مقالاتمقالات مختارة

إزاحة المتسلطين لإقامة الدين

إزاحة المتسلطين لإقامة الدين

بقلم الشيخ محمد متولي الشعراوي

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 35] أي: أطيعوا أمره، وابتعدوا عن محارمه؛ لتفوزوا برضاه سبحانه، ويدخلكم جناته. وذلك هو الفلاح العظيم.

كذلك عليك أن تعلم أيها المؤمن أنّ إيمانك لن يصبح كاملًا إلا بأن تحبّ لأخيك ما تحبه لنفسك، فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على منهج الله تعالى فاحرص على أن يكون ذلك لإخوانك أيضًا. وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك، ولكن هم الذين سيأتون من بعد ذلك. ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل الله؛ لتعلو كلمة الله وتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل. وهكذا تعلو الهمّة الإيمانية، فلا تنحصر في النفس أو المعاصرين للإنسان المؤمن بل يتعدى أثرها ويتسع ليشمل كل الناس.

ولذلك وضع لنا الحق سبحانه المنهج، وبيّن لنا الطريق المؤدي إليه. وكانت بداية الطريق أن الإنسان حينما يؤمن بأنّ لله نعيمًا وجزاءً في الآخرة هو خير مما يعيشه ويحياه، تهون عليه نفسه، فيبذلها في سبيل الله تعالى، لذلك قال أحد الصحابة: أين أنا يا رسول الله إن قُتلت؟ قال: في الجنة، فألقى الصحابي ثمرات كن في يده ثم قاتل حتى قُتل. لابد إذن أنّه قد عرف أنّ الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها، ولو حاولنا أن نستقصي مثل هذه البطولات والتضحيات لخرجنا بالكثير والكثير، لذا فإننا ننصح بمراجعتها في مظانها من كتب التراث فهي تمثّل نموذجًا حيًّا لواقع عاشه سلفنا الصالح، وقدّم فيه أغلى ما يملك وهو: حياته، في سبيل إعلاء راية التوحيد، حتى تصلنا الدعوة إلى الله تعالى خالصة نقية.

ونعود إلى موضوع الجهاد فنقول: لم يضع الله سبحانه الجهادَ كوسيلة في أول الأمر، بل ظلّ يأمرهم بالدعوة والصبر، بالترغيب تارة، والترهيب أخرى، فلما قامت دولة الإسلام وأصبح المسلمون في مَنَعَة وعزّة كان لابد لهم من قوّة ترهب أعداء الله تعالى وتمنعهم من التصدّي للدعوة، وتخلي بين الناس وبين اختيارهم. إذن فالجهاد في سبيل الله ضمان للمؤمن أن يظلّ المنهج الذي آمن به موصولًا إلى أن تقوم الساعة، وذلك لا يتأتّى إلا بإشاعة المنهج في العالم كلّه. والنفس المؤمنة وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله لأنّ عندها إيثارًا إيمانيًّا. وتعرف أنّها أخذت خير الإيمان وتحب أن توصله إلى غيرها، ولا تقبل أن تأخذ خير الإيمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار الإسلام، وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمنًا.

وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثّل الفهم العميق لمعنى الحياة، فالناس إذا كانوا أخيارًا استفاد الإنسان من خيرهم كله، وإذا كانوا أشرارًا يناله من شرّهم الشيء الكثير. إذن.. من كمال الإيمان أن “يعدي” الإنسان الخير للغير. وإنّ دعوة المؤمن إلى سبيل الله يجب أن يُخلّى بينها وبين الناس.

ومن أجل التخلية بين الناس ومنهج الله تعالى لابد من إزاحة المتسلّطين بجبروتهم وسلطانهم وطغيانهم على عباد الله، وهؤلاء المتسلّطون تساندهم قوة من المنتفعين والأفّاكين، لذلك يجب الإعداد لذلك قبل اللقاء في ساحات المعارك، فقبل اللقاء مع الخصم في ساحة المعركة لا بد من حسن الإعداد. وعندما يعدّ المؤمن نفسه يجد أنّ حركة الحياة كلّها تكون معه، لأنّ الدعوة إلى الله تقتضي سلوكًا طيبًا، والسلوك الطيب ينتشر بين البشر، وهنا يقوى معسكر الإيمان، فيرتقي سلوكًا وعملًا، وعندما يقوى معسكر الإيمان لابدّ له أن يستخرج كنوز الأرض ليحمي أرض الإيمان بالتقدّم الصناعي والعلمي والعسكري.

الحق سبحانه يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} [الحديد: 25] إذن.. الله سبحانه وتعالى الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب وأمر الناس بالعدل، لم يطلب منا سبحانه أن نلتزم بمنهج العبادة فقط، بل أمرنا سبحانه بإعداد العدّة لإقامة دين الله في الأرض، والتمكين لمن اختاروا الإسلام دينًا، وردع كل من تسوّل له نفسه الاعتداء على المسلمين وبلادهم، ولذلك قال سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}.

فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، أنزل الحديد فيه بأس شديد، وعلى الإنسان مهمّة استخراج الحديد والمواد الخام التي تسهّل لنا صناعة الأجهزة العلمية، كما علينا أن نقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولاذًا، ونحول الفولاذ إلى دروع، وتصنع أدقّ الأجهزة التي تهيئ للمقاتل فرصة النصر، وكذلك ندّخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب. إذن.. حركة الحياة كلّها جهاد، وإياك أن تُقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعدّ نفسك للمعركة؛ لأنّك إن أعددت نفسك جيّدًا وعلم خصمك بقوة ما أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك. والذي يمنع العالم الآن من معركة كبيرة تدمره هو الخوف من قبل الكتل المتوازنة؛ لأنّ كلّ دولة تحاول أن تستقطب في جوارها دولًا أخرى، فلعبة التوازنات هذه هي التي تجعل من يحاول أن يقدم على حرب أن يفكر كثيرًا، ولو أنّ في الكون قوّة متسلّطة واحدة لفسدت الدنيا وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين}[البقرة: 251].

وقول الحق سبحانه: {وجاهدوا في سبيله} أي: جاهدوا في سبيل إقامة منهج الله تعالى؛ بدراسة هذا المنهج وتفهّمه، ثم بعد ذلك المجاهدة فيه باللسان وبالسنان، والمجاهدة فيه بالكتاب وبالكتيبة.

إذن.. فقول الحق سبحانه: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} كي يصنع أمّة إيمانية متحضّرة؛ حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون. فمن يعبد الإله الواحد أولى بالبحث العلمي، والأخذ بأسباب التقدّم والرقي، ولو فرضنا أنّه لن تقوم حرب، ولكننا نملك المصانع التي تنتج، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس، عندئذ سنحقّق الكفاية. وما لا نستعمله في الحرب سيعود على السلام. ويجب أن نعلم أنّ كل اختراعات الحياة التقدميّة تنشأ أولًا لقصد الحرب. وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتبس من كتاب: الجهاد في الإسلام للشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، ط. مكتبة التراث الإسلامي، ص39-51.

(المصدر: موقع “على بصيرة” نقلاً عن مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى