مقالاتمقالات المنتدى

إعادة تعريف القرآن

إعادة تعريف القرآن

 

بقلم الخضر سالم بن حليس (خاص بالمنتدى)

 

تأتي أهمية التعريف بالقرآن الكريم وموضعته في حياتنا في الموضع الذي أراد الله تعالى له أن يكون، من أهمية هذا الكتاب ومركزيته في صياغة الإنسان وتطويره.

فما أرهقتنا إلا التصورات الخطأ التي رُسمت في أذهاننا عن كثير من المفاهيم والمضامين والمصطلحات، وكل تصور يقود صاحبه ويحركه.

الأمة في قرنها الأخير أشد أمية للمفاهيم، وأشد تحجيمًا لها، وتضييقًا لفهمها، وقد وصف الله تعالى (أمية المفاهيم) التي تجتاح الأمم فتصيب تصوراتها في مقتل، فتحمل المنهج بين يديها ولكنها تخطئ في تصوره واستعماله، وتجعله بين تقزيم وتحجيم فقال:﴿وَمِنهُم أُمِّيّونَ لا يَعلَمونَ الكِتابَ إِلّا أَمانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] أي: إلا أغاليط. فالأماني هي التقديرات النفسية التي يحسبها صاحبها حقًا وهي باطل، يحسبها صدقًا وهي كذب. فهي أمية سراب العلم، يحمله ولا يفهمه، يحفظه ولا يعقله، يزهو به وهو عنه ضال.

مشكلتنا الكبرى هي مشكلة التصور الذي نحمله عن هذا القرآن، تصورٌ ضيّق محدود، واعتقاٌد مؤطر سقيم، فبقي القرآن حبيس تلك الأفهام التي جعلته رمزًا للبركة، والرقية، والحفظ فحسب، جعلته شعارًا لمناسباتها الحزينة، ورمزًا لمراسمها الأليمة.

بيد أن حاجتنا ماسة اليوم لإعادة تعريف القرآن الكريم، وتصور مركزيتِه، وموضَعتَه في الموضع الذي به يليق.

دعوا التعريف الاصطلاحي المؤطر للقرآن الكريم، فهو لا يقدم شيئًا في فهم مقصودية القران الكريم وطبيعة فعله النشط في الحياة.

القرآن الكريم كما تحدث عن نفسه هو كلمة الله الأخيرة للبشرية في كوكب الأرض، جاء لهداية الإنسانية التائهة في تضاريسِ الأرض المظلمة.

وصفه الله تعالى بأنه دليل الهداية، ومرشد الإنسان، وموضح الطريق وراسم معالمه وملامحه فقال: ﴿قَد جاءَكُم مِنَ اللَّهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ يَهدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ بِإِذنِهِ وَيَهديهِم إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ [المائدة: 15-16].

هو بصائر للمبصرين ﴿قَد جاءَكُم بَصائِرُ مِن رَبِّكُم فَمَن أَبصَرَ فَلِنَفسِهِ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيها﴾ [الأنعام: 104].

هو مصدر الهداية القويمة للإنسانية ﴿إِنَّ هذَا القُرآنَ يَهدي لِلَّتي هِيَ أَقوَمُ﴾ [الإسراء:9] أقوم سياسيًا، أقوم اجتماعيًا، أقوم حضاريًا، أقوم تعليميًا، أقوم جسميًا وروحيًا، أقوم حياتيًا.

القرآن الكريم عنوان الهيمنة الإلهية على الكون والحياة، فهو المهيمن على الحياة بكامل تفاصيلها، فكما هيمن على تفاصيل مفردات الكتب التي سبقته، ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ﴾ [المائدة: 48] فلا بد أن يهيمن على كل علم، وعلى كل كتاب، وعلى كل معرفة، وعلى كل فكر، وعلى كل تعليم. لابد أن يهيمن على المناهج السابقة واللاحقة، وبدون هيمنة القرآن الكريم سنكون ضحايا لهيمنات أخرى. علينا أن نعي ذلك جيدًا وندركَه.

نحتاج إلى الحديث عن القرآن الكريم بوصفه منقذًا ﴿وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها﴾ [آل عمران: 103] فالقرآن خطة إنقاذ إلهي، لانتشال الإنسان من شفير المهلكة الأبدية.

نحتاج إلى القرآن الكريم بوصفه مصدر إحياء ﴿استَجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم﴾ [الأنفال:24] الاستجابة طريق الحياة.

وبحسب صاحب “دور القرآن في بناء الإنسان” فقد كان القرآن حين تنزله يخلصنا من بعد المسافات عن اللحاق بتبة الشهود الحضاري، ويسحب لنا منصة القيادة، ويقربنا على خط الصنعة الحضارية وسيادة الكوكب بالتوحيد وإعماره بتزكية الإنسانية، ويعلن أن بين زمن الموت وزمن الحياة فقط هي مسافة فقه القرآن ومعرفة أسراره.

كان يغلق صفحة العزلة الحضارية، ويفتح لنا عواصم الشهود التاريخي ويزرعنا على تربة الخرائط العالمية دون رحيل.

لقد كان القرآن مع كل تنزل يخيط للامة أثوابها الجديدة وينسج لها أرواحًا من نور، كان ينزع عنا ألبسة الجاهلية الأولى مع كل سورة تتنزل.

نحن حضارة صنعها القرآن وشكل تصوراتها، واسترداد الظاهرة الحضارية مرهون بالعودة لهذا القرآن.

القرآن الكريم بمثابة الكتالوج الذي يشرح للإنسان كيف يعيش؟ كيف يتهذب؟ كيف يخرج من مادته الوحشية الخام إلى مادة سوية مهذبة.

القرآن الكريم دليل (هداية) وخارطة إرشاد، ويجب أن نتعامل معه على هذا الأساس وأن نفتش فيه عن كل ما يحقق لنا الهداية في دهاليز الأرض المظلمة، ونكتشف فيه عما يبصرنا من أين نبدأ وكيف نسير. ﴿لَقَد أَنزَلنا إِلَيكُم كِتابًا فيهِ ذِكرُكُم﴾ [الأنبياء10] فيه مفردات حضارتكم، فيه خرائط وجهتكم، فيه مسارات قيادتكم، فيه استراتيجيات رؤيتكم، فيه كشوفاتُ أعدائكم وحلفائكم، فيه عزتكم وشموخكم. أفلا تعقلون!!

فشلت كلُ الكتب الارضية في إصلاح الانسان، وتحقيق سعادته، كتب فلاسفة اليونان، نظريات القرن التاسع عشر، مدونات المفكرين الأوروبيين، كتاب ميكافيلي، كتاب دارون، كتاب نيتشه، كتاب فرويد، كتاب ماركس، تلك المفاهيم والأفكار التي شكلت حياة الإنسان الغربي فأنتجت أسوأ إنسان عرفته البشرية وحشية وجشعًا وانحطاطًا، وصدامًا للفطرة السوية.

فتفهموا ماذا يريد منكم القرآن؟ ما المقاصد والأهداف التي جاء لتحقيقها؟ وسّعوا النظرة الكلية لفهم هذا القرآن إن أردتهم الاستفادة القصوى مما يحمله من تعاليم ومفاهيم، وتوجيهات مرسلة من الله إليكم.

أحضروا القرآن في شهر القرآن على طاولة استقرائية استنباطية فكرية تدبرية برؤية ثاقبة وفهم سليم، واستيعاب متعطش لكلام الله الحكيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى