إعجاز القرآن.. حين يتكلّم المختصّ بغير اختصاصه
بقلم ساري العم
جاء الأنبياء برسالة السماء يحملونها على ظهورهم، ينتشلون العامّة من الضلالة إلى الهداية، ومن العمى إلى النور.. كان التحدي الأول والصدام الأول في إثبات صدق الدعوى وبرهان النبوة. ومن آيات الأنبياء ومعجزاهم:
اشتهر الفراعنة بالسحر عبر السنين، ولا ريب أنّك تسمع لليوم القصص والأخبار عن الأهرام والمومياوات وأسرارها وأسحارها، كان الفراعنة من أبرع النّاس في السحر، وكانت تلك وسيلتهم في خداع العامّة ليبقوا تحت عصا الطاعة وفي نير الاستبعاد. يجتمع الناس يوم الزينة في وضحة الضحى، ثم يلقي السحرة حبالهم وعصيّهم التي تحتوي على الزئبق في وادٍ من نار، وهنا سحروا أعين النّاس وارهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، وألقى موسى عصاه فتحولت إلى أفعى حقيقية وابتلعت تلك العصيّ جميعاً، وألقي السحرة ساجدين لمّا عرفوا أن هذه المعجزة لا تجري إلا على يد نبيّ، هذا شيء أكبر من السحر. وهناك اثنا عشر معجزة لموسى عليه السلام لا يتسع المقام لذكرها.
اشتهر قوم عيسى بالطبّ ومداواة الأسقام، وكانت التحدّي على لسان عيسى: “أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”، وقد عجز الطبّ وسيبقى عاجزاً عن إحياء الموتى…
لم يشتهر العرب بالسحر كقوم موسى عليه السلام، ولم يشتهروا بالطبّ كقوم عيسى عليه السلام، كان العرب قوماً أصحاب بلاغة وفصاحة وبيان، وقد اشتهر عندهم الشغف بالشعر، فالأمّ ترقّص ابنها بالشعر، والمرأة تحمّس الرجال على الحرب بالشعر، والشعر يخلّد مآثر العرب وأمجادهم ومفاخرهم أيّامهم، والشعر -كما هو معروف- ديوان العرب، وأدباء العرب وخطباؤهم أكثر من أن نحصيهم. معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت في القرآن الكريم، كان العرب يسمعون القرآن ويعرفون بذائقتهم الرائقة أنّ هذا الكلام لا يستطيعه بشر. كان التحدّي “قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا“ ثم “فأتوا بعشر سور مثله مفتريات” ثم “فأتوا بسورة من مثله”.
كان الرسول يُرسَل إلى قومه خاصّة، وأٌرسل – صلى الله عليه وسلم- للناس عامة، وكان كلّ رسول يبشّر بنبيّ يأتي من بعده، ولم يكن بعد محمد – صلى الله عليه و سلم- نبيّ. فالدعوة الإسلاميّة تعمّ الأمكنة والأزمنة، وهذا يتطلب معجزة من نوع خاصّ، فكانت تلك المعجزة هي القرآن الكريم.
طرح المعتزلة هذا السؤال أوّلاً، وللأسف فإنهم وقعوا في تعليل عليل، وأجابوا بجواب سقيم، فقد ذهبوا إلى مذهب سمّوه بـ “الصرفة” بمعنى أن الله –عز و جلّ- قد صرف العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة عن محاولة الإتيان بمثل هذا القرآن. ثم جاء الإمام عبد القاهر الجرجاني بنظريّة النظم، وألّف كتابه “دلائل الإعجاز” ومفاد نظريّة الجرجاني أنّ القرآن معجز بتراكيبه وترتيب كلماته ورصفها بجانب بعض، وللتوضيح أضرب لك مثالاً: قال تعالى: “واشتعل الرأس شيباً”، بإمكان أن تحسّ بجمال التعبير والوصف، بإمكانك أن تتخيّل سرعة انتشار النار في الهشيم، هكذا بالضبط كان ينتشر الشيب في رأس زكريّا عليه السلام. ماذا لو قيل: اشتعل شيب الرأس. ألا تشعر أن التركيب قد فقد جماله ورونقه وبهاءه؟! هذا بالضبط هو “إعجاز النظم” وهو الذي غدا مقدّمة للدراسات الأسلوبية المعاصرة.
الكشوف العلمية المعاصرة تتحدث عن مسائل أخبر عنها القرآن الكريم منذ ألف وأربعمائة عام، وقد تحدّث مدوّنو الجزيرة عنها بإسهاب وتفصيل ماتع نافع، ولعل أشهرها: علم الأجنّة ومراحل تشكل الجنين، والجبال التي تشكّل الأوتاد التي تثبت طبقات القشرة الأرضية وتمنعها من الانزلاق، وضيق التنفس الذي يحدث نتيجة الارتقاء في السماء حيث ينخفض الأكسجين وينخفض الضغط الجوي، واهتزاز التربة عند إنبات البذور، وغيرها ممّا يذكره الإعجازيون مفصّلة.
يبدو أن شغف بعض المشتغلين بالإعجاز العلمي وبالأبحاث المعاصرة قد دفعهم إلى تقويل القرآن ما لم يقل، لا لشيء سوى لإثبات نظرية أو فرضية أو قضيّة، وبالمثال يتضح المقصود. يذكر الدكتور الفيزيائي علي منصور الكيالي في قوله تعالى: “يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة”، أنّ قذيفة سترتطم بالأرض ممّا يؤدي إلى دوران الكرّة الأرضية بالاتجاه المعاكس فتشرق الشمس من مغربها وتقوم الساعة! هذا الكلام لا يوافق عليه عالم فيزياء ولا عالم دين، بل إنّه تقويل للنص ما لم يقله.
ومن المغالطات أيضاً أن أولئك الإعجازيون يقرؤون الحقائق العلمية، ثم يتوهّمون أن آيات القرآن ذكرت تلك الحقيقة، ومن أمثلة ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: “وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب …” فهم يزعمون أن الآية تدلّ على دوران الأرض، وهذا لم يقل به أحد من المفسّرين، والسياق التي وردت فيه يدلّ بشكل واضح أن الجبال تمرّ مرّ السحاب يوم القيامة، فالآية التي قبلها: “ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن الأرض إلا من شاء الله وكلٌ أتوه داخرين، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب”.
وإذا شئت أن تذهل أيضاً فانظر في أولئك الذين يعدّون الحروف والكلمات ليقولوا لك إن القرآن تحدّث عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بل الأغرب هم أولئك الذين يستخرجون من الأغذية التي وردت في القرآن الوصفات العلاجية ثم ينسبونها للقرآن، نسأل أولئكم سؤالاً، هل أنتم تخدمون الدين بتلك التفاسير؟ وهل هذا مراد الله جلّ وعلا من كلامه؟ ختاما لقد صرنا في زمان يتكلّم فيه المشايخ باختصاص علماء الفيزياء والطب والجيولوجية، وصرنا في زمن يتكلّم أصحاب كل الاختصاصات بالدين، والله المستعان.
(المصدر: مدونات الجزيرة)