إبراهيم السكران.. كيف نقد السلفي الحداثة؟!
إعداد محمد فتوح
“عزيزي القارئ.. صدقني ليس المقامُ مقامَ تحليلات فكرية باردة، ولا استمتاع باسترسالات ذهنية على طبق مجاور لفنجان قهوة، لا يا صاحبي..
هذا القرآن ليس مجرد مخزون معرفي، أو تراتيل طقوسية، بل هو رسالة إلهية تحمل قضية هي فوق كل قضية”.
إبراهيم السكران
الزمان: 1424 هـ عام، الحدث: ملتقى الحوار الوطني السعودي الذي قدم فيه آنذاك الباحث السعودي ذو الميول الليبرالية إبراهيم السكران ورقة بعنوان “المقررات الدراسية الدينية.. أين الخلل؟”1، حاول فيها السكران أن يتتبع الخلل في التعليم الديني السعودي، والذي رده إلى البُعد عن التسامح مع المخالف، والحجب عن المَدنية الأوروبية ومفاهيمها، وهو ما دفع السكران إلى الحديث عن تخفيف جرعة التطرق لقضايا الكفر والإيمان، والتسامح مع المخالف، مع تعزيز ثقافة حقوق الإنسان.
لم تمر ورقة السكران مرور الكرام، فقد أثارت لغطا في الأوساط الدينية، وهو ما استدعى عددا من الردود عليها، والتي انبرى لها مُشرعين محسوبين على التيار السلفي السعودي، كان على رأسهم سليمان الغصن، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام2.
بعدها بثلاث عشرة سنة من هذا التاريخ، سيُعتقل السكران، الأمر الذي مَثّل اعتقالا لأهم فاعل في الساحة الفكرية الشبابية بالمملكة السعودية، صاحب المقالات والمواقف الناقدة للحداثة ولبرلة الإسلام في الخليج، وليس اعتقالا لرمز ليبرالي مناوئ للخطاب الشرعي كما كان سابقا3.
تحول السكران خلال هذه الأعوام الثلاثة عشر، من أحد أرباب الخطاب المدني، إلى أشرس المناوئين والمُحاكمين له على قواعد وأصول القرآن. حيث انطلق السكران من القرآن لنقد الفكر الذي تلبّس به من قبل، وكان أول ما بدأ به السكران هو نقده لنفسه، إذ يقول: “فإن ما كتبته قبل ورقة المآلات يستحق اللوم والتقريع، وأنا أبرأ إلى الله من كل حرف خططته قبل ورقة مآلات الخطاب المدني، وأُحذر كل شاب مسلم أن يغتر بمثل هذه المقالات التي كنت فيها ضحية الخطاب المدني المعاصر الذي يغالي في الحضارة والتسامح مع المخالف”4.
وبحسب الحالة العامة للخطاب الفكري الإسلامي، فإن السكران كان على معرفة بمناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع اطلاع مباشر على المصادر الأجنبية التي كثيرا ما ينقل عنها، وقد أهّله ذلك، مع معايشته الذاتية للحالة المدنية ودرايته الشرعية، لأن يحلل الإشكالات الواقعة بين الدين والحداثة دون أن يُكثِر من الخطاب الحِجَاجِي والوعظيّ كعادة الإسلاميين في النقد، وهو ما يُكسب نقده قيمة مضافة في الحالة الإسلامية بعموم، والسلفية بخصوص.
ولا يتوقف الأمر بالنسبة للسكران على حد التحول الفكري فحسب، وإنما يتعداه ليُمثل حالة فريدة لشباب الصحوة السعودي؛ فهو من الشباب المثقف وغير المنسجم في الوقت ذاته مع سياسات آل سعود الرسمية. وهو ما سيجعل السكران مع الوقت خارجًا عن النمط المألوف في تيار طاعة ولي الأمر والذي يمثله كلا من التيار المدخلي والعلماء التقليديين في المملكة. وهذه الجرأة التي صحبت السكران في النقد هي ما فسر به البعض (5) دوافع السلطة السعودية في اعتقاله مبكرًا، لاسيما بعد تنامي شهرته في الأوساط الشبابية، إذ كان هذا الحدث استباقا لقدرة السكران على التأثير في التيار العام في المملكة.
“صدقوني أيها المسؤولون أن كل شاب مُتحفظ عليه عائلته كلها وأقاربه وأخلاؤه وأصدقاؤه تتنامى فيهم بذور تصدع الانتماء، والسخط، والكراهية للجهات الأمنية، وليس في صالحنا جميعاً أن تكون مؤسساتنا الأمنية خصماً للمجتمع.”
(إبراهيم السكران)
في الثاني من شعبان عام 1432 هـ تجمهرت مجموعة من نساء المعتقلين للشكوى بغياب ذويهم، وهو ما دفع الأجهزة الأمنية في الرياض إلى تطويقهن واقتيادتهن إلى مقرات البحث الجنائي، وهو سابقة فريدة من نوعها. ليخرج السكران بعدها في مقطع مرئي سماه “إلا النساء يا خادم الحرمين”. وجه السكران رسالة مباشرة إلى الملك يشجب فيها هذا التعامل مع المرأة ويصفه باعتباره فعل مفتقد للشهامة والرجولة والنخوة وهو ما بدى غير مألوف في الأوساط السعودية، وقد نقل على الهواء بنبرة تصعيدية رسائل أمهات وأهالي المعتقلين في السعودية، وطالب بالإفراج عنهم.
وقبيل الربيع العربي، سلط السكران قلمه في مقالاته لقضايا الشأن العام، فتصدى لقرار الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة، بمنع حلقات تحفيظ القرآن وكتب مقالًا سماه (القرآن لا يغيِّب البسمة!)
لم يكن هذا المشهد هو الأول في تعامل السكران الشاجب لسياسات المملكة، فقبل أن يُعرف السكران على مستوى خارج عن السياق المحلي بكتاباته الفكرية، كرر في عدد من المقالات نقده لضعف الإصلاح السياسي في المملكة وانخفاض سقف الحريات واعتقال عدد من الناشطين والمشايخ في المملكة.
امتزج هذا الموقف غير المتناغم مع السلطة بترسانة فكرية وإيمانية، وبهذه الرسائل السياسية والفكرية الإيمانية؛ اكتسب السكران شهرته في الأوساط الشبابية مما جعلت له زخمًا شعبيا أهله لأن يقود دورا فاعلا في الحياة العامة.
“أنا أعتقد أن أعظم منتج فكري قدمته الحالة السلفية في المشهد السعودي هو “مآلات الخطاب المدني” لإبراهيم السكران”.
الباحث السعودي عبد الله العجيري
بحسب ما يرى عدد من الباحثين فإن كتاب “مآلات الخطاب المدني” هو حالة إعلان إبراهيم السكران لتبرؤه عن الحالة التنويرية التي تلبس بها فترة من الزمان، ومن ثم رجوعه إلى الفكرة الإسلامية، إذ اشتبك السكران في المآلات مباشرة وبلا هوادة مع القراءة المَدنية للإسلام، والتي بدأت نغمتها تطفو في الخليج منذ أحداث سبتمبر/أيلول 2001م. وقد أراد السكران في “مآلات الخطاب المدني” مُحاكمة الخطاب الإسلامي المُلبرل[أ] وبِنيته التي أُسس عليها، وهو ما أوضحه السكران بقوله: “فهذه الورقة مُكرَّسة لقياس علاقة الخطاب المدني بأصول الوحي”4.
اعتبر السكران أن أصحاب الإسلام المدني قد وضعوا التراث الإسلامي في قفص الاتهام، وجذبوه جذبا نحو الإجابات الحداثية بحثا عن معنى للوجود وغاية الإنسان ووظيفته، بيد أن هذا الخطاب في الوقت ذاته لم يبال باقترابه أو ابتعاده عن المقصد الإلهي للدين والإسلام ذاته! ويواصل السكران رؤيته للخطاب الحداثي باعتبار أن الخطاب قد صب اهتمامه باتجاه تقريب الدين من الذوق الأوروبي وتأسيس قيم الحداثة من الدين ذاته، مثل مفاهيم المدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية الأوروبية، أو بتعبير السكران: “تحول الوحي من حاكم على الحضارة إلى مجرد محامٍ عن منتجاتها، إذ يبررها ويرافع عنها، ولا يُقْبَل من الوحي دور غير ذلك!”. وهو ما أحدث تلفيقا في المفاهيم التراثية وتغييبا لمنطلقاته تحت تسميات مثل “أنسنة التراث” و”أُطروحة السلم المطلق”، ويرى السكران أن الحداثيين قد حرصوا أن يقدموا هذه المفاهيم فيما سماه “سلطة الغموض للعبارة” لتكون أكثر رواجا بين الناس.
أما مواطن النزاع بين الإسلام والحداثيين في رؤيتهم للكون والوحي والدين فيُرجعه السكران إلى مُحددين أساسيين، الأول ينطلق من سؤال: “ما وظيفة الإنسان؟!”، والثاني يتمثل في الإجابة عن سؤال: “ما غاية الحضارة، وأين تقع أولوية المنجزات المادية في منزلة الوحي؟!”5.
“هذا الأسلوب الذي تسلكه الولايات المتحدة اليوم في الرهان على الخطابات الدينية المُلبرلة ليس سلوكا غريبا ومفاجئا ومبتكرا، إذ تم توظيفه مبكرا من الدول الاستعمارية في لَبرلة الأحكام الشرعية”.
إبراهيم السكران
“ما وظيفة الإنسان؟”، من هذا السؤال يمكن الانطلاق لفهم الاختلافات الجوهرية بين الحداثة والإسلام في تعاملها مع الإنسان والكون. حيث يذهب السكران إلى أن الاتجاه المدني قد حصر وظيفة الإنسان فيما يُخدّم على قِيم إنتاج السوق والتقدم واللَبرلة الاقتصادية، وطَوّع الوحي والشرائع على اعتبارهما روافد لتحقيق قيم الحضارة والمَدنية، وهو ما يتم أحيانا باسم عمارة الأرض. وقد اعتبره السكران إغفالا لشأن الإنسان ذاته والمكانة التي ينبغي أن يكون عليها في التصور الإسلامي، فالإنسان في الدين الإسلامي وُجد لشيء فوق العمارة، والكون كله ذُلل له، وذلك باعتبار أن العمارة تابعة في الإسلام لغاية أكبر وليست هي الغاية في ذاتها، يقول السكران: “الله خلق الإنسان، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، لتدل الناس على الله وعبادته، وذاك مصداق قوله تعالى: “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور”6.
أما العمارة وأسئلة التمدن فهي واجب ديني، إذ بحسب المبدأ الأصولي الشهير “ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب”، بيد أن هذا الواجب في موطن التابع وليس المتبوع. إذ بالنظر إلى سُلم الأولويات التي ركّز عليها الوحي تأتي المَدنية والتقدم التقني ضمن منظومة الإيمان وتحت مظلته، بيد أنها ليست الأولى فيه وليست فوق حدوده وأركانه، يقول السكران: “بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداراة ولا التفاف، فإن الحضارة بالمعنى الشائع والتي تعني خلق الرفاه البشري، إنما هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي وليست الغاية أو الأولوية المركزية، كما نحب أن نتظاهر بذلك”7.
هذا الخلل، أدى إلى اختلاف في المنطلقات بين الإسلام والحداثة في التعامل مع الإنسان، إذ إن دعاة الإسلام الحداثي، حصروا المفاهيم الشرعية في بوتقة ضيقة من النصوص مع إغفال موازٍ لكثير من أبواب التدين، وهو ما أنتج في خطابهم تزهيدا في الشرائع ذاتها وعدم دفع الناس إليها كما دفعوهم إلى قيم التمدن، حتى باتت كتابات الحداثيين نابعة من تكيف خاص ومزج بين الوافدات الغربية والإسلام وليست نابعة من موقف معرفي متجرد8.
“أعطوني ختمة واحدة بتجرد.. أعطيكم مسلما حنيفا.. ودعوا عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة”.
إبراهيم السكران
عمد السكران إلى أسلوب “براغماتي” في توظيف العلوم الاجتماعية لنقد الحداثيين العرب، وهو ما لم يألفه الإسلاميون والحداثيون من قبل في السجال الفكري. وجعل السكران مرد القول والرفض للأفكار الحداثية هو الرؤية التي ينشرها القرآن، إذ عمد السكران في أغلب محاجاته إلى أن يعرض القضايا الحداثية، مثل قضايا الوحي بين الأنسنة والقدسية[ب]، ودور النبوات في تشكيل منظومة الأفكار للبشرية، ووظيفة الإنسان بين الوحي والحداثة، ومرتبة المدنية في الدين، وغيرها من القضايا الشائكة، وقد عمد السكران إلى عرض هذه القضايا على القرآن أصالة، واعتبر في كتابه “الطريق إلى القرآن” أن أي سبيل آخر إنما هو بمنزلة تطويل للطريق الفكري وليس تقصيرا له، يقول السكران: “حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛ فلا أخفي أنني أحترم تماما حرصهم على سلامة التصورات الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر.. لكنني أرتاب كثيرا في نجاعة هذا الأسلوب الذي يريدون.. وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية المعاصرة أسهل بكثير مما نتصور، فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم بالقرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -الباحث عن الحق- كل التحريفات الفكرية المعاصرة”9.
لم يكتف السكران بعرض هذه القضايا على الوحي وحسب، بل عمد إلى الربط الإيماني وتجييش العاطفة الإسلامية في مناقشته للأفكار الحداثية، واعتبر أن تبرم الحداثيين من محاكمة أصولهم إلى القرآن بدعوى الدغمائية[ج] إنما هو إرهاب خفي، يقول السكران: “كم هو مؤلم أن يصير الإبداع في نظر كثير من المثقفين هو ألا تُكثِر من القرآن والسُنة في كتاباتك، وإنما الإبداع هو أن تحشو مقالاتك بذكر فلان وفلان من الأسماء الفرانكفونية الرنانة”. بهذا النهج حدا السكران في تعاطيه مع التراث بحرص على تخرج كتاباته بمظهر مختلف عن عموم الإسلاميين والحداثيين على حد السواء، فهي ليست أكاديمية خالصة، وفي الوقت ذاته ليست بالوعظ الخطابي الخالي من القيمة الفكرية. وقد استمر السكران على هذا النهج بالجمع بين التزكوي والفكري، وأفرد كتبا تزكوية عمد فيها إلى ربط القلوب بالقرآن، واعتبره الطريق الأقصر للخلاص من الشبهات الفكرية، كما أنه الطريق الأقصر لمعرفة الله والفوز في الدنيا والآخرة، ليكتب عددا من الكتب التي يغلب عليها الطابع الإيماني والتي لا تخلو من فوائد فكرية مثل “الطريق إلى القرآن” و”رقائق القرآن” و”مسلكيات”.
“إذا رأى متدبر القرآن هَدْي القرآن في هذه القضايا، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب من معرفة الحق”.
انطلق السكران تجاه القضايا الشائكة بين الحداثة والإسلام، ونفى ما أورده الحداثيون باعتبارها قضايا قابلة للتأويل والمناقشة، واعتبر أن القرآن قد حسم كثيرا من هذه القضايا. فالحضارة بين الوسيلة والغاية، على سبيل المثال، لم يجعلها القرآن -بحسب السكران- عُرضَة للتأويل الحداثي والنسبية الفكرية، فقد قطع القرآن بأن غاية العباد أن يتعرفوا على ربهم وليس أن يقيموا الحضارات فحسب، وقد سَمّى القرآن حضارات لها إسهامات إنسانية كبرى مثل قوم عاد وثمود والفراعنة، وبعدما أقر بما ملكوا من المعارف المَدنية فقد ذكرهم بالذم لفساد إيمانهم، ويُظهر هذا أن المقصود الحقيقي من الدين هو تحقيق الوحي الإلهي بكل ما يحويه وليس تحقيق المنتج الحداثي مجردا عما سواه.
ويعتبر السكران أن تعامل النبي مع هذه القضايا هو المعيار للتعامل معها بصرف النظر عن ضغط الواقع الحداثي الراهن، فحين النظر للفترة التي بعث في النبي محمد، كانت هناك حضارات كبرى قائمة مثل المصرية القديمة والإغريقية والرومانية والفارسية، وملكت كل حضارة من التقدم والمآثر الدنيوية الكثير، بيد أن هذه المدنية وحدها لم يُدْعَ إليها المسلمون ولم يرشدهم نبي الإسلام إليها بمعزل عن المقصد الإلهي الأكبر من الدين، ولم تكن دعوة النبي فيما يقول السكران بأن يقول للناس: “يا معشر العرب أنتم تعانون من التخلف المدني وعليكم أن تتعلموا من الأمم الأخرى، واعرفوا قدر أنفسكم أمام غيركم”10، وإنما كانت دعوته في أساسها أن يستسلم الناس للإسلام، ويذعنوا لتشريعاته بصرف النظر عن الموافقة والمخالفة للذوق الداخلي في هذه الحضارات. وقد تتبع السكران في كتابه “سلطة الثقافة الغالبة” الأثر الثقافي الذي خلّفته هيمنة المعرفي الأوروبي على الفكر الإسلامي الحديث، وما تبع هذا من هيمنة المعرفي الأوروبي ومنتجه الثقافي وقد تسرب هذا المعرفي إلى الديار الإسلامية،11 والذي يعتبره السكران تغلغلا في اختلال معيار النظر عند المفكرين الإسلاميين في تلقي النصوص الشرعية والتعاطي معها، وقد صحبه توظيف عدد من المصطلحات الإسلامية مثل “الوسطية” و”الخلاف الفقهي” وجعلها آليات للَبرلة الإسلام!
“فمع كل النصوص التي ابتسروها عن ابن رشد أو الشاطبي أو ابن خلدون أو ابن حزم أو غيرهم، تظل هذه النصوص ذاتها تنقض النتائج النهائية للمدرسة الحداثية”.
إبراهيم السكران
في كتابه “التأويل الحداثي للتراث” يرصد السكران “عمليات إعادة التأويل التي مارستها مدرسة الحداثيين العرب على الوحي والتراث من استحضار أو استبعاد موجه لنصوص وأعلام مُعينين، كُل ذلك بهدف التوافق مع الصيغة المادية الحديثة”12. وبحسب السكران فقد بُتِرت نصوص إسلامية لأعلام مثل الشاطبي وابن حزم وغيرهما لخِدمة مقاصد حداثية تزيّنت في ثوب أنثروبولوجي إسلامي أو تحت تسميات مناهج الفيلولوجيا[هـ] ومن ثم تأويلها من جديد.
وقد استشرى تيار الإسلام الحداثي في مفكري المغرب العربي، وأهّلهم لهذا الدور اتصالهم بالفرانكفونية الفرنسية ومناهج تعاملها مع الفلسفة والدين. وبحسب عالم المقاصد المغربي أحمد الريسوني فإن هؤلاء المفكرين “يتبنون منظومة الحداثة الغربية وقيمها وفكرها وأنظمتها، وينادون بالسير في طريقها واتخاذها مرجعا ومنهجا ونموذجا لتحقيق التقدم ومسايرة العصر في عالمنا العربي والإسلامي”13.
ومنذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حلّت هذه الأسماء في المشهد الثقافي، بل باتت “الشريحة التي تقرأ أيام أزمة الخليج مجلة المجتمع ومجلة البيان، والمودودي، وسيد قطب، والندوي، ومحمد قطب، والغزالي، وفتحي يكن، والراشد، وجمال سلطان، وبالكاد فهمي هويدي ومحمد عمارة، وتكتظ أدراج سياراتهم بأشرطة العودة والحوالي، أصبحوا عشية سبتمبر يقرؤون للمدرسة الفرانكفونية المغربية من محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي، وعبد المجيد الصغير. وقليل من المشارقة مثل حسن حنفي، وطيب تيزيني، ونصر حامد، وعبد الجواد ياسين، وحسين مروّ، وفراس السواح، وعلي حرب”14.
من هنا ركّز السكران في سجاله مع هؤلاء على تأويل الحداثيين للتراث في سؤال: “من أين جاء الحداثيون العرب بهذه المادة التراثية الخام؟!”، وقد سلّط السكران الضوء على مصادر الاستمداد لهؤلاء المفكرين وآلياتهم في التعاطي معه، إذ لا يُعرف بين هذه الأسماء متخصص في الشريعة أو تحقيق التراث العربي، وخلص السكران إلى نتيجة أن “بعد دراسة مشروعات التأويل الحداثي للتراث اتضح له أنها استمدت أعمال المستشرقين، وخصوصا الأعمال الاستشراقية المصوغة وفق مناهج الفيلولوجيا”.
“ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا، باب نقد المرويات التاريخية، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيره، تنويها بتدقيقهم العلمي، واعترافا بفضلهم على التاريخ”.
أسد رستم – “مصطلح التاريخ”
كثيرا ما عمد المستشرقون إلى نسبة معارف الإسلام لحضارات سابقة، إذ “بحثوا في أقرب ثقافة سابقة، وحاولوا اتهام الفقهاء بالاقتراض منها”، بل ونسب بعضهم تشريعات الإسلام لمعتقدات يهودية أو مسيحية، يقول الحداثي التونسي هشام جعيط: “إن التأثيرات المسيحية على الخطاب القرآني أهم بكثير من التأثيرات اليهودية…، وإن أهم المؤرخين مثل فلهاوزن وتور أندري، يقررون قوة التأثير المسيحي”15. فهذه الرؤية التي كثيرا ما صدرها المستشرقون باسم الفيلولوجيا قد اعتبرها السكران تخطيا للبحث المتجرد الجاد، وبوصفه نهج يخدم الاستشراق في رد حضارة الإسلام إلى حضارات سابقة عليه.
ومن الباب ذاته، رد عدد من المستشرقين شرائع الإسلام إلى ثقافات قديمة، ومن ذلك ما زعمه المستشرق الإيطالي نيللينو عن استمداد الفقه الإسلامي من القانون الروماني في بحثه “نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الروماني”، إذ ذهب إلى أن “بلاد ما وراء النهرين والعراق، في المنطقة التي كان فيها قلب دولة الساسانيين، نشأ وتعلّم مؤسسا المذهبين السُنيين: أبو حنيفة وابن حنبل، وكذلك الشافعي في أول أمره، فمن المعقول نظريّا أن يكون هناك إمكان لتأثير القانون الساساني!!”16.
وهذا الزعم برد عوامل الحضارة الإسلامية إلى حضارات أو أديان سابقة مما استفاض المستشرقون في الدندنة حوله حتى اعتبر بعضهم أن علوم التراث الإسلامي ذاتها قد نشأت بفعل حضارات أخرى ومن ثَمّ اعتُبرت الحضارة الإسلامية ذاتها وافدا أجنبيا. وقد رأى السكران أن تأويلات الحداثيين العرب للتراث الإسلامي تدور في الفلك ذاته ومن المصادر ذاتها دون تروٍّ أو تدقيق أو استقصاء، بل بنقل حرفي وبلغة أجنبية عن اللغة التراثية المعتادة، وهو ما حدا به إلى أن يفنّد بمجهود تاريخي وعلمي تناقضات الاستشراق في أربعين صفحة، ثم علّق قائلا: “ماذا بقي لنا من ذرة حياة لم يسلبها المستشرقون ويُهدوها لقوم آخرين! ولا أظن أن هناك تطرفا في التوفيد أكثر من هذا التطرف!”.
وحين تتبع السكران الحداثيين العرب فإنه عمد إلى التمثيل الحي لأفكارهم وترجمتها الفعلية في مناهج الاتصال بالمستشرقين، فالجزائري محمد أركون كثيرا ما يُقرّ بتكوينه واستمداده من الاستشراق الفرنسي، أما الحداثي التونسي عبد المجيد الشرفي والذي يعتبر في رأي السكران من أفضل من يُعبّرون عن الخريطة الحداثية العربية، إذ إنه “مُدرس حداثي” أكثر من كونه “مؤلفا حداثيا”. أما “فهمي جدعان” فقد أفرد له السكران دراسة مستقلة نقد فيها المغالطات التاريخية في دراسته “المحنة، جدلية فهم الديني والسياسي” التي اعتمد فيها جدعان على كتابات الألماني الشهير فان إس، وأعاد بهذه الكتابات تأويل أفعال أحمد بن حنبل بصورة بعيدة عن الاستقصاء للمرويات لكنها توافق المزاج الحداثي العام في النظرة إلى التراث الإسلامي.
لم يكتف السكران ببيان الاستمداد التكويني للحداثيين العرب، بل بيّن الخضوع التام من هؤلاء الباحثين للموروث الأوروبي في التعامل مع التراث، وهذا ما قرره بعضهم بالفعل، حيث يقول محمد عابد الجابري في كتاب “نحن والتراث”: “ورثت الثقافة العربية الإسلامية كل علوم المعقول واللامعقول في الثقافات القديمة”17.
وهذا ما يجعل دراسات الحداثيين العرب صورة من صور رد كل مفاهيم التراث الإسلامي التشريعية وأحيانا العقدية إلى الثقافات السابقة للإسلام، وهو ما يُصور التراث كحالة اقتراض ثقافي، وسط غياب لاستحضار الوحي ودوره في تشكيل هذه التصورات والمعارف الإسلامية.
يستطرد السكران في آليات المنهج الفيلولوجي، إذ بيّن العلاقة بين القرآن والكتب السماوية السابقة، وهو ما يغيب عن أذهان كثير من الحداثيين العرب، إذ إن هناك قدرا من المفاهيم المشتركة بين الكتب السماوية كلها، كما أن بقايا النبوات والكتب السابقة لها عامل مؤثر في تشكيل ثقافة الأمم، إذ يقول ابن تيمية: “الرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية كالإيمان بالله والرسل واليوم الآخر، وهذه الأمور من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع” وذلك مصداق الآية الكريمة: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى”.
“والمراد أن الطعن في أغراض الأنبياء والمصلحين بالدوافع السياسية المادية هو أسلوب قديم ذكره القرآن، وإنما جاء المستشرقون وأكثروا من الطرق عليه في تفسير التراث الإسلامي، وجاء الحداثيون العرب واستعاروا ذلك منهم”.
إبراهيم السكران
يستأنف السكران تتبع الحداثيين العرب في تعاملهم مع التراث بنظرة التسييس لأحداثه، والتي تظهر في كتاباتهم، فعبد المجيد الصغير يُعتَبر في كتابه “الفكر الأصولي” مثالا واضحا على تفسير علم الأصول تفسيرا سياسيا، وهو الكتاب الذي رد عليه غير واحد، منهم الأصولي المصري محمود عبد الرحمن، رئيس قسم الأصول بجامعة الأزهر، في رسالة سماها: “نشأة علم أصول الفقه والرد على المستشرقين والمستعربين”.
هذه الرؤية في تفسير التراث الإسلامي بصورة سياسية قد نقدخا السكران بصورة تاريخية ممنهجة، وأورد مثالا لمغالطات الحداثيين في ذلك بالقصة التي ابتدعها المستشرق جولدتسيهر بأن الإمام الزهري هو من وضع حديث شد الرحال، إذ روى البخاري ومسلم: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى”، وكان غرض الزهري السياسي محاباة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ضد منافسه عبد الله بن الزبير. وقد فنّد السكران هذه القصة تاريخيا وعلميا، فالزُهري وُلد سنة (51هـ) وكان قتل ابن الزبير عام (73هـ)، وقد وفد الزهري على عبد الملك بن مروان عام (82هـ)، أي بعد موت ابن الزبير بتسع سنين، أي إنه في هذه الفترة لم يكن هناك نزاع سياسي من الأساس. علاوة على المنهج التاريخي، استخدم السكران مصطلح الحديث وقواعده في رد عنصر التسييس، إذ إن هذا الحديث قد انتشر قبل أن يُولد الزهري، فالحديث مرويّ كذلك عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة من طريق ابن عمر وهو غير رواية الزهري، فلو زالت رواية الزهري لبقي الحديث من طُرق أُخر.
وهذه الأمثلة التي نسجها الحداثيون العرب في رد العلوم الإسلامية إلى عوامل سياسية وحسب اعتبرها السكران براغماتية في التعامل الحداثي مع التراث، إذ إن عددا كبيرا من هؤلاء المفكرين مقربون من صناع القرار السياسي، فالمفكر المغربي عابد الجابري، على سبيل المثال، في الوقت الذي فسر فيه نشأة العلوم الإسلامية بتزلف الفقهاء إلى الحكام، كان هو يتزلف إلى ملك المغرب، الملك حسين، ويعلن: “الملك يتمتع بشرعية تاريخية لا ينازعه فيها أحد”. والأردني فهمي جدعان، الذي أظهر محنة الإمام أحمد بصورة سياسية بعيدة عن عقيدة أحمد الإسلامية، حين سُئل في حواره مع مجلة نزوى الثقافية عن أهم المفكرين العرب وإسهاماتهم للثقافة العربية المعاصرة ذكر أسماء مثل “عابد الجابري وكمال عبد اللطيف وعبد الله العروي والسيد ياسين وحسن حنفي وجابر عصفور”، ثم أردف: “ومن عندنا في الأردن لا شك في أن الأمير الحسن بن طلال هو واحد من المفكرين العرب المرموقين”. وهو ما يعتُبر تناقضا واضحا وكيلا بمكيالين.
(المصدر: ميدان الجزيرة)