مقالاتمقالات مختارة

“إدارة” العلاقة بين الدين والعلم… كيف نتفادى دعم أفكار الملحدين

بقلم أحمد التلاوي

شهد عصرنا الحالي طفرات مهمة في مجال العلم، بحيث يمكن القول إن البشرية على أعتاب -أو دخلت بالفعل- مرحلة تتغير فيها مفاهيم الحياة وأنماطها، حتى على مستوى الحياة اليومية العادية للإنسان، تتغير إلى واقع مختلف تمامًا عن صور الحياة والاجتماع الإنساني الذي عرفته البشرية طيلة قرونها الطويلة الماضية.

فعلى أبسط مثال، فإن أنماط الحياة الإنسانية والاجتماع البشري، دخلت بالفعل في مسار “السايبرانية”؛ حيث يعيش البعض الآن حياته بالكامل، من خلال تقنيات الواقع الافتراضي وما اتصل بذلك.

ساندت هذه التطورات العميقة والمهمة في العلم ومنجزاته، اتجاهاً ظهر في القرن السابع عشر والثامن عشر، بعد خروج أوروبا من عصورها المظلمة، وبدء عصر الثورة الصناعية والعلم، وهو الاتجاه الذي يقدس العقل البشري، بشكل وصل إلى مستوى “تأليه” العقل، أي جعله إلهًا من جانب بعض المدارس الفلسفية المتطرفة.

ساندت هذه التطورات العميقة والمهمة في العلم ومنجزاته، اتجاهاً ظهر في القرن السابع عشر والثامن عشر، وهو الذي يقدس العقل البشري، بشكل وصل إلى مستوى “تأليه” العقل، أي جعله إلهًا من جانب بعض المدارس الفلسفية المتطرفة

ساهم في ذلك، نقطة شديدة الأهمية، وهي أن العلم بمعناه المادي الحديث الذي نعايشه الآن، قاد في بواكيره –عندما سخَّر الإنسان طاقة البخار والآلة– الأمم التي آمنت بالعلم وتبنته كنمط تفكير وتطوّر لها، إلى أن وصلت إلى أطراف العالم، وسيطرت عليه فيما عرف بالاستعمار المباشر، حيث سيطرت أممٌ أوروبية، مثل: الإسبان والبرتغاليون ثم الأنجلو ساكسون والفرنسيون، على أرجاء الأرض كافة تقريبًا، بما في ذلك العالم الجديد الذي تحول إلى الأمريكيتَيْن حاليًا.

وبالتالي، اكتسب العلم المادي، والعقل الذي أنتجه –مع التحفظ؛ لأن كل ذلك يتم بإرادة وتوجيه إلهيَّيْن وفق الرؤية التي وضعها الله عز وجل لصيرورات حياة الإنسان والحضارة الإنسانية على الأرض في الحياة الدنيا– سطوة ومكانة كبريَيْن.

ولقد بلغت هذه السطوة –كما تقدم– إلى أن تحول العقل إلى دين، بل إلى “إله” لدى البعض، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن العلم المادي، وتطور العقل البشري، قضيا على واحدة من أكبر السلطات الشمولية التي عرفها التاريخ، وهي الكنيسة الكاثوليكية، التي لم تلبث أن تفككت، ثم تحولت إلى سلطة روحية فقط، بعد أن كانت تملك وتحكم.

كما أدّى سلطان العلم والعقل، إلى ظهور مدارس الفرْدانية وأفكار الحرية وحقوق الإنسان ، بحيث تضعضعت أركان الملكيات الاستبدادية في أوروبا، التي تزعزعت كثيرًا مع الإقطاعيات التي كانت موجودة في مرحلة ما قبل التنوير، أو ما يُعرف بعصور الظلام في أوروبا، بسبب تراجع سلطة الكنيسة، التي كانت تعطي “البركة” –كانت تنعكس في صورة دعم سياسي– للملوك وكبار الإقطاعيين، نظير منافع مادية وسياسية تتبادلها مع هذه الأنظمة.

وبالتالي، وكنتيجة طبيعية، تغلبت مدارس وأيديولوجيات كالعلمانية والأفكار الإلحادية، وشاعت تيارات اللادينية وما اتصل بهذه المذاهب والاتجاهات.

وكان لذلك انعكاسات عميقة على العالم الإسلامي، وبالذات في مرحلة التخلف والتراجع الحضاري والمديني التي تعيشها الأمة منذ بضعة قرون، مع الوقوف أمام النقول، من دون إعمال العقل بخلاف الحال في الماضي، عندما أسّس المسلمون حضارات قوية نهضت بالعلم المادي ذاته، في الأندلس، وفي مصر، وفي العراق، وكانت حواضر مثل بغداد والإسكندرية والقاهرة ودمشق، هي منارات العلم في العالم.

قادت حالة الجمود الفكري في عالمنا الإسلامي، والوقوف أمام المتون وتقديسها كما لو كانت نصًّا قرآنيًّا أو نبويًّا –وهو أمر مخالف للشريعة ذاتها، بل وللعقيدة نفسها– إلى حالة من الانفصام بين منجزات العلم والعقل، وبين النقول التي تم توصيفها بشكل خاطئ على أنها هي الدين.

قادت حالة الجمود الفكري في عالمنا الإسلامي، والوقوف أمام المتون وتقديسها كما لو كانت نصًّا قرآنيًّا أو نبويًّا إلى حالة من الانفصام بين منجزات العلم والعقل، وبين النقول التي تم توصيفها بشكل خاطئ على أنها هي الدين

وزاد من خطورة هذه المسألة، هو إصرار البعض على التصادم بين الدين والعلم بسبب فهم قاصر عميق القصور، ربط بين العلم وبين العلمانية والإلحاد، وهو أمر خاطئ، فالعلم هو اكتشاف العقل الإنساني للقوانين التي خلقها الله عز وجل للعالم، في كل المجالات، بما فيها العلوم البحتة والتطبيقية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء، ومنجزات العلم، لا علاقة لها بالعلمانية؛ لأنها أمر موضوعي قائم يؤكده الواقع. فالإنسان طار في جو السماء، ولا علاقة لذلك بأية علمانية أو دعوات إلحادية.

والغريب المزعج في الأمر أن ذلك يخالف في أبسط قواعده حتى ما قام به المسلمون أنفسهم، حُكَّاماً وعلماء ومفكرين، في فترات تاريخية سابقة، ولم يقل في حينه أحد، بأن التطور والحضارة والمدينية والعلم، أمور تتناقض مع الإسلام!

ويبدو التفكير الضعيف حتى في ترجمة مصطلح “Secularism” إلى “علمانية”، بحيث ارتبطت ما تتضمنه من دعاوى لفصل الدين عن المجتمع والحياة، بكلمة “العلم”، بينما “العلم” في اللاتينية كلمة من اشتقاق مختلف تمامًا، حيث هي تعني: “Science”.

فجاءت الفجوة الكبيرة في المنتَج الفكري الإسلامي في مجال شديد الأهمية، وهو فلسفة العلم من منظور إسلامي ، كما غاب أيضًا المنظور الواقعي السابق لمنجزات العلم، والتطور التاريخي الذي لا خلاف عليه لإنجازات العقل الإنساني في الجانب المادي. وبطبيعة الحال، لو خرج إنسان ونفى هذه الإنجازات باسم الدين، فإنه بطبيعة الحال، لا يخدم سوى خصوم الدين.

والدين المقصود هنا، ليس قضية الإسلام والدعوة الإسلامية فحسب، وإنما الدين كقيمة، وهو أمر شديد الأهمية، فالحفاظ على الدين كقيمة، هو الذي يؤسس لدعوة سليمة للإسلام .

وفي عصرنا الحالي، زاد من وطأة هذه المشكلة تصدر المشهد “العلمي الإسلامي” –لو صح التعبير– إما متحمسون أو غير متخصصين في الجانبَيْن، الشرعي والعلمي.

وهو كذلك أمر مختلف عن ماضي المسلمين، فالعلماء “الماديون” المسلمون، كانوا فقهاء خبراء؛ لأن العلم الشرعي الحقيقي، كان أحد ثوابت حياة المسلم منذ صغره وحتى مماته، فـ”ابن سينا” و”ابن رشد” و”ابن النفيس” و”الإدريسي”، وغيرهم من العلماء المسلمين، كانوا على أكبر قدر من التأهيل في مجال العلم الشرعي، وبالذات الفقه، وكثير منهم له كتب فقهية.

العلماء “الماديون” المسلمون، كانوا فقهاء خبراء؛ لأن العلم الشرعي الحقيقي، كان أحد ثوابت حياة المسلم منذ صغره وحتى مماته

وكان ذلك مهمًّا لضبط تجاربهم وخلاصاتهم وفق “مسطرة” الضوابط الشرعية، مثل المسألة الشهيرة التي واجهها ابن النفيس وهو يقوم بدراسة الدورة الدموية في جسم الإنسان، حيث من غير المقبول شرعًا، نبش القبور واستخراج الجثث لتشريحها، وهو ما تجاوزه علماء غربيون مثل “جاليليو”، وهكذا.

فوصلنا هنا إلى أن المتحمسين قد وصلوا إلى مرحلة من “الإيمان” ربما طغت على الرؤية السليمة المطلوبة لإدارة العلاقة بين الدين من جهة وبين العقل والعلم من جهة، وبالتالي، وفي تطبيق خاطئ وبه شطط لمبدأ أن الإنسان لن يصل إلى عظمة الخالق –وهذا صحيح طبعًا– نفوا قدرة العلم على تحقيق إنجازات معينة في المستقبل، كان العلماء لا يزالون يحاولونها قبل عقود.

هذا النفي غير الرشيد، خالفه الواقع الآن، وبالتالي، لمَّا تشكك هؤلاء المتحمسون في قدرة العلم والعقل على كذا، وفق مقولات دينية، فإنهم ساندوا من حيث لا يعلمون مقولات الملحدين والعلمانيين واللادينيين عن أن “الدين سببٌ في تخلف الإنسانية”، وهو أمر غير صحيح طبعًا.

كما أن الله تعالى له في القرآن الكريم آيات –في سُورتَيْ “المؤمنون” و”الصافات”– ينسب فيها الخلق لقدرة البشر، ولكن دون القدرة على الخلق من العدم التي أفرد الله عز وجل نفسه بها، وفي النهاية، فإنها كلها قوانين وقواعد وضعها الله عز وجل، حتى قدرة البشر على الخلق الجديد دون مستوى الخلق من العدم.. فيقول تعالى مثلاً: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سُورة “المؤمنون”، من الآية 14].

في المقابل، خاض غير متخصصيين في مجالات علمية شرعية لا قبل لهم بها، ولا هم مؤهلون لها، فقام بعضهم بتحويل القرآن الكريم إلى “كتاب للعلوم” أو “كتاب للرياضيات”، وفق –كذلك– فهم خاطئ لآيات قرآنية وأحاديث نبوية تؤكد على شمول القرآن الكريم.

فعندما أكد الله تعالى، والنبي الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على أن كل أمر الإنسان في هذا الكتاب، كان المقصود شيئًا آخر، وهو أن القرآن الكريم شامل لكل ما يتعلق بصيرورات الإنسان في الحياة الدنيا، ومصيره في الآخرة.

وبالتالي، قال البعض بشكل خاطئ إن القرآن الكريم به سبق في نقطة خلق الأجنَّة ومراحل تطورها في بطون الأمهات، بينما “أبوقراط” قال ذلك قبل البعثة النبوية بقرون طويلة، والعلم الحديث تمكن من توليد أجنة في محاضن غير رحم الأمهات.

وبالتالي، أكّد ذلك أيضًا مقولات الفئات المعادية لفكرة الدين ذاتها، ومن خصوم الإسلام، من أن الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هو مَن كتب القرآن الكريم ونقل عن “أبوقراط” –حاشا لله تعالى– أو أن القرآن كتاب قاصر، وهذه كلها خرافات تسبب بعض المسلمين فيها.

لن نخوض في هذا المجال في نقطة أن بعض هذه الأمور قد تم تحريكها لأسباب سياسية مثل نشر مذهب معين من جانب بعض الحكومات في العالم العربي، أو لدعم صورة بعض الجماعات، لكنها مركزية حقيقية، وقادت إلى كل هذه الفوضى والخسائر.

وفي الأخير، فإننا بحاجة إلى إدارة جديدة على مستوى الخطاب والممارسة، بين مقولات الدين واعتباراته، وبين العلم والعقل ومنجزاتهما التي لا يمكن تجاوزها !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى