إشكالية القيادة في الحركة الإسلامية المعاصرة
بقلم عزة مختار
خاضت الحركة الإسلامية منذ بداية نشأتها قبيل القرن قبل الماضي صراعات كثيرة، وذلك منذ ظهورها بشكل فردي متمثلاً في أفراد، بداية من الشيخ الأفغاني الذي جاب بلاد المسلمين شرقا وغربا، ثم الشيخ محمد عبده ثم محمد رشيد رضا، ثم حسن البنا رحمهم الله، الذي تبلورت الفكرة الإسلامية على يديه وترجمت من فكر فردي تنظيري لفكر حركي جماعي.
صراعات تتعلق بالوجود وأخرى بمحاربة أفكار بليت وعادات تحولت لعبادات ما هي دين ولا أنزل الله بها من سلطان، وصراعات أخرى داخلية فيما بينها بعضها البعض وصلت في بعضها حد التكفير والاتهام بالعمالة والخيانة، وواجهت محناً شديدة كادت تعصف بها في أكثر من مرة أثناء مقاومتها للاستعمار، ثم للاحتلال الصهيوني لبلاد المسلمين ومقدساتهم حين شاركت في حروب الثمانية والأربعين وعادت لتودع على إثرها في السجون على أيدي الأنظمة الحاكمة آنذاك.
استطاع نظام ما بعد انقلاب الثالث والعشرين من يوليو 1952 أن يفكك جماعة الإخوان المسلمين ويثير الذعر في صفوفها، ليهرب خارج البلاد من استطاع لذلك سبيلا، وتكون القاصمة بعد إعدام الشيخ سيد قطب ورفاقه في العام 1966، لتواجه الجماعة بعدها محنة التراجع الكبير في صفوفها، ثم لتخرج من محنتها بعدد لا يتجاوز بضعا وتسعين فرداً هم من تبق من كوادر الجماعة بعد رحيل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
وبرغم ضخامة تلك المحنة المذكورة جملة وتفصيلا في أدبيات الجماعة والتي تشبه إلى حد كبير ما تمر به اليوم، إلا أنها استطاعت أن تتجاوزها لأسباب كثيرة وتعيد الوقوف بعد إنشاء التنظيم العالمي بفضل خروج عدد كبير في بداية المحنة الأولى ونشرهم لفكر البنا في كثير من البلدان العربية خاصة المملكة العربية السعودية، والتي أنشأوا بها المدارس والمساجد ووجدوا دعماً كبيراً وسعة وحرية ساعدتهم عليها الأجواء الدينية التي تتمتع بها بلاد الحرمين بطبيعتها.
استطاعت الجماعة أن تعيد تنظيم صفوفها في مساحة محدودة من الحرية أتاحها الرئيس الراحل أنور السادات لتستعيد حيويتها وقوتها من جديد في ظل قيادة قوية كعمر التلمساني الذي قاد الجماعة منذ العام 1973 حتى العام 1986 وفي ظل ظروف ومعطيات داخلية وإقليمية ودولية تختلف كل الاختلاف عما يمر به العالم اليوم.
فهل تستطيع جماعة الإخوان المسلمين خاصة والحركة الاسلامية عامة أن تعيد الكرة وتتجاوز المحنة الكبيرة التي تمر بها اليوم؟
هل يمر العالم العربي والإسلامي بظروف كتلك التي دفعت السادات للاستعانة بجماعة الإخوان المسلمين في الجامعات والنقابات المهنية وإتاحة بعض الحريات والمساحة للتحرك فيها؟
هل يصلح الفكر الحالي، والمنهج الحالي لإدارة المشهد في ظل المعطيات الجديدة للخروج بها من مأزقها الكبير؟
هل تقوى تلك المحنة التي تمر بها من ظهرها فتضيف لها خبرة جديدة؟ أم هي القاصمة والانفلات والتصدع والانشقاق الكبير الذي لا استقامة بعده؟
المأزق القيادي للحركة الإسلامية:
فارق كبير للمتابع عن كثب بين أدبيات الحركة الإسلامية وحثها على التجديد والابتكار، وتداول السلطة، والبحث عن المبدعين، وإتاحة الفرصة للمفكرين، والحريات واحترام العقول، والمشاركة والشورى وفلسفة الاختيار وقوانين التصعيد لمستويات أعلى، وبين الواقع المعاش في التعامل بين القيادة والقاعدة، وبين القيادة والمجتمع الخارجي.
لقد عانت الحركة الإسلامية مجتمعة من التناقض والفصام الشديد بين ما تدعو له وتؤمن به وتحث الناس عليه، وبين واقعها الداخلي، وإن كان المقابل خروج العشرات من العقول والمفكرين هروبا من تلك الضائقة إلى سعة العمل غير التنظيمي ولو كانت نتائجه أقل تأثيرا على المستوى العام.
لقد عانت الحركة الإسلامية مجتمعة من التناقض والفصام الشديد بين ما تدعو له وتؤمن به وتحث الناس عليه، وبين واقعها الداخلي
إن متغيرات العالم سريعة ومعقدة وتحركها المصالح والتحالفات، وعدو الأمس هو ذاته صديق اليوم والغد، وانعدام المرونة في ردود الأفعال أو التأخر فيها قد يودي بأي تنظيم ويؤخره لسنوات، بل قد يقضي عليه تماما ، وعمليات الاستبدال التاريخي أمامنا شاهدة أن الحق وحده لا ينتصر أو يتحقق له التمكين ما لم يحركه قادة أذكياء يتميزون بالمرونة والحنكة بما يكفي لتحييد البعض وكسب ود الآخرين للتفرغ لما هو أكبر، والخروج من دائرة معاداة الجميع في آن واحد، فتغرق السفينة بعقول متصلبة بينما هي تحسبها استقامة؛ فالاستقامة في بعض الأحيان قد تكون في الانحناء للريح حتى تمر، والتعامل مع المواقف المتشابهة حسب المتغيرات طالما لا يتم التنازل عن ثوابت عقدية أو تمس منهجية دينية .
وقد عانت الحركة الإسلامية جراء ثبات القيادة من عدم تجديد دمائها، فيتغير العالم وهي تتخذ نفس المواقف لنفس العقول بنفس المنهجية، وتنتظر تغيير النتائج، وهذا يخالف السنن الكونية، ويعطل الأسباب التي حثنا الله عز وجل على الأخذ بها، ويعطل جهود الآلاف، بل الملايين من التابعين بحجة الثبات والثقة والأخ الأكبر يعرف كل شيء، في حين أن المواقف تثبت أن الرؤية صفرية، وكل ما يفعله الأخ الأكبر هو انتظار تغير الأحداث لصالحه دون بذل أي جهد يذكر، بل وتجميد طاقات كان من الممكن أن تغير خارطة المنطقة إن هي أتيحت لها الفرصة والمساحة الكافية للتحرك.
الفكرة أم المفكر
وتم الخلط بين المسؤول والمسؤولية، وللحق فتلك الإشكالية لا تتعلق فقط بالحركات الإسلامية، وإنما بالعالم العربي ككل بدءاً من سلطة الأب في البيت والمدير في مؤسسته امتدادا للرئيس أو الحاكم، فيتم الخلط بين السلطة الحاكمة وبين الوطن، ليظن أنه هو الكرسي الذي يجلس عليه، وأن البلاد ستغرق إن هو غادره!
وقد كان حريا بالحركة الإسلامية – بما أنها الفصيل الأكبر في التصدي لطغيان الحكام في بلادنا – أن تعطي الدرس الأهم وتعلم الشعوب أنها قادرة على تقديم النموذج العملي لكيفية انتقال السلطة وتداولها وتحريك المشاهد المتجمدة وإدارة الأزمات، وذلك باعتبارها البديل الأكيد والذي أثبتت الشعوب انحيازها لها حين أتيح لها بعض هوامش من الحرية، بينما الحقيقة أن جمود الفكر الذي لا يصلح لإدارة مشاهد متشابهة في أزمنة مختلفة قد أرسل بعض رسائل التخويف للمتابعين والمتحلقين حول الفكرة الإسلامية كحائط صد أخير للخروج بالأمة من دائرة الهوان التي تحاصرها.
كان حريا بالحركة الإسلامية -بما أنها الفصيل الأكبر في التصدي لطغيان الحكام في بلادنا- أن تعطي الدرس الأهم، وتعلّم الشعوب أنها قادرة على تقديم النموذج العملي لكيفية انتقال السلطة وتداولها وتحريك المشاهد المتجمدة وإدارة الأزمات
فعلى سبيل المثال -وتطبيقاً لما قلنا على تنظيم كجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها المنظمة الإسلامية الأكبر عالمياً- نجد أنها تفتقد إلى المرونة في مسألة اختيار المرشد وتغييره في حالات معينة، ونجد كذلك مسألة النخبوية، فتدفع البعض للسير في سبل غير مقبولة أخلاقيا للوصول لتلك النخبوية، وقد عانت الجماعة ذاتها من تلك النوعية والتي وصل بعضها لمنصب نائب المرشد وكاد أن يصل للإرشاد ثم انقلب عليها ليصب جام غضبه إعلامياً ومجتمعياً!
لقد تم تفريغ كافة القوانين الداخلية والتي لم تتغير إلا بمعدلات طفيفة منذ رحيل البنا -رحمه الله- من مضمونها الذي وضعت من أجله، فتحول الاحترام والتقدير والسمع والطاعة لتفويض مطلق في كل أمر، وأصبحت المراجعات والمحاسبة نوعاً من العبث والتطاول وسوء الأدب، بل ومدعاة للاتهام والتخوين وكفيل بفصل من يطالب بهما في بعض الدول، ونتج عن ذلك إدارة الأزمات بمنهجية واحدة لنفس العقلية التي لا تستوعب دهاليز السياسة والعمل بمقتضى متغيراتها.
إن العالم قد اعتمد مبدأ التعددية الفكرية والحزبية والسياسية كضرورة لتسيير حركة الحياة وتجديدها بشكل طبيعي وسلس، وتحديد مدة الرئاسة في كل بلاد العالم بمدتين ليس معناه فساد الحاكم أو فشله في الأداء، فالفشل والفساد لهما حساب آخر لا يتوقف عند حد تغييره، وإنما تحديد مدة بقاء أي إنسان مهما كانت كفاءته بالطبع هي لزوم حركة التجديد والتغيير وإتاحة الفرص للكفاءات من الأجيال الجديدة للتطوير، والقول بأن لكل مرحلة رجالها، ولكل أزمة من يصلح لها، لا يقلل ذلك من شأن الآخرين، إنما هي طبيعة وسنة كونية .
وقد وجب الآن وقبل فوات الأوان أن تقدم الحركة الإسلامية – وعلى رأسها الإخوان المسلمون – ذلك النموذج كقدوة لغيرهم وتفعيلا لما تروجه أدبياتهم وقوانينهم، وإلا فهو الإفلاس وانفضاض الأجيال التي تربت في جوف المحنة وتواصلت مع العالم الخارجي عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تتطور كل لحظة، ولن تقبل بحال من الأحوال بعد زوال تلك المحنة أن تعود الأمور لما كانت عليه قبلها.
(المصدر: موقع بصائر)