مقالاتمقالات مختارة

إخوة علي .. خط الدفاع الأول ضد الاحتلال البريطاني في الهند

إخوة علي .. خط الدفاع الأول ضد الاحتلال البريطاني في الهند

بقلم صبغة الله الهدوي

حتى في الظروف الصعبة تجد الأمة قائداً مناسباً لها، كما حدث في معركة حطين وعين جالوت وفي كل الفتوحات الإسلامية التي فتحت القلوب قبل أن تفتح البلدان والأمصار.

وفي عشرينات القرن الماضي، وفي أعقاب انهيار الخلافة العثمانية وصعود الطوائف المتناحرة على العروش العربية والإسلامية، واندلاع صراعات دامية في المجتمعات الدولية التي أطاحت بعروش الإمبراطوريات، كانت الهند تتجه اتجاهاً آخر إذ هبت لجمع شمل المسلمين والتضامن معهم ضد الأطماع البريطانية التي اتسعت رقعتها على الخريطة الإسلامية، فكانت مهد انطلاق حركة الخلافة الإسلامية في الهند تضامناً مع الخلافة العثمانية التي انقض جدارها وتآكل جسدها.

وربما لم يرهف التاريخ إلى تلك البطولات التي قام بها مسلمو الهند، في الوقت الذي انشغل العالم العربي بالتكالب على أنقاض الخلافة العثمانية، واجتمع محيطه وخليجه في خيام المستعمرين بحثاً عن الثغرات في صرح الخلافة، حقاً كانت تلك البطولات لحظة حاسمة في سجل تاريخ الأمة، وكانت أقوى وأعجب من الأفلام الهندية.

فحركة الخلافة التي بدأت بداية عشرينات القرن الماضي كان لها صدى كبير في المجتمع الهندي كافة، بل عملت كهمزة وصل للملمة شتات الهند شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، واندفعت عشرات الآلاف تضامناً مع هذه الحركة التي رفعت معنويات الثوار ضد الاحتلال البريطاني، ولا تذكر هذه الحركة إلا بذكر اسمين جليلين، علقوا بأذهان الأمة، والمعروفين في تاريخ الهند بـ”إخوة علي”.. إنهما الأخوان الشقيقان محمد علي جوهر وشوكت علي، توليا قيادة الأمة في فترة حاسمة مشتعلة وأركعا جبروت الطغاة بهمة تزن الجبال.

الأسرة المقاومة

إخوة علي ينتمون إلى قبيلة فاتان المعروفة في التاريخ ببطولاتها ومغامراتها في ميادين الحرب، ولها جذور عميقة في الهند وباكستان وأفغانستان، وأمهم عابدة بيغم التي ربت هؤلاء الأبطال على قصص عظماء الأمة وأعلامها الأمجاد، ورغم وفاة والدهم مبكراً لم تزل الوالدة تسعى جاهدة بكل ما لديها من الممتلكات، وهي تنفق على أولادها في سبيل دراستهم، فأرسلتهم إلى جامعة عليكرة الإسلامية التي كانت هي الأولى والكبرى من بين الجامعات الهندية آنذاك، فاطلعوا على العلوم الحديثة والثقافة الغربية اطلاعاً واسعاً، ثم غادر محمد علي إلى لندن والتحق بجامعة أكسفورد ونال منها شهادة في التاريخ الحديث.

و”إخوة علي” هم: محمد علي وشوكت علي وذو الفقار علي، إلا أن الثالث منهم لم يحظ بصيت كبير ولم يكن له دور يذكر في السياسة، وامتاز منهم محمد علي بمواقفه الجريئة وخططته المحكمة وخطاباته الهزازة التي ظلت كابوساً يواجهه الاحتلال البريطاني حتى آخر أنفاسه.

ومن الجميل أن نذكر دور أمهم عابدة بيغم التي أصرت على تربية أبنائها حتى ولو كلفها ذلك حياتها، فباعت حُليها وألحقت أبناءها بالجامعات الهندية المشهورة آنذاك، وأرسلت محمد علي للدراسات الدينية بدار العلوم بديوبند، ولا يخفى أن حياة محمد علي لها نكهة خاصة من بين إخوة علي الآخرين، إذ هو الرمز الحقيقي لهذه الثلاثية، وهو الذي خلد اسم إخوة علي في صفحات التاريخ.

محمد علي جوهر: حياة على متن المقاومة

عاش محمد علي جوهر حاملاً في قلبه كل المعاناة والمصاعب التي واجهت عائلته في الثورة الاستقلالية الكبرى التي حدثت عام 1857م، وقتل من عائلته أكثر من مائتين أثناء مواجهة الاحتلال للثوار، إلى جانب ما علمته أمه الشجاعة عابدة بيغم، المحرك الحقيقي وراء تشكيل هذه الشخصية الخالدة.

خاض محمد علي مضمار السياسة مبكراً، وتلمس نبض الشعب الهندي الذي تململ من وطأة الاحتلال، وانتظر ميلاد زعيم يواسي جراحهم، وآمن محمد علي بأن الوطن المهيب لا يصنع من الخضوع والخنوع بل يبنى على معنويات سامية، وأحلام أبية على الاستسلام عصية على الترويض.

في أولى مراحل حياته تماشى مع حزب كونجرس الذي ضم ملايين الهنود، لكن في العشرينات بعد أن لاحظ تغيرات جذرية في مواقف كونجرس وانحياز لمصالح الهندوس، فارقه وودعه وداع البطل، فمن أول تجاربه السياسية أنه اشترك في المؤتمر الذي أقيم لانطلاق رابطة المسلمين لعموم الهند عام 1906م وقدم في ذلك المؤتمر كتابه الموسوم بـ”الكتاب الأخضر” الذي يوضح منهجيته ومسار فكره واتجاهاته السياسية.

وعندما أوشكت الخلافة العثمانية على الانهيار وشاخت وانمحت آثار قوتها من العالم الإسلامي، وأقبلت الإمبراطوريات الكبرى تتقاسم أجزاءها تحت خطط ومشروعات مشؤومة، نهضت الهند بشرقها وغربها تدين هذه الهجمات الضروس، وتستنكر فعاليات بريطانيا وحاشيتها.

غادر إلى لندن كل من محمد علي وسليمان الندوي للتفاوض مع بريطانيا وطلبوا إقامة الخلافة لكن الطلب رفض، فبعد عودتهم إلى الهند أعلنت انطلاق حركة الخلافة في مومباي عام 1921م ليسجل خارج العالم الإسلامي ميلاد موعد جديد، ومضى فضيلته يجوب دنيا الهند بحثاً عن المتضامنين مع هذه الحركة، وحتى في كيرالا أقصى جنوب الهند اصطف الآلاف في هذه الحركة، وفتحوا مكاتب للخلافة، حتى حركت ساكن الاحتلال وهددت سيطرتهم حتى أن أحرق بعض نشطاء الخلافة مراكز جنود الاحتلال، فأهم شيء فعلته حركة الخلافة أنها رفعت معنويات الثوار، وغرست فيهم روح العزم وطوت المسافة نحو الاستقلال وعلمتهم بأن همم الرجال تهدم الجبال وأن القلب المصر سيهزم الجيش الذي لا يقهر.

فلخطابات محمد علي جوهر دور كبير في تحميس الشباب لا سيما أواسط الشرائح المثقفة، حيث أثارت خطاباته موجة احتجاج واستنكار من الاحتلال لا سيما بعد أن سلك أبو الكلام آزاد في هذا السلك السياسي الحاسم، فمما تدل على شدة وفائه للخلافة وللأمة أنه بعث طاقماً طبياً يضم خمسين متطوعاً إلى تركيا في الوقت الذي كانت تركيا تمر بظروف صعبة اقتصادياً واجتماعياً.

وتعد حادثة هدم مسجد كانبور النقطة الفارقة في حياته السياسية، إذ استغل الاحتلال هذه الفرصة لتفريق الشعب وإثارة موجة طائفية بينهم، حتى راح من المسلمين عدة ضحايا جراء القمع والعنف الذي مارسه الاحتلال، فاحتجاجاً على هذه الممارسات القمعية، أقام كل من محمد علي وشبلي نعماني وسليمان ندوي احتجاجاً شديداً ضد مواقف الاحتلال المتعصبة.

وكان لفضيلته ملكة قوية في إبداء الآراء وفي توضيحها حتى دبج سلسلة من المقالات التي تنتقد الإمبراطورية الإنجليزية التي تتربص بالخلافة وبالأمة، فلم يمضِ طويلاً حتى أصدر الاحتلال قراراً باعتقال وزجه في السجون، وفي أيام سجنه انتُخب رئيساً لرابطة المسلمين لتشهد الهند بزوغ سياسي محنك وفي.

وكان دبلوماسياً ماهراً، وفي عام 1926 م حين دب الخلاف بين الشريف حسين وحكومة السعودية استدعاه ملك السعودية ضمن ممثلي الخلافة، وفي عام 1930م مثل مسلمي الهند في مؤتمر الطاولة المستديرة، فسافر إلى الهند غير آبه بصحته وحالته المتعبة، ويحكي عن تلك اللحظات قائد الملة محمد إسماعيل صاحب مؤسس رابطة المسلمين في الهند المستقلة في كتابه “ذكرياتي”:

“رأيت الأخ محمد علي في ميناء ممباي، يريد المغادرة إلى لندن، وقد أضناه العمر وأتعبه السفر، وعيناه تكاد لا تفتح، لكن رأينا قامة تمشي، فلما سألنا عنه وطلبنا منه الرجوع أصر وقال “على قدر ما أفضل حياتي أفضل وطني هذا”، ثم ركب السفينة وكأنه غادر حتى لا يعود إلى الهند المستعبدة”. عاش مدافعاً عن الأمة ولم يتاجر بقضاياها ولم يرتزق، ولم يسمح لأحد أن يغل من حقها أو يغتالها.

ومن مقولاته الشهيرة التي هزت كيان الإمبراطورية: “أنا لا أريد العودة إلى وطن مستعبد، بل سأموت في أي وطن ذاق حلاوة الحرية”.

رحيله

وكان مريض السكر، عانى في حياته منه لزمن طويل، ومات عام 1931 م في لندن، وهو القائل “إما وطن محرر أو مكان لأقبر”، ودفن بأكناف المسجد الأقصى ولم يرجع إلى الهند كما أقسم فأبر، وعنه قال المؤرخ المستشرق اتش جي ويلس: “له قلب نابليون، وقلم ميكالا، ولسان بيرك”.

وزوجته أمجد بيغم لا بد من ذكر سيرتها العطرة، وقفت بكل قلبها وروحها وراء زوجها البطل، وكانت تشترك في النشاطات السياسية، حتى اشتركت كمندوب ولاية أتار برديش في مؤتمرات كونجرس، وعاشت على خطى أم زوجها عابدة بيغم أم الأبطال، وكان لهما الدور الكبير في تنشيط الفعاليات الاستقلالية وتبليغ رسالة المؤتمرات التي تنعقد من أجل الحرية بين النساء، وكانت هي الظل الظليل والوزيرة الناصرة لزوجها الشجاع أينما حل وارتحل، اشتركت في جنازة زوجها بلندن وسافرت إلى فلسطين بعد جهد وتعب لمراسم دفنه بأكناف المسجد الأقصى، إنها يا سادة سيرة العظماء الذين عاشوا في الأرض أعلاماً وماتوا بهدوء كراماً، وإن لقصص العظماء بقية.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى