مقالاتمقالات المنتدى

إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري | الجزء الثاني “مفهوم الشهود الحضاري في هبوطه حتى عصر الغزالي”

إعادة بناء مفهوم الشهود الحضاري | الجزء الثاني “مفهوم الشهود الحضاري في هبوطه حتى عصر الغزالي”

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

كما حاولنا أن نبين في الفصل السابق، ولد المجتمع الإسلامي الأول،  قوياً متماسكاً، عارفاً بزمانه ومكانه ، مدركاً لوظيفته الحضارية بين أبناء آدم، عبر مفهوم الشهود الحضاري-الذي إن لم يكن حاضراً على صيغة المفهوم اللغوي،  إلا إنه كان واضحاً على مستوى النص القرآني والفهم والتطبيق العملي-من خلال صيغة الإخراج للناس التي نص عليها القرآن “كنتم خير أمة” التي جعلتهم يفهمون أنهم مبتعثون لغاية ومهمة سامية تتعلق بالتوحيد الصافي من جهة، وتوفير متطلباته المتمثلة في الكرامة والحرية والأمن لجميع أبناء آدم من خلال العمران الحضاري من ناحية أخرى.

فقد استطاع النظام الإسلامي تحقيق شهوده الحضاري من خلال عمليات متراكبة ومتعددة، تمثلت في تحقيق وحدة الأمة وتماسكها واعتصامها بحبل الله المتين، والبعد عن التفرق المذموم في داخله. فتحققت السكينة المجتمعية وقويت شبكة علاقاته الداخلية، فصار عصياً على الاختراق من  داخله أو خارجه مادياً أو معنوياً، فتحققت فيه الخيرية التي جعلت كل واحد منهم أخاً للثاني، وصار يسعى بذمتهم أدناهم، ولا تستطيع أن تفرق بين رئيسهم ومرؤوسهم.

فانتبه هذا المجتمع لمهامه العالمية، من خلال بعث الرسل ومعهم الكتب لحكام وقادة زمانهم الأقربين والأبعدين، يدعونهم للدخول في دين الله، وابتدأت عمليات الفتح لتبليغ الخير للعالمين، ليتحقق شقي عملية الشهود الحضاري ويكتمل المفهوم واقعاً بعد أن اكتمل نظرياً.

فمع وفاة النبي-صلى الله عليه وسلم-، وتوسع الفتوحات، استمر الخلفاء الثلاثة في بث الدين ومعارفه، وكان من أهم مظاهر الشهود الحضاري الحاضرة بقوة إرساء العدل والحرية وسائر القيم المؤدية للتحقق بمعنى الشهود الحضاري داخل الأمة، والتي أخرجت جيل الفتح الأول الذي سعى لتقرير حرية الاعتقاد في البلدان المفتوحة ونشر العدل.

وقد ورث مجتمع الراشدين، من مجتمع مدينة رسول الله بعد وفاته، حمولة ثمينة من العلاقة المتينة بين المجتمع والدولة، وحاول تطبيقها بقدر ما أوتي من إيمان وقدرة وإمكانات، مع تفاوت في مقدار النجاح بين خليفة وآخر. وكانت مؤسسات الأمة، تنمو في اتجاه السليم والمتطور نحو علاقة قوية صحية بين المجتمع وسلطته من ناحية، وبين أبناء الأمة من ناحية أخرى، وكانت هناك شبكة من التفاعلات غير الرسمية والرسمية تجري بين أبناء مجتمع المدينة ومؤسساتهم.

إلا أن عوداي الانحراف، التي ألمت بمؤسسة الحكم، في زمن ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، كانت بالمرصاد لنهوض مؤسسات المجتمع في مجتمعاتنا الإسلامية على الوجه المنشود، حتى حرفتها عن مهامها وجوهرها، بتولي معاوية الحكم، وانقلاب الخلافة ملكاً عضوضاً.

ولم تلبث التجربة الوليدة، أن واجهت أعاصير متتالية ضربت الكيان الوليد والتجربة الفريدة، وأدت إلى تراجع المفهوم خطوة وراء الأخرى حتى غام تماماً في مطلع القرن السادس عند وفاة الإمام الغزالي حيث تنتهي الفترة المدروسة في البحث. ونحاول في الصفحات التالية تتبع أسباب ذلك باختصار.

 

 

1-زمن الفتنة الأولى

مع زمن الفتنة الأولى، في منتصف عصر سيدنا عثمان رضي الله عنه، وحتى استشهاد سيدنا علي رضي الله عنه وتنازل الحسن ابنه عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. اضطربت الأمور كثيراً في المجتمع الإسلامي، نتيجة عوامل عديدة طرأت على هذا المجتمع. فقد بدأت تظهر بوادر خلل في القيم في قمة السلطة المحيطة بالخليفة متمثلة في حاشيته المقربين من أهله، بالإضافة لحالة اليسر المادي التي بدأ المجتمع ينعم بها بعدما زادت الفتوحات ومعها غنائمها، في ذات الوقت الذي دخل فيه الإسلام أعداد كبيرة من بلدان مختلفة في مصر وسوريا وفلسطين والعراق، كانوا بمقاييس القيم النفسية والاجتماعية، يأتون من نماذج دينية وثقافية مباينة للنموذج الإسلامي.

وبدأت قدرة مؤسسات الأمة على تلبية الاحتياجات الروحية التي وفرتها للجيل الأول من الصحابة التي بدورها تعمل على تنظيم الغرائز في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة تقل، حتى بدأت في منحناه الهابط السريع مع تكون الدولة الأموية التي قامت على أنقاض مؤسسات دولة الخلافة الراشدة.

أولاً: الصراع السياسي

مثلت الدولة الأموية، بدايات التحول في النموذج الإسلامي من الشهود الحضاري الكامل داخل الأم وخارجها إلى نموذج شائه للفكرة حاول أن يختزلها في بضع جوانب فردية داخل المجتمع لا تمس علاقات السلطة والاجتماع والاقتصاد الحافظة لكيان الأمة والمميزة لها في الداخل، بعد مصادرة الشهود على العالمين لصالح الدولة من خلال جيوش الغزو التي صارت تحت تصرف الحكام الجدد.

كما أن نشوء الانقسام في الأمة بسبب الخلاف بين الإمام علي رضي الله عنه ومعاوية، قد أدى إلى نشوء الشيعة وبرزت في مواجهتها أهل السنة والجماعة، ومع استمرار الانقسام داخل الفرقة السنية بين الحكام ومن يعارضونهم كما يبين تاريخنا. ثم ختم ذلك بنشوء المذاهب الفقهية، التي ما لبثت أن تصارعت فيما بينها. فتعمقت الهوة واتسعت الفجوة بين الفِرق، وتمزقت وحدة الأمة، وتعرضت للانهيار عدة مرات ليس آخرها هذا الانهيار الخطير الذي نعانيه.

