إعداد د. وصفي عاشور أبو زيد
المسلم مأمور بأن يجاهد عدوه ويقاوم الظلم الذي يقع عليه ، ولقد ربى الإسلام الشخصية المسلمة على رفض الظلم ودفعه ،ونشّأها على العزة والشموخ بما ضمن لها من رزق وحدد لها من عمر وذلل لها من أرض تسير عليها وتنتقل فيها كلما أحست بظلم أو ضيم .
ولقد أثار إضراب الأسريى الفلسطينيين في سجون الإحتلال الإسرائيلي ضجة عالميه، كان له صداه وأثره علي الرأي العام العالمي مما أثار تساؤلاً مهماً في هذا الصدد ، وهو ما حكم إضراب الأسير عن الطعام؟ وما حكم من يموت بسببه؟ هل الإضراب مشروع كنوع من المقاومة أم أنه ممنوع لأنه تعذيبٌ للنفس وإلقاءٌ بها للتهلكة؟ وهل الإضراب حتى الموت شهادة في سبيل الله أم أنه نوع انتحار، والشرع نهى عن الانتحار أشد النهي وجعله من أكبر الكبائر؟ ، كل هذه التساؤلات تفرض علينا أن نتناول الموضوع بشيء من الهدوء والموضوعية ، ولابد أن يكون للإسلام كلمة في الوقائع والأحداث المعاصرة>
معني الإضراب :
قال ابن منظور : أضربت عن الشيء كففت وأعرضت ، وضرب عنه الذكر واضرب عنه : صرفه. واضرب عنه: أي أعرض …. والأصل في قوله : ضربت عنه الذكر ، أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهته ، ضربه بعصاه ، ليعدله عن الجهة التي يريدها ، فوضع الضرب موضع الصرف والعدل . يقال : ضربت عنه وأضربت … ويقال ضربت فلاناً عن فلان أي كففته عنه، فأضرب عنه إضراباً إذا كف ، وأضرب فلان عن الأمر فهو مضرب إذا كف (لسان العرب:1/547 – مادة:ضرب) .
أما معناه اصطلاحاً: فهو امتناع الإنسان عن الطعام وإعراضه عنه بقصد الضغط علي غيره ليتحقق له هدف ما أو أن يرفع ظلم معين .
الإضراب قديماً و حديثاً :
1 – قديماً : والإضراب بهذا المعني موجود في تاريخنا الإسلامي، ولعل حادثة سعد بن أبى وقاص أو سعد بن مالك رضي الله عنهما – على اختلاف الروايات – مع أمه ما يؤكد ذلك حيث أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره عن الطبراني في كتاب العشرة بسنده عن سعد بن مالك قال: أنزلت فيّ هذه الآية ” وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ” .. الآية . قال: كنت رجلاً براً بأمي ، فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيّر بي، فيقال: يا قاتل أمه!! فقلت لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني لشيء ، فمكثت يوماً وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لم تأكل فأصبحت قد اشتدّ جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت.
2- حديثاً : وفي عصرنا الحديث استخدمت هذه الوسيلة القديمة في بدايات القرن العشرين ، وهناك أمثلة ووقائع على استخدامها ، فمنها إقدام المتظاهرات في سبيل منح المرأة حق الانتخاب في إنجلترا على الإضراب عن الطعام خلال الفترة ما بين 1913- 1918م.
ومنذ عام 1912م استخدم المواطنون الايرلنديون وسيلة الإضراب عن الطعام في سبيل الحصول على الاستقلال، وفيما بين عامي 1917-1919م استخدم الإضراب عن الطعام في أميركا من جانب المطالبات بحق الانتخاب، ومن جانب الممتنعين عن الاشتراك في الحرب بسبب عقائدهم الدينية ممن كانوا معتقلين في السجون، وغير ذلك ولا تخفي أسماء أشهر الذين أضربوا عن الطعام من أمثال بوبي ساندز وميكي ديفاين وباتسي اوهارا عن الأذهان ،فقد كتبت المسرحيات والأغاني و أنتجت الأفلام لتخليد ذكرى هؤلاء المضربين عن الطعام .
موقف الفقهاء من المسألة :
والحق أن هذه المسالة لم تبرز في عصر فقهائنا الأئمة الأوائل كما برزت في عصرنا الحديث ، وحديث فقهائنا المعاصرين المتكرر عنها ناتج عن كثرة الاضطهادات والعسف في معاملة السجناء التي لم يَشْك منها عصر كما شكا منها عصرنا الحديث في المنطقة العربية ، بل والعالمية.
ومن هنا فان الفقهاء الذين تحدثوا عن هذه المسالة يكادون ينحصرون في علمائنا المعاصرين ، الذين انقسموا إزاءها إلى فريقين ، وذهبوا فيها إلى رأيين :
الرأي الأول الحرمة : ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الإضراب عن الطعام محرم شرعاً، وأنه ليس في الدين شيء اسمه الإضراب عن الطعام أو الشراب لتحقيق غرض من الأغراض، فهو وسيلة سلبية يجب ألا يأخذ بها أحد، والوسائل المشروعة كثيرة، ومن سلك هذا المسلك فقد أضر بنفسه بالجوع والعطش في غير طاعة الله، ومن مات بهذا الإضراب يموت منتحراً ، والإنتحار من كبائر الذنوب ، فإن استحله كان كافراً، لا يغسل ولا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويأتي على رأس هذا الفريق فضيلة الشيخ عطية صقر الفقيه المعروف ، والأستاذ الدكتور حسن عبد الغني أبو غده الأستاذ بجامعة الملك سعود ، وقد استدلوا علي رأيهم بالأدلة التالية:
أولاً : قوله تعالى: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ” (النساء/29) ومن المعلوم أن تجويع النفس بالإضراب عن الطعام يفضي إلى قتلها بغير حق .
ثانياً : قوله تعالى: “ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة” (البقرة /195) والإضراب عن الطعام فيه تعريض النفس للتهلكة ولو بعد حين .
ثالثاً : قوله تعال: ” إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ” (البقرة/ 173 ) وقد بيّن الفقها ء في ضوء هذه الآية أن على الإنسان أن يأكل الميتة ولحم الخنزير في حالة الاضطرار استبقاء لنفسه ، ودفعا للهلاك عنها، والإضراب يتنافى مع ما تعطيه هذه الآية .
رابعاً : ما رواه مسلم بسنده عن أبى هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – : “إياكم والوصال . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال: إنكم لستم في ذلك مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فاكفلوا من الأعمال ما تطيقون ” (رواه مسلم)
والوصال معناه متابعة الصيام ليلاً ونهاراً دون طعام أو شراب، وإنما جاء النهي عنه – مع أنه عبادة يتقرب بها إلى الله – لكي يدفع الإنسان عن نفسه المشقة ، ولا يضعف بدنه ويعذب نفسه ويؤذيها ، وفي الإضراب كل هذه المعاني .
خامساً : أن حفظ النفس البشرية من كليات مقاصد الشريعة الإسلامية، التي هي من الضروريات ، ولا ينبغي أن نعرّض النفس للإتلاف، أو ما يوقع بها الضرر.
وبناء علي ما تقدم – في رأي هذا الفريق – لا يجوز الإضراب لأنه تعذيب للنفس، وإلقاء بها إلى التهلكة، وإن مات المضرب عن الطعام فهو منتحر قاتل لنفسه، وقد صح في الأحاديث النبوية أن جزاء قاتل نفسه نار جهنم خالداً مخلداً فيها .
الرأي الثاني : الجواز : أفتي أصحاب هذا الرأي بمشروعية الإضراب عن الطعام طالما أنه هو السلاح الأخير في أيدي هؤلاء الأسرى ، ما داموا يرون أنه الوسيلة الفعالة والأكثر تأثيراً لدي الآسرين ، وأنه الأسلوب الذي يغيظ الاحتلال وأهله ، فكل ما يغيظ الكفار هو ممدوح شرعاً، كما قال تعالي في مدح الصحابة : ” يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار” (الفتح /29) وقال في شأن المجاهدين ” ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ” (التوبة/ 120) فهم يعبرون فيه عن رأيهم، ويلفتون أنظار المجتمع الدولي إليهم، وبينوا أن هؤلاء المناضلين أصحاب قضية عادلة، والإضراب حق معترف به عالمياً لفضح الجرائم ، وكشف الظلم الذي يقع عليهم، كما أفتوا بأنه يجوز للسجناء ولو في بلادنا الإسلامية، استخدام أسلوب الإضراب المفتوح عن الطعام إذا كانوا يتعرضون لانتهاكات تطول حقوقهم الإنسانية طالما أن هذا الأسلوب هو الوحيد الذي يؤدي إلى نتيجة في هذا العصر ، وحتى إذ لم يؤد إلى نتيجة إيجابية بحق السجناء، فإنه يلفت نظر الرأي العام المحلي والدولي إلى الممارسات غير الإنسانية بحق السجناء .
وعلى رأس أصحاب هذا الرأي الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية والشيخ يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، والمستشار الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، والدكتور محمد محروس المدرسي الأعظمي رئيس لجنة الإفتاء بهيئة علماء المسلمين بالعراق، والشيخ الداعية ناصر بن سليمان العمر.
وقيد أصحاب هذا الرأي مشروعية الإضراب وجوازه بمجموعة من القيود، حتى لا يؤدي الإضراب إلى الوقوع في مخالفات شرعية:
الأول: ألا يتحول الإضراب إلى صيام بالمعنى الشرعي، فالصيام عبادة لا يحسن أن تتحول لوسيلة احتجاج ضد السلطات، كما أن الصائم لا يجوز له الوصال في الصوم بل لابد أن يأكل بعد المغرب. ولذلك فإن من واجب المضربين أن يتناولوا ولو قدراً من الماء أو أي شراب آخر حتى لا يعتبروا صائمين ومواصلين للصوم.
الثاني: أن لا يؤدي هذا الإضراب إلى الموت ، فهو عند ذلك يشبه الانتحار المنهي عنه والذي يعتبر من الكبائر. وعلى الصائمين كلما وصلوا إلى درجة كبيرة من الإعياء أن يتناولوا القليل من الماء والقليل من الطعام حتى لا يتسببوا لأنفسهم بالموت .
الثالث: لابد من المحافظة على الحياة – مهما أمكن – إلا في حالة الاضطرار فوق العادة .
الرابع: الإضراب عن الطعام عموماً يؤدي إلى الإضرار بالنفس وقتلها وهذا لا يجوز شرعاً، وبالتالي فإن هذا الأسلوب يجوز للضرورة بعد استنفاد الوسائل الأخرى .
ومع مراعاة هذه الضوابط – عند أصحاب هذا الرأي – فإن هذا الأسلوب يغيظ الكفار ، ويسمع صوت الأسرى المظلومين والمهضومين والمنسين إلى العالم ، ويحيي قضيتهم ، ويساعدهم علي نيل حقوقهم، فهو أمر مشروع، بل محمود.
الترجيح والرأي المختار:
والذي تطمئن إليه النفس هو الرأي الثاني ، لأن أدلة الفريق الأول كلها غير مسلمة بناء علي فهم طبيعة الإضراب والدافع إليه وما يبتغى من ورائه ، وكذلك فهم طبيعة الانتحار والوقوف علي مفهومه.
فالانتحار وسيلة يلجأ إليها الإنسان ليتخلص من حياته بسبب سوء معيشة أو ضيق في الرزق أو موقف قوي صدم مشاعره فلا يجد منه مخلصاً سوى إزهاق روحه وقتل نفسه، فهو هارب من الحياة لغير غاية.
أما المضرب فصاحب قضيه، مجاهد بنفسه ، مدافع عن وطنه ، يبتغي تحرير الأرض ، والدفاع عن العرض، ودحر العدو وردعه، ورفع الظلم ومنعه.
وكل أدلة الفريق الأول ترد على المجاهد في سبيل الله، والمقاتل في المعركة، لأن هذا جهاد وهذا جهاد، كما ترد على العمليات الإستشهادية، فليس من الإضراب – بناء علي مفهومه – قتلاً للنفس بل جهاد بها، وليس إلقاء بها إلى التهلكة بل إلقاء بها إلى الجنة ، وليس في الإضراب شبه بوصال الصوم المنهي عنه، لأن نظام الإضراب يقوم على شرب ماء ممزوج بملح علي الأقل، وليس فيه ما يتنافى مع حفظ النفس، لأن النفس تذهب فداءً للدين ، ورتبة الدين قبل رتبة النفس في نظام كليات الضروريات في مقاصد الشريعة التي من المعلوم أن اللاحق فيها خادم للسابق .
وينبغي أن تراعى المصلحة في هذا النوع من الجهاد، بمعني أننا لا نترك وسيلة أقوي أثراً ، وأعظم نتيجة من الإضراب ثم نتركها ونتخذ الإضراب وسيلة، وأن نكون علي يقين من أن هذا الأسلوب سيكون له تأثير ودوي عالمي، وانتشار للقضية وتسميع بها، وأن هذه الوسيلة سوف ترفع – بلا أدني شك – الظلم الواقع عليهم أو بعضه على الأقل، كل هذا ينبغي أن نراعيه قبل البدء في هذا العمل حتى يتحقق فيه معنى الجهاد والمقاومة، وينتفي عنه معنى الانتحار وتعذيب النفس المنهي عنه شرعاً .
وربما أضفت إلى أصحاب الرأي الثاني أن المضرب إذا بلغ الموت، وتحقق أن موته سيكون له أثر مؤكد في قضيته العادلة التي أضرب من أجلها ، فلا إثم عليه ، بل هو عند الله شهيد ، لأنه مجاهد بنفسه ، لا فرق بينه وبين من يفجر نفسه في أعداء الله ، فهذا جهاد وهذا جهاد .
ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز .
والله تعالى أعلم.
(المصدر: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية)