إعادة إعمار الدرس العقدي
بقلم د. الخضر سالم بن حليس
أما بعد:
فيلاحظ اليوم أن الدرس العقدي يسير في مسار ضبابي متشعب، وتحولت الكثير من موضوعاته الرئيسة إلى أهداف جزئية صغيرة أخرجته عن مساره العام ومقصده الأسمى، وغرقت الكثير من كتب العقيدة بالإجراءات التفصيلية المختلفة لقضية من القضايا، وانشغلت بإطفاء الحرائق المشتعلة التي أشعلتها الأحداث والانحرافات المتراكمة عبر التأريخ في أحقاب مختلفة، حتى كوَّن ذلك المسار التأريخي وتلك التراكمية الضخمة صورة الفكر العقدي وشكلت معظم مفرداته، وظلت تلك الموضوعات تنحت في العقل الباطن خاصة المتلقي حتى تكونت ذهنيته وفق تلك المسارات، ورسمت له صورة بانوراميه حول مفردات العقيدة وموضوعاتها تلك ، بينما الهدف العام والرؤية الدقيقة لنواتج العقيدة الإسلامية الصافية دخل كمفردة واحدة ضمن مفردات كثيرة ظلت تزاحمه بحسب الأولويات التي كان يقتضيها العصر الذي شهدته وغاب المنتج الرئيس في ثنايا تلك التراكمية الضخمة من كميات الخلاف الذي اختلط بالفعل السياسي واضطراباته عبر القرون.
لذا فإن أولى مهامنا الفكرية والعلمية اليوم هو أن نسلط بؤر الضوء على الهدف الدقيق من الدرس العقدي ثم ما هي الموضوعات الرئيسة التي تحقق ذلك الهدف العام بمجموع أهدافه التفصيلية، وتأخير تلك الجزئيات وفصلها عن المقدمات الرئيسة لموضوع العقيدة، والتمييز بين البيان والرد، وركم ما لم نعد بحاجته من جدليات الفرق المنقرضة، والموضوعات التي ولدتها صراعات الساحة السياسية في تلك المراحل الزمنية التي عبرتها. والعودة السريعة إلى المرجعيات الرئيسة للإسلام: القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وإعادة تشكيل الدرس العقدي بنفس الأسلوب الذي رسمه القرآن الكريم وبطريقته الذكية في بناء أجزاء الإيمان المثمر في نفس الفرد، وربط أجزاء التوحيد بسلوك المرء وقيمه المثالية من أجل إصلاح الحياة بحقائق التوحيد، ورسم نموذج مثالي للإسلام المنفعل توحيده بحركة الحياه.
إن أغلب كتب العقيدة اليوم ليست معدة لموضوع التدريس العلمي المنهجي من حيث أهمية محتواها، أسلوبها، تكامل موضوعاتها، أسسها التربوية، صياغة عباراتها، أسسها المعرفية، وغير ذلك من القضايا التي يدركها الأساتيذ والمربون ويلحظون مدى أهميتها اليوم في تحقيق هدف الدرس العقدي وإحراز نتائجه.
وهناك محاولات جيدة لتسجيل قضايا التوحيد، وتحديد موضوعاتها ونتائجها في الساحة الإسلامية حفلت بها المكتبة الإسلامية منذ سنوات؛ لكن تسليط الضوء الإعلامي وميكرفون الإفتاء على شخصيات معينة، وحصر الدرس العقدي فيها واحتكاره ضمن كتبها أخفى تلك المحاولات القوية عن المنصة وجعلها كتبا تثقيفية على الهامش دون أن يكون لها الصدارة في التدريس والتعليم، وبالتالي حرمت المدرسة الإسلامية السنية من خير كثير، وكانت كل محاولة جادة وثابة لإعادة صياغة الدرس العقدي تبوء بالفشل بفعل ذلك الضخ الإعلامي العملاق باتجاه إجباري صوب مؤلفات محددة مسبقا ضمن المنهج العام للدرس العقدي مما حرم الطالب التنوع الأصيل وجعله يعتاد طريقا واحدا في التفكير والاستدلال والتأصيل يسلكه ذهابا وإيابا، ويقلل من الكفاءة العلمية للطالب والأستاذ معا ويحرمهما من التطوير المستمر وإنتاج المعرفة والقدرة على تحليلها.
إن الدرس العقدي الموضوعي أصبح شبه غائب اليوم بين هذه الأعداد الهائلة من الكتب والموضوعات العقدية التي تدرس هنا وهناك، والتي تخلو من الموضوعية والهدف العام لدرس التوحيد.
وتحول الدرس العقدي إلى جملة من المصطلحات اللغوية والاصطلاحية الجافة، والمعارك العلمية، والردود العنيفة على الآخرين، ولك أن تتخيل البرمجة التي تحدثها بعض كتب العقيدة بعباراتها العنيفة وصياغاتها الاجبارية فصار المنتَج الختامي للدرس العقدي المعاصر هو: طالب علم يغرق بين الرود والمصطلحات، يهتم بحفظ التعريفات الحدية والقضايا الخارجة عنها، ويبدي إعجابا بمحفوظات طويلة لا تحتاج أكثر من الفهم فقط، ويحاكم من حوله بطريقة حادة تؤدي إلى قطع العلاقات، وتنصبه شرطيا يبحث عن عقائد الناس ويفتش عن اختلالاتها، ويمتحنهم من خلالها، وظهور فجوة بين التوحيد والسلوك، وتاهت القيم المقصودة في ثنايا تلك الموضوعات، وانفصل البُعد السلوكي عن أخيه المعرفي في درس التوحيد وأضحى البُعد المعرفي لمفردات العقيدة هو المنتج الوحيد، وأنجبت ثمار التعصب المذهبي الفقهي في حقبة من الحقب اتجاها إجباريا للرأي الأحادي وولع احتكار (القول الراجح) فتم سحب كثير من الفروع الفقهية إلى ساحات الدرس العقدي لتبقى أحكامها الاجتهادية مناطق محظورة، ومحميات عقدية، ممنوعة الاقتراب.
بين يدي كتاب من كتب (التوحيد) المعاصر وجدت كثيراً من فروعه وعناوينه مختصة بدرس الفقه وهناك مكانها الموضوعي المعتمد عند أساتيذ الدرس الفقهي الأصولي الذي تتابعوا عليه علمياً ومنهجياً، فعجبت لهذا الخلط المنهجي الشنيع الذي أضر بصحة الدرس العقدي واستهلك كثيراً من مساحاته الصافية التي تستهدف تثبيت الإيمان وتصفية التوحيد، ومعرفة الله جل جلاله، إلى معارك فروعية يسعها الاجتهاد ويحتملها الخلاف. وشعرت بخطر ذلك الصنيع الملغوم، فنتائج سحب موضوعات الفقه الخلافية الاجتهادية لتستوطن مناطق العقائد الثابتة المحكمة، انعقادٌ صارخ لمعاقد الولاء والبراء، ورايات التكفير حولها، واغلاقٌ لمنافذ الاختلاف عند حدودها، وجر الناس إلى الالزام بتلك الآراء الاجتهادية بسياط الاعتقاد، وإكسابها قطعياته. والأمثلة عند التأمل كثرة. ولم يعمد أساتذه الدرس العقدي إلى تنخيل الموضوعات العقدية من فروع الفقه وإخلاص محاضرة التوحيد كما رُقِمت من قبل إلى اليوم.
والخلاف العقدي نفسه في متشابهات الصفات مثلا خلاف تلتهمه معاني اللغة وقصدية الجميع تحصيل التنزيه وإن اختلفت الوسائل وتعددت الأقاويل وهي كما يشير الإمام الفخر الرازي ليست من مسائل التكليف، وماجريات الخلاف فيها يستوعبه إطار أهل السنة العريض دون حذف أو إقصاء. إن مضاعفات أن يتحول الدرس العقدي إلى منطقة جدلية شديدة الشظايا والانشطار حادة وجسيمة على الفكر والسلوك، ونواتج مناهجها تلك تتجلى على مسلكيات التصرف، وبرمجة العقل الباطن بالاكفهرار والقطيعة الاجتماعية وعداء الآخرين.
أما طرق التدريس وأساليبه ووسائله المعاصرة فما يزال التعليم الشرعي بصورة عامة والدرس العقدي بصورة خاصة يعاني من جفاف شديد من غزو تلك الأدوات، واقتحام أبوابها، ولذا بقي الدرس العقدي نزيل مدرسة التلقين، والاتصال من طرف واحد إلى يومنا هذا.
كل تلك القضايا والتأوهات يحتم على محاضن الدرس العقدي ورواده العكوف على ورش عمل متقاربة لإعادة صياغة سبل النهوض به وتقييم نواتجه ودراسة كافة قضاياه.
وهنا إعادة فتح لبعض الملفات ذات الأهمية التي تعنى بتطوير درس التوحيد وتهتم بنتائجه وتجويد مخرجاته، بمثابة عناوين على طاولة البحث ذهاباً إلى الارتقاء والتطوير فمنها ما يلي:
أولا: غربلة محتوى الدرس العقدي من قبل مختصين به يملكون رؤية جيدة للهدف العام منه ويدركون طبيعة المخرج النهائي، ويقومون على ترتيب الموضوعات العقدية ترتيبا أولوياً بحسب المراحل العمرية المختلفة للمتلقي. إن هذا العمل الضخم كفيل بإخراج كم هائل من القضايا التفصيلية التي لا يحتاجها عصرنا ولسنا متعبدين بها، ويعيدها إلى مضانها من كتب التأريخ لتحتل رفاً في مكانها الجدير بها حين تروي لنا فصلا من فصول الجهود التأريخية التي عاشها علماؤنا هناك وسلطوا جهودهم الفكرية للعصر الذي هم فيه دون ركوب آلة الزمن للعيش في عصور أخرى كما نحاول أن نفعل.
ثانيا: تحديد الأهداف بدقة بحيث يتضح لتلاميذ الدرس العقدي وأساتيذه الهدف الغائي الذي يريدون الوصول إليه بعد الانتهاء من ذلك الكتاب، وتكون ماثلة أمام أعينهم النتيجة النهائية المرجوة، حتى لا تنحرف بهم الطرق الجانبية بعيدا عن الطريق الرئيسي والمسار العام. إن العناية بتحديد الهدف الغائي ورسم صورة المخرج لنهائي كفيل بتوفير الجهد في بناء المنهج وصنع مفرداته بما يحقق الهدف المنشود.
ثالثا: الفصل بين كتب التوحيد كما هو، وبين كتب الخلاف العقدي والجدل والنقاشات العلمية التي تكدر صفو التوحيد وتغرق الطالب في جزئيات كثيرة. فإننا نلحظ أن كثيرا من كتب العقيدة أصبحت عبارة عن “لوغاريتمات” رياضية معقدة وكأن معرفة الله تعالى تحتاج أن نجتاز تلك المعادلات الرياضية حتى نصل إليه. فاحتلت كتب العقيدة مساحة واسعة جدا من ذلك الجدل المتراكم عبر السنين وتلك النقاشات الثرية التي أنجبتها العقول في مراحل مختلفة وتداخلت بالجدل الفلسفي الثخين فغطت على التوحيد الصافي الذي رسم حدوده القرآن الكريم والسنة النبوية.
رابعا: القيام بتحرير واستقراء طريقة القرآن الكريم في شرح مفردات الدرس العقدي وأسلوبه في بناء الايمان وتعليمه للبشرية، والبناء على هذه المنهجية الرائدة التي تصلح لجميع مناطق الزمان والمكان، وتقدم درس التوحيد نقيا واضح المعالم والأهداف، وهناك محاولات معاصرة في ذلك جديرة بالتأمل والبناء عليها والاستفادة منها أمثال سلسلة “العقيدة في ضوء الكتاب والسنة” للدكتور عمر الأشقر، وكتاب “في ظلال الإيمان” للدكتور صلاح الخالدي وغيرها مما أنجبه العقل المسلم المدرك لمخرجات التوحيد.
خامسا: وضع منهجية متوازنة لكتب الدرس العقدي وتقديم قائمة بالكتب التي تتطرق للموضوعات المختلفة التي ترسم تكاملا موضوعيا يحقق نتائج مفيدة، تلافيا لحدوث تضخم في جانب دون آخر، واحتراسا من تشوهات الفهم التي قد تحدث في عقل المتلقي ينتجها الافراط في موضوع ما بنفس الآلية والطرح تكون مضاعفاته منتجا متطرفا بعيدا عن هدايات الإسلام ومقاصده الكلية.
سادسا: تشكيل لجنة علمية تعمل على إثراء الكتب المشهورة والتي تتكرر في حلق الدرس العقدي وحقنها بالمنهجية العلمية والتعليمية من خلال رسم الأهداف وترتيب المحتوى وتكميله ووضع مقاييس التقييم، ولعل الهيبة والقداسة المصنوعة اطاراً على تلك المؤلفات جعلها منزة عن النقد والتطوير .
سابعا: العناية الفائقة بأساليب ووسائل وطرق التدريس المعاصر، فقد بذلت المدرسة التعليمية الحديثة جهوداً جبارة ودراسات مستفيضة في الوصول بالوسائل والأساليب إلى ما هي عليه اليوم وبالتالي العمل على نقل تلك النتائج والخلاصات إلى محتوى الدرس العقدي لتقديمه بأفضل الطرق والأساليب التي توصل إليها العلم ودعمتها التقنية الحديثة وجعلتها أكثر قرباً من الواقع.
ثامنا: إذاعة الكتب الموضوعية الحديثة التي ناقشت الفرق والأديان والمذاهب المعاصرة وناضلت من أجل دفع شبهاتها وضلالاتها هنا وهناك، والعمل على الترويج الإعلامي لها وطباعتها ونشرها بين طلاب العلم. فالعلمانية والإلحاد وغيرها من المدارس المطلة في عصرنا تحتاج إلى جهود عملاقة لدفع حملات الشبهات التي تقودها تلك الفرق تحاول الاثخان في عقائد الأمة الإسلامية وانهاكها بينما نحن منشغلون بحفظ شبهات الفرق المنقرضة ودفع تضليلاتها.
تاسعا: ربط طالب الدرس العقدي بالأثر المكتسب من الدرس العقدي في حياته العملية والسلوكية، وإبراز نتائج ذلك بصورة جذابة مؤثرة تتلمس حاجة الانسان وتشبع فراغه الروحي وتربيه بالحدث والقصة المماثلة، وهناك تجربة للدكتور محمد راتب النابلسي في “شرح أسماء الله الحسنى” التي أذيعت على قناة الرسالة كانت بمثابة تلمس آثار أسماء الله الحسنى في النفس والحياة في طرح يقفز بموضوع الأسماء والصفات من الجدل العقدي المنشر في أروقة الفرق المختلفة قديما وحديثا والمدون في كتب الأسماء والصفات وما يتعلق بها من قضايا “التشبيه والتكييف والتعطيل والتمثيل” وتفاصيلها إلى نتائج مرجوة ملموسة من الايمان بالأسماء والصفات وانعكاساتها في واقع الحياة وسلوك الانسان المهتدي بربه، وإبقاء ذلك الخلاف المحدود في دوائر ضيقة في الهامش يعود لها الطالب المختص ويتم تغليب الحديث عن الآثار والنتائج التي هي صلب الموضوع وفحواه ونتيجته، فأمراض العصر الشائعة من القلق والضيق والاكتئاب والهم والحزن والخوف على الرزق والأجل تكون عيادات علاجها في ظل هذه الانعكاسات التوحيدية وإعادة بناء الثقة واليقين بالله تعالى .
عاشرا: تجريد الدرس العقدي من داء التجسيد ونعني به ما لحق القواعد والموضوعات والمناهج من تجسيدها وتأطيرها في أشخاص كأن أفهامها هي المعنى القطي الأخير، وهو ما أفضى في النهاية إلى تقديس الموروث العقدي وآرائه الاجتهادية على حساب النصوص المعصومة كتابا وسنة. ولذا فإن تحرير منهجية الكتاب والسنة في تعاطي الدرس العقدي هو الملاذ الآمن للخروج من ذلك التجسيد وأمثاله من الانحرافات الفكرية التي قد نصل إليها من خلال التضخم المنشر في تعاطي كتب العقيدة وتفاصيل أجزائها بتلك الحدية التي تزدحم بها بعض كتب النقاش والخلاف على كثير من جزئياتها وتفاصيلها، حوالاعجاب بمؤلفيها لحد حفظ عبارات ةكمؤلفها وتقديسها والاستدلال بها كقطعيات في ذلك الباب، والتسليم والإذعان الصامت فضلا عن نقدها إن كانت خاطئة.
تلك عشرة كاملة لما نريد أن نراه باتجاه الارتقاء بالدرس العقدي وتطويره وضبطه وجعله يؤتي ثماره ونتائجه بطريقة منهجية علمية تعود به إلى منابعه الأولى.
وعلى الله قصد السبيل.