وهي جميعها أسباب أسهمت في تغييب مفهوم الشهود الحضاري، الحافظ لشبكة علاقات المجتمع الحافظة لتماسكه،، والتي خلقت الأمة المسلمة والحضارة المسلمة، والتي أهلتها للقيام بمهام شهوده الحضاري على أتم وجه وأكمله. وكان التخلي عنه، هو ما تسبب في التراجع الحضاري السريع، حتى عادت عصبية من جديد، بعد أربعين عاماً من الكفاح للقضاء عليها.

ثانياً: الأعداد الغفيرة من مشارب مختلفة التي دخلت في الدين

فقد دخل في الإسلام، خلال تلك الفترة ملايين من البشر مختلفي التوجهات والمشارب والعقائد والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية، ولم تستطع مؤسسات الأمة أن تستوعبهم جميعاً. فقد سيق أناس من مشارب فكرية مختلفة، وبنى اجتماعية متباينة إلى المشاركة معاً، في بناء المجتمعات الإسلامية بعد الفتوحات، دون تآلف حقيقي بينهم.

فلم تتعرض أي من ثقافات هؤلاء، لأي تغيير حقيقي يؤهلها للمشاركة في بناء عالم مشترك، مما أدى إلى بدايات خلل في الجهاز المفاهيمي الذي شكل عقول وقلوب الصحابة وخلل في شبكة العلاقات الاجتماعية التي حملت المجتمع الإسلامي إلى آفاق تطوره ونموه وتوسعه التي وصل إليها. وقد أدى ذلك، إلى إفشال عملية التطور الصاعد التي كان من الطبيعي أن يصلها هذا المجتمع وعالمه الإنساني الذي ينضم إليه كل لحظة جديدة.

ومع اختلاط ثقافات هؤلاء بثقافة المسلمين، بدأت عملية الانقسام الثقافي في الأمة  فتفرقت نخبها وتشرذمت وانقسمت إلى فرق ومذاهب. ومع ارتفاع منسوب العنف الناتج عن الصراع على السلطة، واتساع دائرة الصراع داخل الساحة الفكرية، ظهرت تحولات سلبية عميقة في صلب المجتمع المسلم، طالت: الأفكار والأهداف، والهياكل والتنظيمات، ونسق العلاقات مع الدولة من جهة، وبنية وتركيب القوى الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى، بل إن تلك التغيرات السلبية، طالت مكونات المجتمع المسلم الواحد، والبنية الاجتماعية التي تستند إليها تلك المجتمعات.

وتٌرك بناء وتكوين الإنسان المسلم -من خلال مفهوم الشهود الحضاري-، إلى نفسه في ظل انشغاله بمعاشه اليومي، وغيابه شبه الكامل عن التواصل مع تلك المؤسسات، المتمركزة في غالبها في المدن الحضرية، دون الريف والبوادي حيث كان يقطن غالب أبناء المجتمعات المسلمة من الفقراء والأميين. وحتى على  مستوى المدن الحضرية، التي تتركز فيها تلك المؤسسات، نجد غياب التنسيق فيما بينها، فغالبها لا تهتم إلا بتابعيها ومنسوبيها، وتركز غالب إنتاجها في ردود على الفرق الأخرى، ونسي بناء المسلم تماماً. وفقدت تلك المؤسسات، دورها بين القواعد الشعبية، بالإضافة إلى فقدانها ميزة  العمل التشاركي مع بعضها البعض، التي كان من الممكن أن تكون سبباً في الحفاظ على المفهوم من التدهور في قلوب وعقول المسلمين من كل الطبقات داخل المجتمع.

فلم تدرك مؤسسات الأمة، في تلك الأزمنة، أن محاولة بناء مجتمع مسلم حقيقي، لابد وأن تتأسس معه ثقافة حديثة تجدد وتطور وعى الأفراد وفق عملية ممنهجة. ولم تدرك كم الاختلافات في النشأة، والتطور السياسي، وطبيعة التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل مجتمع مسلم، فلم تنجح في مخاطبة كل هذه المجتمعات بما يناسب أحوالها وبالمشترك الذي يجمع بينها وبناء رؤية إسلامية متكاملة للفعل والشهود الحضاري. وصار الإنسان المسلم، مشغولاً إما بالتجنيد العسكري، أو بأسعار حاجياته اليومية ولا يعنيه غير نفسه وأهله وخاصة نفسه.

ثالثاً: سيادة الفقه الأصغر

لعب الفقهاء دوراً سلبياً في الحفاظ على المفهوم، فقد غلب على كتب الفقه غياب المفهوم لأسباب كثيرة متعلقة بالوضع السياسي والفكري. وغاب عنها الحديث عن دور المسلم في العالم كما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الراشدين. وتناسوا تماماً دور مؤسسات الأمة المنتجة للإنسان المستخلف المؤتمن، والقادرة على اختيار الحاكم الصالح ومنع الاستبداد[1].

‏‏وعلى الرغم، من أننا لا نعدم في كتابات التراث، الكثير من التنبيهات، على أهمية دور الأمة وضرورة إفساح المجال لمؤسساتها لتقوم بواجباتها دون تدخل السلطة لإعاقتها، وما للتأثير الذي يحدثه الاستبداد على أحوال العمران والاجتماع،، وما يؤدي إليه‏ “الجور” من إفساد لضمائر الخلق[2]، وإبعادهم عن المشاركة في هموم المجتمع وحمل تبعاته التي هي من أهم سمات المسلم، ‏إلا أن تلك الكتابات كانت من باب النصيحة، ولم تكن هماً شاغلاً لهم ولا للحكام ولا لغالبية أبناء المجتمع الغارقين في النظرة المنحرفة لعلاقة الأمة بالدولة ودور المسلم في المجتمع، فلم تأخذ حظها من الاهتمام والتأصيل، لمفهوم الشهود الحضاري، ولتكوين مؤسسات الأمة الحاملة له.

وعلى الرغم من أن كثيراً من فلاسفة الإسلام،  تحدثوا كما تحدث أفلاطون وأرسطو عن مدينتهم الفاضلة، وحاولوا البحث عن تلك المدينة الضائعة بعد انتهاء الخلافة، وبحثوا عن أفضل صيغة لمجتمعاتهم، فحاول الفارابي وابن خلدون، الحديث عن «المدينة الفاضلة» وسماتها المدنية، والتمييز بين السياسة المدنية والسياسة الحكومية، إلا أن العيب الخطير هو تجاهلهم للتجربة النبوية بسبب غياب مفهوم الشهود الحضاري عن تفكيرهم. وبالجملة،  تركز الاهتمام على الفقه الفردي وتم تناسي الفقه الأكبر المتعلق بدور المسلم ورسالته في الحياة داخل وخارج أمته.

