وبينهم الاختلاف في الرأي والنظر وطريق النهضة، بل هم وكلاء الاحتلال الذين يحاربون هذه البلاد وأهلها أشد مما كان يحاربها أسيادهم.
3. ليس من مستبد ولا محتل يرحل من مكانه ويفرط في سلطانه لمجرد احترام الرغبة الشعبية، بل لا يرحل مستبد ولا محتل إلا كارهاً مقهوراً مجبراً بعد استنفاد وسائله في التشبث والبقاء.
4. الثورات لحظات فارقة ونادرة ولا تتكرر كلما شئنا.
حين يفقد العلماء وقادة الحركات الإسلامية الوعي بهذه الأمور وتنحصر رؤيتهم في حقن الدماء “هنا” و”الآن” فإنهم لا يصنعون خيرًا للبلاد والعباد، بل على العكس، هم يسلمونها لحقبة قادمة بعشرات السنين لا تحصى فيها الخسائر من الدين والدماء والأموال والهيمنة الأجنبية والتخلف العلمي والحضاري. ومن هنا فإن إفشال الثورات بتبريدها وتسكينها وتخديرها قبل تحقيق التمكين الحقيقي لممثلي الشعب –وهم في بلادنا الإسلاميون- ليس إنقاذاً للأوطان من الفوضى، بل هو إنقاذ للأجنبي من الورطة التي قد تنفجر في وجهه وتُخرجه من البلد.
وحينئذ فالموازنة بين المصالح والمفاسد لا ينبغي أن تكون مقتصرة عن اللحظة “الآن” والمكان “هنا”، بل ينبغي أن تتسع لتشمل المستقبل –الذي نعرفه بخبرة الماضي- وأن تتسع بحجم الأمة لنرى كيف يمكن أن يؤثر الاستسلام هنا أو الانتصار هنا على الأمة كلها في معاركها الدائرة شرقاً وغرباً. وساعتئذ سنرى أن احتمال الألم في المخاض حتى الاستقلال والتحرر من الاستبداد والاحتلال أهون كثيراً كثيراً كثيراً من أخذ جرعة المخدر اللحظية الـمُسَكِّنة والتي سرعان ما تنتهي لنجد ألماً طويلاً مستمراً لا ينتهي أيضاً إلا بمخاض آخر تكاليفه أشد وأقسى!
سل الذين مَكَّنوا لعبد الناصر في مصر حين لم يواجههوه أول أمره: دماء من حقنتم؟! ودماء من أرقتم؟!.. وهل كانت مواجهة عبد الناصر قبل أن يستبد ستؤدي مهما بلغت تكاليفها إلى هذه النكبة التي نحياها ستين سنة؟!
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)