ومن هنا، ضمر الحديث عن مفهوم الشهود الحضاري، ومؤسساته العاملة لتحقيق مجتمع الرسالة والشهود الحضاري، واختفت-إلا قليلاً وفي مجالات محددة- تلك الطائفة من الأمة القائمة بأمر الله، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس[3] .

وكان من أهم الآثار الفكرية والسلوكية التي حدثت بتأثير الموقف الفقهي المبتسر في عقل الأمة ونفسيتها، ترسخ “الفردية” و”الاستعداد لقبول الاستبداد” و”الاستعداد للاختلاف والفرقة والتشرذم” و”قلة الاهتمام بالبعد الشهودي الحضاري الرسالي” للإنسان المسلم داخل أمته وفي العالم، والتي كانت تعني في المقام الأخير تجميد مفهوم الشهود الحضاري بين دفتي المصحف لحين مجيء الخلف الصالح القادر على تمثله وتحقيقه واقعاً من جديد.

لقد اختلطت الممارسات المشوهة بالنصوص المنتحلة، وامتهن الفقه من ليسوا بفقهاء، وتصدى للوعظ غير المؤهلين، وعم الخلط جميع الأطراف؛ بما في ذلك علماء مجتهدون انتهى بهم موقفهم إلى الدفاع عما حسبوه “المسلم النموذجي” البعيد كل البعد عن مسلم “الشهود الحضاري” الذي ولد في مكة واكتمل نموه في المدينة.

رابعاً: الهجمات الخارجية

والتي أدت إلى انشغال الأمة بصد الهجوم عليها، وأسهمت في انشغال حكام وفقهاء الأمة في صدها، وما تخلل ذلك من ترتيب جديد لأولويات التعليم والتربية والبحث العلمي ووجوه الإنفاق لمصارف تتعلق بالدفاع بدلاً من البناء والتمكين لمفاهيم الشهود، في زمن صارت الأمة مشهودة ومهددة في صميم وجودها. ووجدت الأمة نفسها فريسة للصراع السياسي الداخلي من ناحية والغزو الخارجي من ناحية أخرى ونفد رصيد الأمة الحضاري وفرغت خزانة اجتماعها من المسلمين الحقيقيين، المتلبسين بالوعي القادر على حمل السلطة على الاعتدال على الجادة عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد العدوان وتحقيق الشهود .

خامساً: انحراف مفهوم الجهاد

حيث صار غزواً بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي أكثر منه غزو للقلوب والعقول لتحريرها مما ران عليها من شوائب كسب الإنسان التي باعدت بينه وبين التوحيد الحق والاستخلاف المطلوب من الإنسان.

سادساً: الجدل الكلامي

حيث بدأت تغلب على المجتمع المسلم فلسفات وأفكار ومعتقدات الأمم التي فتحها الإسلام بالقرآن. وبدأت تلك الأفكار تزاحم القرآن والسنة وتجادلهما، وتأخذ مساحة كبيرة في عقول وقلوب كثير من المسلمين-خاصة الفلسفة والتصوف والغنوصية والعقائد الباطنية، وبدأت تروج بين عامتهم من خلال جدالات النخبة حولها، مما أسهم في تغييب المفهوم.

وأدى تبني بعض هذه المفاهيم، مثل: التصوف، والعرفان، والفلسفة، والجدل، والمنطق، والافتتان بها بالإضافة للأفكار التي أذهبت بهاء الفكرة القرآنية مثل: الجبر، وخلق القرآن، إلى اتخاذ مواقف سلبية من الدين والحياة.  وقد أدى هذا الوضع إلى أن يكون” الشهود الحضاري” خارج المجال اليومي للحياة ، أي خارج الممارسة في الواقع.

2-غياب مؤسسات الأمة الفاعلة

عندما بدأت المعادلة بين المجتمع والسلطة السياسية في الاختلال، بفعل العوامل السابقة، تنحت أو نحيت قسراً، مؤسسات المجتمع الإسلامي، عن دورها في تأهيل الأجيال وتعليمهم وتثقيفهم لتفعيل دورهم في المجتمع، وبدأت مؤسسات المجتمع المسلم تذوي الواحدة بعد الأخرى، وما بقي منها ابتعد كثيراً عن جوهر الرؤية الإسلامية للعملية السياسية ومكوناتها من أفراد وجماعات ومؤسسات وقيم وآليات، واستمر التراجع حتى وصلت أمتنا إلى ما هي عليه اليوم من غيابها الحضاري بعد شهود. وكان هذا الانحراف، الذي غيب مؤسسات، وحرف أخرى عن مجالات وجوهر عملها ووجودها، السبب الرئيسي في إدخال الأمة بمجتمعاتها المتنوعة، في حالة مرحلة القصعة والمشهودية بعد الشهود الحضاري.

وبغياب تلك المؤسسات أو تغييبها عن دورها، غاب النفر من كل طائفة،” فلوْلا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين و لِينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون”[4]. واختفت تلك الأمة، منا، التي تدعو للخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتديم على المجتمع فلاحه:”  منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”[5]، فانتفت عن الأمة خيريتها، بغياب وتغييب مؤسساتها الحافظة لاجتماعها الإنساني ولدورها في الأرض، وغاب شهودها الحضاري عن العالمين، لتصبح محتلة مشهودة تتداعى على قصعتها كل الأمم منذ قرون.

ولم يعد الشهود الحضاري في قلب كل عمل أو فكر أو مؤسسة تحمل المجتمع الإسلامي، وتم تفريغ كل الأعمال والمؤسسات من روحها الذي يعطيها كمالها وتمامها، فلم تعد السياسة رعاية للجماعة ومصالحها، وهي باعثها ومقصدها، من جميع أبناء الأمة وعبر مؤسساتها، ولكن انقلب فقه السياسة، ودار في فلك الحكم، ولم يتنبه كثيراً للمؤسسات المعادلة له كما في التجربة النبوية وصدر الخلافة. وغابت مؤسسات العشرة، والسبعين، والنقباء الإثنا عشر ورؤساء القبائل، ومجلس الشورى الجامع في المسجد، حيث تبت أمور المسلمين بشراكة كاملة بين المجتمع وسلطته، وغاب حضور المسلمين في عالمهم بدأت مرحلة غزوهم من أعدائهم، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من ضمور لمفهوم الشهود الحضاري في أبعاده الشاملة التي جاء بها القرآن وجسدها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار.

ومع فقد مفهوم الشهود الحضاري قوة دافعيته في الداخل الإسلامي، تراجعت الأمة. إذ لا يمكن لأي مشروع بشري قائم على فكرة دينية عالمية، أن يستمر في تطوره الصاعد نحو الشهود الحضاري-كما كان متوقعاً للمشروع الإسلامي-، وأن يحقق مسعاه، عندما بدأت الرؤية الكونية التي تحدد مقاصده الكبرى وترسم خطاه المرحلية وتضبط وسائله في التراجع لصالح  رؤية خالفة بالتدريج حتى وصلت الأمة إلى القرن الخامس الهجري الذي عاش فيه الغزالي.

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني

مفهوم الشهود الحضاري في عصر الغزالي

1-عصر الغزالي

في هذا العصر اكتملت دورة مفهوم الشهود الحضاري، وصار غريباً عن بداياته الأولى التي تمثلت في بناء الأمة الخيرة، المخرجة للشهادة على العالمين رحمة بهم وعدلاً وإحساناً لهم. وبعد أن كان المفهوم، مفهوماً مركزياً في حضارتنا الإسلامية، تتوقف عليه صور مستقبلنا القريب والبعيد، صار شيئاً آخر لا يمت بصلة لبداياته، لا يعدو أن يكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر في أطر محدودة بحدود ما تسمح به سلطات غاصبة وفقه فردي ومجتمعات غابت عن مهامها وانغمست في شئونها الخاصة.

فقد تميز هذا العصر، بأنه يعبر أفضل تعبير عما آل إليه مفهوم الشهود الحضاري من تدهور، فقد كان، كما يقول العلامة محمد الصادق عرجون:” أشبه بمحيط يموج بشتى تيارات الأفكار والعلم والمعارف، والفلسفات والعقائد والمذاهب والنحل، وتندفع إلى خضمه من جميع جوانبه روافد من التراث الفكري لتصب فيه عصارة الفكر الإنساني في مدى قرون من الماضي السحيق منذ كان للعقل البشري سلطان النظر في الكون وتعمق أسرار الوجود.

فقد انتهت إليه صفوة الدراسات الإسلامية في القرآن العظيم وتفسيره وقراءاته ولغته وألفاظه، وأسلوبه، وبلاغته، ونظمه ووجوه إعجازه، وسائر علومه وفنونه. كما انتهت إليه خلاصة الدراسات الإسلامية في السنة النبوية دراية ورواية ونقلاً وتمحيصاً وفهماً وتفقهاً وتدويناً. واختلاف أنظار العلماء في استنباط الأحكام ومواقع الاجتهاد من أصولها.

كما وصلت إليه آثار الصحابة. وآثار تلاميذهم من أئمة التابعين علماً وعملاً، وآثار من جاء بعدهم من أئمة العلم وطرائقهم في استنباط الأحكام للحوادث التي جدت، وغمرت الحياة بكثرتها في الفتوحات التي كانت بوتقة انصهرت فيها عملية امتزاج الأمم والشعوب التي استظلت على أيدي الفاتحين بظل الإسلام ودخلت في ساحته مؤمنة صادقة الإيمان أو مسالمة تتربص لتعرف موقفها من الأحداث المفاجئة وموقفها من هذا الدين الجديد الذي غير معالم الحياة، وفتح لهم منافذ الهدايا ودعاهم إلى معرفة حقيقة إنسانيتهم، ودعاهم إلى التحرر الفكري ليتخلصوا من عبودية العقائد والأفكار الموروثة، ويعيشوا عيشة إنسانية كريمة”[6].

كما أن عصر أبي حامد-إلى جانب ذلك-كان “عصر تلقى مع هذه الدراسات الإسلامية الواسعة لقاح حضارات الأمم ونتائج العقول، وثمرات الأفكار، وسبحات الأخيلة وإشراقات القلوب ماثلة في كلمات الزهاد وإشعاع الأرواح في إشارات الصوفية، ونزعات الإلحاد في فلتات الزندقة، وهدي الإيمان ونسك التعبد، وحيرة الشك وسفسطة المنطق، ومنطق الفلسفة في الجدل حول أصول الدين، وتفلسف العقيدة في عبارات المتكلمين، إلى جوانب أخرى زخرت بها الحياة الاجتماعية في محافل الخلافة والملك وأندية المترفين”[7].

كما كان هذا العصر، “عصراً منحل العرى السياسية، مضطرباً في نظمه الحكومية، متميعاً غير متماسك؛ تشعبت فيه الدولة الإسلامية الموحدة إلى دويلات هنا وهناك، اختلفت على نفسها، وجعل الله بأسهم بينهم، يحارب بعضهم بعضاً؛ لا تقوى أحداها إلا على حساب ضعف أختها، ولا تنهض منها دويلة إلى الأخذ بأسباب القوة والعزة إلا لتذل جارة لها تواخيها في ظلال الإسلام”[8]. حيث استولت فيه العناصر التركية على الحكم في بغداد، وأصبح السلاجقة أصحاب السلطة الفعلية فيها، كما هددت الإسماعيلية والباطنية الخلافة، واستشرى خطر القرامطة، وسقطت أنطاكية وبيت المقدس بأيدي الصليبيين، وقد كان الغزو الصليبي لأنطاكية سنة 491هـ ودخولهم القدس 495هـ وكان الغزالي لا يزال في عزلته إذ لم يفارقها إلا في سنة 499هـ.

وفي هذا العصر، انتشر مذهبان كبيران كان لهما دور كبير في النهضة الثقافية والعلمية. المذهب الحنبلي ومذهب الأشاعرة الشافعية ودخل أشياع هذين المذهبين في صراع مذهبي استنفد جهود الجميع في ميادين لا طائل تحتها، قسم الأمة إلى فرق متناحرة متنافرة، ودحر قضاياها الرئيسية إلى هوامش اهتمامات هذه المذاهب والفرق وقد تحول هذا الصراع المذهبي إلى فتنة دفعت الأمة ثمنها ضحايا بشرية كثيرة وخسراناً فكرياً وروحياً ومادياً كبيراً.

2-عصر الأزمة الشاملة للمفاهيم

عاش الإمام الغزالي-رحمه الله- في هذا العصر، عصر الأزمة الشاملة للأمة المسلمة-وهو يشبه في كثير من النواحي أزمة أمتنا في هذا العصر-، وهو ما يبدو واضحاً من خلال ما كتبه أبو حامد عنه، فهو يشكو من “شغور الزمان من العلماء ورثة الأنبياء، أدلة الطريق، فقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً، فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين مندرساً ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً. فأما علم طريق الآخرة، وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً فقد أصبح من بين الخلق مطوياً وصار نسياً منسياً”[9].

وكان الغزالي، يرى أمام عينيه دار الخلافة وعواصم الإسلام تموج بالمنكرات والمظالم، ويرى عرى الدين تنحل فيها عروة إثر عروة على مرأى ومسمع من الخلفاء والأمراء والحاكمين باسم الإسلام، ويرى العلماء على كثرتهم: خاصتهم مشغولون بأنفسهم؛ منطوون في المساجد والزوايا والمدارس؛ لا يغيرون منكراً، ولا يرفعون عن مظلوم ظلماً؛ ولا يدفعون باطلاً، ولا ينتصرون حقاً، وعامتهم منهمكون مع أهل الدنيا من الحاكمين والمحكومين، يلهثون وراء دنياهم؛ مما ارمض نفسه، ودفعه إلى أن يجهر بالحق في وجه الولاة والحاكمين وينعي على الفقهاء والمتكلمين والمحدثين موقفهم، وذلك كله مع استيفاء واجبه العلمي مع العلماء والمفكرين في حلبات البحث والمناظرة[10].

3-الغزالي ومفهوم الشهود الحضاري

ومن واقع خبرته الشخصية، في العمل العلمي: طلباً للعلم وتدريساً وتأليفاً، وتجربته الحياتية التي ذاق فيها طعم الفقر ومعاناته منذ الصغر، وتصدره لمجالس العلم شاباً واقترابه من أهل الحكم والسلطان ونمو جاهه ونفوذه ومكانته بينهم، واحتكاكه بأجيال مختلفة من عامة الأمة وعلماؤها وحكامها. ثم انتقاله من علوم الفقه والجدال الفلسفي والمذهبي والعقيدي مع مذاهب وأفكار وشخصيات عصره، إلى عالم التصوف وسياحته وعزلته وتنسكه وخبراته. كل ذلك جمع له خبرة عريضة بقضايا الأمة وهمومها، وتكونت لديه من خلاله رؤية لأسباب مشاكلها.

وأعتقد، عن يقين، أن جذر الخلل يقع في الوعي، وفي الثقافة التي تحمله وتغذيه والتي ساد فيها الفقه الظاهري والفلسفة والمذاهب الباطنية العدمية. ورأى أن الاندفاع للعمل السياسي أو العلمي، دون ثقافة إسلامية نقية وإخلاص لله في كل لحظة، يرفع وعي الإنسان المسلم بالتاريخ والحاضر واللحظة المعيشة، مدمر لكل جهد علمي أو سياسي، ويعد حرثاً في الماء، أو زراعة في الهواء، وقبض ريح لا تجني منه الأمة، سوى زيادة تراجعها على كافة المستويات.

ورأى أنه قد تكون لدى الإنسان المسلم، نظام خاص غير صحيح لإدراك الواقع، مؤسس على انطباعات ومشاعر ومعارف سطحية، لا تنتج وعياً حقيقياً، يرهن الإنسان المسلم، لأمور ولأشخاص وأفكار، تهدم قواعد اجتماعه، وأسس ثقافته ومنطلقات نهضته، لا يمكن السكوت عليها أو إهمالها. ومن ثم تسبب آثاراً مدمرة من جراء ممارساته الغير رشيدة.

لهذا، لا يمكن أن يكون الوثوب إلى السلطة وحده حلاً، ولا جهاد الصليبين له أولوية، ولكن الإصلاح المنشود يجب أن يبدأ بمعالجة أسباب الخلل المختلفة، التي أدت إلى تكرار الفشل، والتي تعود أولاً إلى غياب الإخلاص في الفكر والممارسة. فالخلل، يكمن في غياب أو تشوش الوعي والممارسة وأساليبها الخاطئة، وعدم اكتشاف صيغ جديدة للعمل الجماعي في إطار وحدة الأمة، وعدم الوعي على خصائص وطبائع الإنسان المسلم، لبث الوعي الجديد بداخله حسب قابلياته واستعداداته.

وكان ولابد من تغيير ذلك كله، وقد وجد في سلوك طريق التصوف ما يجلبه للقلب من طمأنينة وللعمل من الإخلاص هو السبيل للخروج من أسر علوم الظاهر التي طغت على العلماء، فأنتجت فقهاً ميتاً، لا يحيي قلباً ولا يصلح عملاً.

4-ما العمل؟

بعد عرف الغزالي أدواء المجتمع، ووضع يده على مواضع الضعف والفساد فيه، وكيف تغيرت المفاهيم وكيف تشاغل الناس وابتعدوا عن الحقائق والمقاصد حتى أصبح “المجتمع كله، إلا من عصم الله في شغل شاغل عن الآخرة وما ينفع فيها وما يلزم لها”. وأدرك، بعد طول درس وتجربة مثيرة بين أروقة الحكم وصحون المساجد ومدارس العلم، والتقلب بين الخيلاء العلم وتواضع التصوف، أن الإيمان-والتوحيد أهم دعائمه- من أهم وسائل إعادة بناء هذه الأمَّة وتوحيدها، وأنَّ “الفرديَّة قد صارت من الشيوع والانتشار بحيث صار البعض يعتبرها أصلًا، والانتماء إلى الأمَّة عرضًا، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صار مهجوراً.

كل ذلك، جعله يشرع في “مراجعة الأفكار والمعتقدات والتصورات التي تلقاها من مجتمعه المعاصر المليء بالمذاهب المتناحرة والفرق المختلف، خاصة بعد تحققه من الفرق بين “الإسلام” الذي فهمه، وبين مفهوم “الإسلام” الذي ورثه عن أبويه، أو أفرزته المذاهب والجماعات ورفعته إلى منزلة الإسلام وحجبت به الناس عن القرآن والسنة، وعطلت عقولهم عن الاجتهاد وعززت فيهم التقليد والتبعية المذهبية الحزبية”[11].

بعد أن أدرك هذا كله، وتمكنت من نفسه الرغبة في الإصلاح، قياماً بواجبه الإسلامي، وإصلاحاً لحال الأمة الذي رآه في خطر عظيم، شرع  الغزالي في بيان كيف يمكن تفعيل وتجديد الإيمان والتوحيد خاصّة في إعادة الوعي في الأمَّة وبها وضرورة إعادة بنائها، من خلال إعادة تجديد المفاهيم الإسلامية.

وكان كتاب “إحياء علم الدين”، الذي ألفه الغزالي -حسب رواية ابن الجوزي- في بداية انصرافه إلى العزلة، ليستعيد الإخلاص إلى القلوب، والتوحيد، هو الجامع لرؤية الغزالي. فقد حاول فيه وضع منطلقات جديدة لتنظيم المجتمع، عن طريق الإصلاح والعودة إلى أصول العقيدة الإسلامية، وتعديل سلوك الإنسان المسلم ليعود إلى إسلامه الصافي على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فتناول موضوعات نفسية واجتماعية، وأخلاقية وسياسية وتربوية يخطئ الإنسان الملم في التعامل معها، وأوضح كيفية تعديلها لتتناسب مع إيمانه الإسلامي. كما تناول وواجبات الإنسان المسلم تجاه نفسه ومجتمعه وغيرها من قضايا الإصلاح في الاجتماع والسياسة.

والأهم من ذلك أنه ضمن، كتابه ذاك، رؤيته لتجديد مفاهيم العلم والفقه والتربية وغيرها من المفاهيم الإسلامية في عصره، حتى تعود إلى سابق عهدها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو قريباً منها “إحياء لعلوم الدين وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين[12].

وكان مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يشغل الكتاب التاسع الذي يحتل الربع الثاني من ربع العادات في كتاب “إحياء علوم الدين”، من أهم مباحث الكتاب، من أهم المفاهيم التي قام الغزالي بتجديدها في حدود سياق زمانه وتجربته الإصلاحية، ليعود كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهوداً للمسلم على أمته وعالمه.

وهو يعد من أهم أبواب الكتاب، إن لم يكن أهمها على الإطلاق في زمانه، وكان له الأثر الكبير فيما بعد في الطريق الذي سلكه العلماء والزهاد والمجاهدين من بعده لاستعادة وعي الإنسان المسلم بدوره ووظيفته في الحياة، والتي تعبر بشكل غير مباشر عن مفهوم الشهود الحضاري. وهو ما أثمر فيما بعد تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي.

فقد بين الغزالي في هذا الكتاب، إن تراجع المسلمين وسوء أحوالهم تعود إلى  تقاعسهم وعجزهم عن حمل واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك ركز على ضرورة تطهير المجتمع الإسلامي من الأمراض التي كانت تفترسه من الداخل، وعلى ضرورة إعداد المسلمين لاستئناف حمل رسالة الإسلام حتى تبلغ الدعوة أقصى العالم وتتوطد دعائم الإيمان والسلام فيه[13].

5-في أسباب غياب المفهوم

يرجع الغزالي، أسباب غياب أو تغييب المفهوم عن حياة عامة الأمة وخاصتهم إلى تخاذل العلماء أو تحريفهم وطمعهم في الدنيا، وأنه السبب الرئيسي الذي ترد له باقي أسباب غيابه، يتمثل في أن “الأطماع قد قيدت ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر والله المستعان على كل حال”[14].

ويؤكد الغزالي، أن تفريط العلماء قد أثمر ثمرته المرة في المجتمع الإسلامي، وداخل كل طبقاته حكاما ومحكومين، فقراء وأغنياء، علماء وعامة، فذهب جوهر المفهوم، وانحرف عن وظيفته التي يؤديها في عقل وقلب المسلم وفي حياته اليومية. “إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه”[15].

وقد أرجع الغزالي ذلك إلى عدة أسباب:

1-استولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق.

2-واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال .

3- وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم.

6-ضرورة وأهمية إعادة بناء المفهوم

وفي ضوء كشفه عن تحريف المفهوم وأسباب ذلك، أدرك الغزالي ضرورة وأهمية إعادة بنائه ليستعيد جوهره ويؤدي وظيفته في حياة الإنسان المسلم على الوجه السليم كما أداه في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن القيام بذلك يعد إنجازاً لا يضاهيه إنجاز، أو بكلماته هو” فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلاً بعملها أو متقلدا لتنفيذها مجدداً لهذه السنة الداثرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في إحيائها كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها[16].

 

 

7-إعادة تعريف المفهوم

شرع الغزالي، في إعادة تعريف المفهوم، مستنداً إلى القرآن والسنة وتطبيقات الصحابة والتابعين له. وكان أول ما أنجزه الغزالي في عملية تجديد المفهوم، هو إخراجه من مجرد النهي عن بعض المنكرات العامة، أو الأمر ببعض الواجبات أو الندب لبعض المستحبات، إلى عودته إلى طبيعته ومجاله الأصلي وجوهره الرئيسي الذي كان عليه منذ بدأ الإسلام، باعتباره

1-“المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين”.

2-لأنه “القطب الاعظم في الدين”.

3-وأنه لو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد[17].

وهو هنا في إعادة تعريفه يضاهي مفهوم الشهود الحضاري كما تعرضه الدراسة دون أن يستخدم المفهوم باسمه الذي نعرفه به اليوم.

8-إعادة تشغيل المفهوم

ثم قام الغزالي، بإعادة جوهر وظيفة المفهوم في حياة الإنسان المسلم من خلال:

1-توسيع دوره في المجتمع:

ا- توسيع المفهوم ليشمل كل المنكرات العامة

فتحدث عن: منكرات المساجد، ومنكرات الأسواق، ومنكرات الشوارع، ومنكرات الحمامات، ومنكرات الضيافة، ومنكرات الإسراف في الطعام والبناء والمال والتجمل بالثياب والأطعمة، ودعا الناس غلى مقارنة هذه المنكرات بتلك التي تحدث في: المجامع، ومجالس القضاة، ودواوين السلاطين، ومدارس الفقهاء، ورباطات الصوفية، وخانات الأسواق، فلا تخلو بقعة عن منكر مكروه أو محذور[18].

ومن خلال إعادة صياغته للمفهوم، نجده يصحح أفهام المسلمين في زمانه فيما اعتراها من سوء فهم لمعنى حياتهم ودورهم فيها، وما فشا من استحباب العزلة واجتناب المجتمع، وما أدى إليه ذلك من تردي أحوال المجتمع. ومن ثم كان من أهم منجزاته، أن دعا كل مسلم للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( أو ما نسميه شهود مجتمعهم وأمتهم المسلمة)، فوجه حديثه لكل مسلم ومسلمة قائلاً:

“اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق”[19].

وأكد، على أن من الواجب” أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية”. وأوجب على “كل فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية، أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم”[20].

ونبه هؤلاء العلماء، إلى أمر خطير حتى يتم إثمار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو “التعفف عن أكل ما في أيدي هؤلاء”، حتى يعلموا من أين جاءوا به وكيف اكتسبوه، حيث فشى الحرام في زمانه، فكان من تمام تعليم الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون العلماء متعففين عن أكل ما فيه شبهة ليعلم الناس أي منكر وقعوا فيه، فتتكامل الموعظة مع السلوك فيقع الاقتداء التام على أكمل وجه كما كان في زمان رسول الله صلى اله عليه وسلم، فهو يوجه حديثه لمن يعلم الناس ذلك قائلا: “ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب”[21].

وهو، يؤكد على تحميل كل علماء عصره مسئولياتهم في ذلك، فيجعل هذا الأمر في رقابهم جميعاً، وأنه لا يحق لأحد أن يتهرب من واجبه أو يدعي أي عذر حتى يتأكد من قيام غيره به. ونحن، إن تفكرنا في ذلك، لوجدنا أن الغزالي قد حاول أن يجعل كل العلماء يخرجون عن عزلتهم، فالمجتمع قد وقع فيه من البلاء ما أدى لاقتراب سقوطه، فلا يجد عالم مفراً من الخوض في غمار مشاكل مجتمعه لأنها من الكثرة والناس في غفلة ما يجعل جهد الألف لا يكفي ليسقط واجب الفرد.

فهو يقول” فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين، أما العالم فلتقصيره في الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم”[22]

ثم ينتقل الغزالي بالمفهوم إلى القاعدة العريضة من أبناء المجتمع، ليردهم إلى الفهم الأول لمعنى المفهوم باعتبار كل مسلم راع ومسئول عن أمته، فيقول” وكل عامي عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالما بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم. فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها. وليس للإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي. كذا كل من تيقن أن في السوق منكرا يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت بل يلزمه الخروج فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح”[23].

ثم يعود ليؤكد على دور العلماء في ذلك، وأنهم أحق المسلمين بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الناس بهم مقتدون، فيقول “ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العلماء هم ورثة الأنبياء”[24].

ثم ختم كتابه، بإعادة معنى المفهوم في سعته، -وكما تتبنى الدراسة- شهود عصره وعالمه ومجتمعه، فيقول رحمه الله: “فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه ثم إلى أهل محلته ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادي المكتنف ببلده ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم وهكذا إلى أقصى العالم فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً. ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه، وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه”[25].

ويختم بالذكير بسيرة العلماء، حتى يقتدي بهم الجميع، قائلاً:”فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها”[26]

9-القواعد التي قام عليها منهج الغزالي في الإصلاح والتجديد ثلاث:

أشار الدكتور ماجد عرسان الكيلاني، إلى القواعد التي قام عليها منهج الغزالي في تجديد المفهوم، فحصرها في ثلاثة قواعد، هي:

القاعدة الأولى: إن الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله. وعندما تقاعس المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الارض بالفتنة والفساد البير وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا التقاعس. وترتبط القاعدة الثانية بالأولى ارتباطاً متلاحماً. فما دام المسلمون مسئولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم، وما داموا متقاعسين عن حمل هذه الرسالة، فإنه من الواجب أن يجري البحث عن أسباب هذا التقاعس من داخل المسلمين أنفسهم. كذلك جاءت القاعدة الثالثة مكملة للقاعدة الثانية. فما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب التقاعس، فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد توترات “سلبية” تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام[27].

10-خطوات تشغيل المفهوم في الواقع لدى الغزالي

ابتنى لنفسه مدرسة بجوار بيته وخانقاه للصوفية. استمر الغزالي يوزع أوقاته بين التعليم والتأليف والعبادة حتى وفاته 505ه/1111م[28]. وما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة، ومنفعة الطالبين[29]. وركز أهدافه لتحقيق أمرين اثنين:

الأول: إخراج جيل جديد من العلماء والقادة العاملين الذين تتوحد أفكارهم بدل أن تتنابذ، وتتكامل جهودهم بدل أن تتصارع، وتخلص غايتهم لله وبما يتفق مع الرسالة الإسلامية.

والهدف الثاني: هو التركيز على الأمراض الرئيسة التي تنخر في الأمة من الداخل بدل الاشتغال بالمضاعفات الناتجة عن هذه الأمراض ومنها الأخطار الخارجية.

11-مظاهر التجديد في إعادة بناء المفهوم

1- رتب بإحكام وبطريقة تختلف جذرياً عن المعالجات السابقة له[30]. فقد قسمه إلى أربعة أبواب:

الباب الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته والمذمة في إهماله وإضاعته ويدل على ذلك بعد

الباب الثاني في أركانه وشروطه

الباب الثالث في مجاريه وبيان المنكرات المألوفة في العادات

الباب الرابع في أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر

2-استند في بناء المفهوم إلى القرآن والسنة وإجماع الأمة وعصر الصحابة.

3-أوضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به.

4-بين أن الحسبة، هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5-أتاح له التخلي عن دروب علماء عصره المطروقة أن يعيد تنظير مبحث النهي عن المنكر بكامله ويخرجه في صيغة كان لها أثر واسع تجاوز حدود مدرسته الفقهية.

6-وسع دائرة الفقه فجعله يتعامل مع نصوص الإسلام كلها. ووضع منهجاً للتربية، يتعامل مع كيان الإنسان كله وتلك خطوة على طريق الإصلاح قل نظيرها استطاع أن يضيق شقة الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة، بل نستطيع القول بأنه جمع بطريقة مبتكرة بين الفقه والتصوف.

7-أعاد للفقه دوره قوله تعالى “ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”[31]. وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه. دون تفريعات الطلاق والعتاق، واللعان، والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب، وينزع الخشية منه، كما هو مشاهد الآن من المتجردين. ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن مناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع، فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر. ونعتقد أن تخصيص هذا اللفظ، وإزاحته من دائرته الواسعة إلى دائرة صغيرة هو الذي دعا الإمام الغزالي إلى عد “الفقه” من علوم الدنيا[32].

12-ثمار تشغيل المفهوم بعد الغزالي

لم تذهب جهود الغزالي سدى، فقد نجحت النقلة التي قلها للمفهوم الشهود الحضاري، كبيرة ومؤثرة فيمن جاء بعده من الأجيال المسلمة من العلماء وطلاب العلم وعامة الأمة وحكامها الذين وجودا ضرورة تجديد فهمهم لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من أهم تلك الثمار التي لم يشهدها الغزالي، وإن كانت شاهدة على دوره الرئيسي في إحداثها تحرير القدس في زمن صلاح الدين وتوحيد قسم كبير من الأمة تحت راية واحدة.

إن تجربة تحرير القدس، بقيادة صلاح الدين الأيوبي، تعد إحدى الوقائع التاريخية، الدالة على ما لترسخ المفهوم من دور كبير وخطير في إصلاح أحوال الأمة، ولإعداد المجتمع وتهيئته لقبول التغيير وتحمل تبعاته. فقد بدأت مرحلة تحرير القدس، من تحرير الإنسان المسلم، من كل ما كَبله، وأعاق سيره الصحيح نحو تقدمه. ومن ميدان القيم والمعتقدات والأفكار، بدأ تحرير القدس، عبر إخراج جيل جديد، من العلماء والقادة العاملين، الذين يركزون على تناول ومعالجة الأمراض الرئيسية، والتي تنخر في جسد الأمة، والاشتغال بقضايا وهموم المجتمع الواقعية، وذلك كله من خلال مؤسسات المجتمع.

فصلاح الدين، لم يكن في بدايته سوى خامة من خامات جيل جديد، مر في عملية تغيير، وعبر هذه المؤسسات من: المدارس العلمية، والرباطات، والتي قسمت عملها على فريقين: فريق، يتلقى النابهين الذين ترشحهم مدارس الفروع، ثم إعدادهم ليكون منهم المشيخات التربوية والقيادات السياسية والاجتماعية. والفريق الثاني، يعلم في مدارس تربية العامة من : الفلاحين، والأكراد، والبدو، وعوام الأحياء الشعبية في المدن، لتربية ناشئتهم على أفكار ومباديء الحركة الإصلاحية الجديدة، وانتشالهم من الوقوع في قبضة التخلف، أو الأنظمة الفاسدة التي تستخدمهم لصالحها والعمل معها دون وعي يعصمهم من خطورة ذلك.

غيرت، تلك المؤسسات، ما بأنفس القوم، من: أفكار، وتصورات، وقيم، وتقاليد، وعادات، ثم بوأتهم مكانتهم، التي تتناسب مع استعداد كل فرد، وقدراته النفسية والعقلية والجسدية، فانعكست آثار هذا التغيير على أحوالهم: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، وسددت ممارساتهم، ووجهت نشاطاتهم. حيث كان الطلبة، حسب أعمارهم واستعداداتهم، يتلقون إعداداً دينياً وثقافياً، وإعداداً روحياً، ليكونوا أناسي مستقيمي الخلق، ثم إعدادهم الإعداد الاجتماعي، الهادف إلى توثيق العلاقات بينهم وبين مجتمعاتهم، من أجل النهوض لحمل رسالة الإصلاح الشامل للأمة، وإعدادها للتخلص من المستعمرين والمستبدين والمفسدين.

حتى، آتت الحركة ثمارها، وأنجبت جيلاً جديداً، كان نواة نظام سياسي جديد، أسهم في التكامل مع مؤسسات الشعب، في إكمال مسيرة إصلاح الإنسان العربي المسلم، وإعداده إعداداً سليماً، وأقام قدراً من العدل، وتفرغ لمهمات البناء والتحرير، حتى تحررت القدس[33].

13-مناقشة لمدى نجاح الغزالي في إعادة بناء المفهوم

اجتهد الغزالي في إيقاظ الوعي في المجتمع الإسلامي، وذلك بتحرير العقل من رق التقليد، وبالعودة إلى منابع الإسلام الأصلية من كتاب وسنة، والتأكيد على النظرة الكلية الشاملة للمنهج الإسلامي على الرغم من صنيع الغزالي العظيم، وإبداعه غير المشكوك فيه، وتركته المؤثرة على نحو لا يحصى، ما قيمة إصلاحه إذا قيس بصنيع القرآن والنبي. لقد كف القرآن منذ زمن طويل عن أن يكون المصدر المباشر والفريد للهداية

ومن جملة ما انتقد على كتابه الإحياء ما يلي:

1-استشهاده بالأحاديث الضعيفة والموضوعة. ووجود بعض الأحكام التي بنيت على هذه الأحاديث.

2-ذكر كثير من القصص التي تحمل المبالغات في السلوك الصوفي . والحديث عن الكشف والمكاشفة مثالب التصوف

3- سلبيته تجاه الأحداث الكبيرة والكوارث العظيمة التي مرت بالمسلمين في زمانه مثل احتلال الصليبيين لعدد من بلاد الإسلام ولاسيما بيت المقدس، الذي دخلوه غازين، وأسالوا فيه الدماء أنهاراً وقتلوا من أهله نحو ستين ألفاً، وتفكك الأمة أمام هذه الغارات الوحشية[34].

4-إن الغزالي لم يتحدث عن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمفهوم كلى شامل كما يطرحه مفهوم الشهود الحضاري، يواطئ الحركة البشرية ، ويلقى عليها بصفات قيمية معينة ، انما استخدمه بصورة تتسق تماما مع بنائه الفكري، ومن هنا كان قصوره.

5-إن إحياء علوم الدين يفترض تصنيفاً للعلوم إلى نمطين: علوم الدين وعلوم الدنيا، ويفترض في الوقت نفسه أن كفة الميزان في عصره كانت تميل في صالح “علوم الدنيا”  على حساب “علوم الدين” وتصوره لغاية الدين ووظيفته هي غاية تنحصر في الخلاص الفردي والنجاة في الآخرة.

مات الغزالي، وهو يحتضن القرآن، وكان يقرأ البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة في أواخر حياته، ترى هل كان يريد تأصيل تجربته وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث، ومجالسة أهله، ومطالعة “الصحيحين”[35]. لقد مات الغزالي في بداية القرن السادس الهجري الحادي عشر الميلادي، بعد ما بين مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجدده، لكن لم تتوقف الجهود بعده لتجديد المفهوم.

[1] عبد الفتاح ، إمام. الأخلاق والسياسة ، القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2010ص11.

[2] راجع في ذلك بتوسع:

فقه الواقع في التراث السياسي الإسلامي، مدحت ماهر ، ط1،بيروت:الشبكة العربية للأبحاث،2015.ص178-189

عبد الماجد، حامد .تنظير السلطة السياسية: دراسة تحليلية في كتاب أبي الحسن الماوردي (تسهيل النظر وتعجيل الظفر في الملك أخلاق الملك وسياسة ،.”)، على الرباط التالي

http://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=527:tanzer-elsoulta

السلطة ورهان الإصلاح في فكر الماوردي، نبيل فازيو: ، على الرابط التالي

http://www.mominoun.com/articles

[3] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث رقم 3555

[4] التوبة:122

[5] آل عمران:104

[6] عرجون، محمد الصادق. أبو حامد الغزالي: المفكر الثائر، القاهرة:مختارات الإذاعة والتليفزيون، دون تاريخ، ص4

[7] نفس المرجع، ص5

[8] نفس المرجع، ص34

[9] الغزالي، أبو حامد محمد. إحياء علوم الدين، كتاب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر

[10] عرجون، مرجع سابق، ص 38

[11] الكيلاني، ماجد عرسان.هكذا ظهر جيل صلاح الدين، دبي:دار القلم، ط3، 2002، ص 93

[12] إلغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، مرجع سابق

[13] الكيلاني، ماجد عرسان، مرجع سابق، ص97

[14] الغزالي، أبو حامد.إحياء علوم الدين، مرجع سابق

[15] المرجع السابق

[16] المرجع السابق

[17] المرجع السابق

[18] المرجع السابق

[19] المرجع السابق

[20] المرجع السابق

[21] المرجع السابق

[22] المرجع السابق

[23] المرجع السابق

[24] المرجع السابق

[25] المرجع السابق

[26] المرجع السابق

[27] الكيلاني، مجدا عرسان، هكذا عادت القدس، مرجع سابق، ص 95

[28] المرجع السابق، ص94

[29] السبكي، تاج الدين.طبقات الشافعية، القاهرة:دار إحياء الكتب العربية، دون تاريخ، ج4، ص325

[30] كوك، ميكل. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بيروت:مكتبة الشبكة العربية للأبحاث، ط1، ص605-606 كوك ،20130

[31] التوبة: 122

[32] كوك، مايكل، الأمر بالمعروف، مرجع سابق،  ص605-606

[33]راجع بحث موسع عن التجربة، قمنا بتلخيص أفكاره الرئيسية، في:

 الكيلاني، ماجد عرسان. هكذا ظهر جيل صلاح الدين، مرجع سابق

[34] ولقد عالج الدكتور ماجد عرسان الكيلاني هذه القضية في كتابه السابق ذكره

[35] ص326 طبقات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى