مقالاتمقالات مختارة

أَيْنَ النُّسْخَةُ الخَطِّيَّةُ لِصَحيحِ البُخارِيِّ؟

أَيْنَ النُّسْخَةُ الخَطِّيَّةُ لِصَحيحِ البُخارِيِّ؟

 

بقلم الشيخ مروان الكردي (خاص بالمنتدى)

 

هذَا السُّؤالُ يسالُهُ بعضُ المُعارِضِينَ لِيُشَكِّكُوا في صَحيحِ الإِمَامِ البُخاريِّ، كَمَا سَأَلَ صاحِبُ كِتَابِ الأُسطُورَةِ- عَامَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَأبْصَرَهُ رُشْدَهُ-: “نحنُ نُسائِلُهم أنْ يدُّلونا على هَاتهِ المخطُوطَةِ، أينَ هيَ الآنَ؟ أينَ توجَدُ؟ في أيةِ مكتبةٍ أوْ متحفٍ، هيَ راقِدَةٌ، أو محنطةٌ، أو مخزنةٌ؟ لكن صدِّقُوني… لا أحدَ من هؤلاءِ الشُّيوخِ يعرِفُ، لكِنَّ الحقِيقةَ الَّتي يريدُونَ إِخفاءَهَا، ونحن نعمَلُ عبرَ هذا الكِتابِ اليومَ على إظهارِهَا، وهيَ أنَّهُ لا يوجدُ في العالمِ أجمَعَ مخْطُوطةٌ واحِدةٌ، بخَطِّ محمَّدِ بنِ إِسماعيلَ البُخاريِّ، لصَحيحِ البُخاريِّ”([1]).

أقُولُ: لَا أدرِي مَا هَذَا التَّطبِيلُ حولَ وجُودِ نُسْخَةٍ مَخطُوطَةٍ مِنَ الكِتَابِ؟ وَلا أعرِفُ لمَاذا هذا الخِطَابُ العَجيبُ مِنَ الكَاتِبِ وَكأنَّهُ أوجدَ مَالا يُوجَدُ وَظَفَرَ بِمَا لا يُظْفَرُ بِهِ؟! وَالأعجَبُ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ أنَّهُ سَطَرَ العِبَارَاتِ بِشَكْلٍ يُوهِمُ أنَّهُ أوَّلُ مَنْ تطرَّقَ إلَى هذِهِ القَضيَّةِ وَاكتَشَفَهَا معَ أنَّ غيرَهُ مِنَ المُشكِّكينَ سَبَقُوهُ بِسِنينَ، وَلَم تَكُنْ خَافِيَةً عَنْ عُلَمَائِنَا، وَلكنَّهُم لَم يلقُو لَهَا بالًا لأنَّ البُخَاريَّ وَصَلَهُم بِطُرُقٍ لَمْ تَبْقَ أَمَامَ أَهْلِ زَيغٍ كَلَامًا وَلَا مَقَالأً فِي التَّشكِيْكِ!

فَعَلَى كُلِّ حَالٍ أنَا آتِي ببَعضِ النِّقاطِ، وفيهَا مَا يَروي ظَمَأَهُم إِنْ كَانُوا ظَمْئَانِي الحَقِّ بإِذنِ اللهِ تَعالَى، وَهِيَ:

الأُولَى: أنَّ أحاديثَ البُخاريِّ اُعتُمِدَ في نَقلِهَا عَلى الرِّوَايَةِ وَحفْظِ الصُّدُورِ لَا السُّطُور، لَعَمْرُ اللهِ هُنَاكَ اختِلالٌ فِي المِيزَانِ وَخَرْقٌ للقِيَاسِ عِنْدَمَا تَرَى وجُودَ نُسْخَةٍ مَخطُوطَةٍ أَقْوَى مِنْ حِفْظِ أَلْفِ شَخْصٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ!

الثَّانِيَةُ: أنَّ التَّشْكِيكَ فِي هذِهِ الطَّريقَةِ تَشكِيكٌ في كِتَابِ اللهِ تَعالَى، لأنَّهُ أيضًا اعتُمِدَ عَلَى الرِّوايَةِ فِي نَقْلِهِ أَكْثَرَ مِنَ الِاعتِمَادِ عَلَى المَكتُوبِ.

الثَّالِثَةُ: أنَّهُم عندَمَا يتَكَلَّمُونُ عَنْ إِثباتِ وصُولِ القُرآنِ الكَريمِ كَمَا أُنزِلَ ويقولُونَ: إِنَّهُ جَاءَ إِلَيْنَا بالنَّقْلِ المتَوَاتِرِ، فَاعتِمَادُهُم على الرِّوَايَةِ أَوَّلًا، وَلَا أدرِي لِمَاذا يَرْفُضونَ الرِّوايةَ للسُّنَّةِ وَلا يَقْبَلُونَهَا؟!

الرَّابِعَةُ: مُنْذُ مَتَى وجُودُ النُّسْخَةِ الأَصْلِيَّةِ مِنَ المؤلِّفِ صَارَ شرْطًا لَقَبُولِ نِسْبَةِ الكِتَابِ؟ إِذَا اشْتَرَطُوا هذَا الشّرْطَ فَيَكُونُ هناكَ مَنْ يَسألُهُم: أَينَ النُّسَخُ الأُولَى المَكتُوبَةُ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ، الَّتِي كانتْ مِنَ اللِّخَافِ وَالعُسُبِ وَغَيْرِهَا؟! وَبِهذَا يَخْسِرُ الأُمَمُ كَثيرًا مِنْ تُرَاثِهِم([2]).

الخَامِسَةُ: أنَّ المعَارِضِينَ تلَقَّفُوا هذِهِ الشُّبْهَةَ مِنَ المُستَشرِقينَ، وَمَعَ هذا نَجِدُ المُستَشرِقينَ وَغيرَهُم مِنْ عُلَمَاءِ الغَرْبِ لَا يَتَعامَلُونَ مَعَ تُراثِهِم بهذَا الشَّكْلِ، بَلْ يُثْبِتُونَ نِسْبَةَ الكُتُبِ إِلَى أَصْحَابِهَا بأدْنَى الإِشَارَةِ مِنَ المؤلِّفِ فِي كِتَابٍ آخَرَ لهُ، أَوْ بِشَهَادَةِ أَحَدِ تلامِيْذِهِ، أوْ بِطَرِيْقٍ أُخرَى مِثْلِ هذهِ الطُّرُقِ، وَلَا أَدرِي لِمَاذا يَكُونُ كُلُّ هذِهِ القَسْوَةِ مَعَ الصَّحِيْحِ؟!

السَّادِسَةُ: الأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى أنَّ هذَا الكِتَابَ المَوجُودَ بينَ أَيدِينَا هُوَ للبُخَارِيِّ، وَكُلُّ جِيلٍ أخَذَهُ عَنِ الجِيلِ الَّذِي فَوْقَهُ بالتَّوَاتُرِ، وَشَهِدُوا بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ، فَهَلْ هُنَاكَ طَرِيْقَةٌ للإِثْبَاتِ أَقْوَى مِنْ هذِهِ؟

السَّابِعَةُ: أنَّ العَقْلَ يَرْفُضُ التَّشْكِيْكَ فِي نِسْبَةِ هذَا الكِتَابِ إِلَى الإِمَامِ، لأنَّ لَهُ نُسَخًا كَثيرَةً انْتَشَرَتْ فِي الأَقْطَارِ المُختَلِفَةِ، وَلَيْسَ بَيْنَهَا خِلافٌ يَضُرُّ بِهِ وَيُشَكِّكُ فِيْهِ، فَاتِّفَاقُ النُّسَخِ مَعَ بُعدِ الأقْطَارِ شَرْقًا وَغرْبًا خَيرُ دَليلٍ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الكِتابُ.

الثَّامِنَةُ: لَم نَرَ مِنَ المُخالِفينَ مَنْ تَصَدَّى إِلَى التَّشْكِيكِ فِي نِسْبَةِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ إِلَى الإِمَامِ، فَلَا شَكَّ أنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَدْنَى ريبةٍ فِي النِّسْبَةِ لَاعتَرَضَ المُخَالِفُونَ مِنَ المِلَلِ الأُخَرى وَالفِرَقِ الإِسلاميَّةِ، كَمَا لَمْ يَسكُتُوا عِنِ اعتِرَاضِهِم عَلَى بعضِ الأَحادِيْثِ، كَاعتِرَاضِ النَّصَارَى وَالمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيْعَةِ عَلَى بَعْضِ الأَحَادِيثِ.

التَّاسِعَةُ: هَبْ أنَّ البُخَارِيَّ لَمْ يَبْقَ لَهُ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَى الآنَ، فَمَاذا تَفْعَلُونَ بِنَقْلِ الفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمُ الحَديثِيَّةِ وَالمُفسِّرينَ فِي تَفَاسِيرِهِم وَالعُلَمَاءِ الآخرِينَ فِي كُتُبِ الآدَابِ وَغيرِهَا مِنَ الكُتُبِ، حيثُ نَقَلُوا إِلَيْنَا مُعْظَمَ أحاديثِ البُخَارِيِّ، إِنْ لم نَقُلْ: كُلَّهَا، فَهذِهِ الكُتُبُ شَكَّلَتْ لَنَا نُسْخَةً كَامِلَةً مِنَ البُخَارِيِّ.

العَاشِرَةُ: مَا جَوَابُكُمْ عَنْ كُتُبِ شُرُوحِ البُخَارِيِّ، كُلُّهَا اتَّفَقَ عَلَى هذِهِ الأَحاديثِ وَحَفِظَهَا لَنَا، مُنْذُ أوَّلِ شَرْحٍ كَشَرحِ الدَّاودِيِّ وَالخَطَّابِيِّ إِلَى شُروحَاتِ المُعاصِرينَ، فَعِنْدَئِذٍ تَتَجَسَّدُ نُسْخَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ البُخَارِيِّ.

الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَاذَا عَنْ كُتُبِ المُسْتَخْرَجَاتِ كَمُسْتَخْرَجِ الحَافِظِ أبِي بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيِّ وَمُسْتَخْرَجِ الحَافِظِ أبِي بَكْرٍ البَرْقَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، حيثُ يَقُومُ صَاحِبُ المستَخْرَجِ بِذِكْرِ الأَحاديثِ نَفْسِهَا وَلكِنْ مِنْ طَريقٍ أُخرَى غيرِ طَريقِ البُخَارِيِّ، يَعْنِي: أنَّ المتنَ وَاحِدٌ وَالإِسنادَ مُخْتَلِفٌ، وَهِيَ أَيْضًا تُخْرِجُ لَنَا نُسْخَةً كَامِلَةً مِنَ البُخَارِيِّ بِنَصِّهِ وَفَصِّهِ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّكَ تَجِدُ العُلَمَاءَ فِي كُتُبِهِمُ المختلِفَةِ يَنسِبُونَ الأحادِيثَ إِلَى البُخَارِيِّ، وَكُلُّهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى نِسْبَةِ هذِهِ الأَحادِيثِ إِلَيْهِ مَعَ بُعْدِ الدِّيَارِ، أفَلا يُقَالُ لَنَا: مِنْ أَيْنَ حَصَلَ هذَا التَّوَافُقُ وَالتَّوَاطُؤُ؟!

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: هَبْ أنَّ المُسلِمينَ جَمِيْعًا كَانُوا فِي مُسْتَنْقَعِ الظَّلامِ علَى مَدَارِ هذِهِ السَّنَواتِ الطِّوَالِ-عَلَى طَيْفِ العِدَا وَخَيالِهِم- فَمَاذَا عَنِ الأُمَمِ الأُخرَى وَعَلَى رأسِهِمُ الغَرْبُ حيثُ يَنْقُلونَ فَلْسَفَةَ اليُونَانِ وَإِلَى مَاضٍ قَريبٍ كَانُوا يَنْقُلُونَ آرَاءَ أَطِبَّائِهِم فِي الطِّبِّ، أَفَلا يُقَالُ أيْنَ النُّسْخَةُ الأَصلِيَّةُ لِهذِهِ الكُتُبِ وَالآرَاءِ؟ وَمَاذَا عَنْ نَقْلٍ مُتَوَاترٍ مِنَ الثِّقَاتِ؟

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ اتِّفَاقَ النَّاسِ جَميعًا مُسلِمِهِم وَكَافِرِهم -باختِلافِ مِلَلِهِم وَنِحَلِهِم- عَلَى اسمِ الكِتَابِ (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ)، خَيرُ دَليلٍ عَلَى أنَّ الكِتَابَ لَهُ!

الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّ هؤلاءِ المعتَرِضِيْنَ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنْ مَنَاهِجِ العُلَمَاءِ وَإِلَّا لَم يَأتُوا بِهَذَا الِاعتِرَاضِ الهَشِّ، فَلَوْ عَرَفُوا أنَّ أقْوَى طُرُقِ تَحَمُّلِ الحَدِيْثِ هُوَ السَّمَاعُ وَالعَرْضُ لَمْ يَطْلُبُوا نُسْخَةً مِنَ الكِتَابِ، فَإِلَيْكَ بَيَانَ أنوَاعِ التَّحَمُّلِ وَكَلامَ أَهْلِ الشَّأْنِ فِيْهَا:

السَّمَاعُ: هُوَ أَنْ يَقْرَأَ الشَّيْخُ وَالتَّلمِيذُ يَسْمَعُ.

العَرْضُ: هُوَ عَكْسُ الأَوَّلِ، التَّلمِيذُ يقرَأُ وَالشَّيْخُ يَسْمَعُ.

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: “وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَخُرَاسَانَ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ دَرَجَةٌ ثَانِيَةٌ وَأَبَوْا مِنْ تَسْمِيَتِهَا سَمَاعًا وَسَمَّوْهَا عَرْضًا، وَأَبَوْا مِنْ إِطْلَاقِ حَدَّثَنَا فِيهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ لِمَالِكٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ أَنَّهَا أَرْفَعُ مِنَ السَّمَاعِ وَأَصَحُّ.”([3]).

الْإِجَازَةُ: وَهذَا النَّوعُ هُوَ أَنْ يأذَنَ الشَّيْخُ للتَّلمِيذِ بالرِّوَايَةِ مِنْ غَيرِ سَمَاعٍ، وَهُوَ أنواعٌ([4]).

المُنَاوَلَةُ: قَالَ ابنُ الصَّلاحِ: وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُنَاوَلَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْإِجَازَةِ، وَهِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَهَا صُوَرٌ… الثَّانِي: الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْإِجَازَةِ: بِأَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوَّلًا، وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: ” هَذَا مِنْ حَدِيثِي، أَوْ مِنْ سَمَاعَاتِي ” وَلَا يَقُولُ: “ارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي” وَنَحْوَ ذَلِكَ.

فَهَذِهِ مُنَاوَلَةٌ مُخْتَلَّةٌ، لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا.”([5]).

الْمُكَاتَبَةُ: وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إِلَى الطَّالِبِ، وَهُوَ غَائِبٌ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ بِخَطِّهِ، أَوْ يَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ حَاضِرٌ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَيْهِ([6]).

الإِعلامُ: إِعْلَامُ الرَّاوِي لِلطَّالِبِ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ، أَوْ هَذَا الْكِتَابَ سَمَاعُهُ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ رِوَايَتُهُ، مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: (ارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَذِنْتُ لَكَ فِي رِوَايَتِهِ) وَنَحْوَ ذَلِكَ([7]).

الْوَصِيَّةُ بِالْكُتُبِ: بِأَنْ يُوصِيَ الرَّاوِي بِكِتَابٍ يَرْوِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، أَوْ سَفَرِهِ لِشَخْصٍ، فَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَنَّهُ جَوَّزَ بِذَلِكَ رِوَايَةَ الْمُوصَى لَهُ لِذَلِكَ عَنِ الْمُوصِي الرَّاوِي. وَهَذَا بِعِيدٌ جِدًّا، وَهُوَ إِمَّا زَلَّةُ عَالِمٍ، أَوْ مُتَأَوَّلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الرِّوَايَةَ عَلَى سَبِيلِ الْوِجَادَةِ الَّتِي يَأْتِي شَرْحُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى([8]).

الْوِجَادَةُ: هُوَ أَنْ يَقِفَ عَلَى كِتَابِ شَخْصٍ فِيهِ أَحَادِيثُ يَرْوِيهَا بِخَطِّهِ، وَلَمْ يَلْقَهُ، أَوْ لَقِيَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ذَلِكَ الَّذِي وَجَدَهُ بِخَطِّهِ، وَلَا لَهُ مِنْهُ إِجَازَةٌ، وَلَا نَحْوُهَا. فَلَهُ أَنْ يَقُولَ (وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ، أَوْ قَرَأْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ، أَوْ فِي كِتَابِ فُلَانٍ بِخَطِّهِ أَخْبَرَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ) وَيَذْكُرُ شَيْخَهُ، وَيَسُوقُ سَائِرَ الْإِسْنَادِ، وَالْمَتْنِ. أَوْ يَقُولُ: (وَجَدْتُ، أَوْ قَرَأْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ)، وَيَذْكُرُ الَّذِي حَدَّثَهُ وَمَنْ فَوْقَهُ.

هَذَا الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ قَدِيمًا، وَحَدِيثًا، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُنْقَطِعِ، وَالْمُرْسَلِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخَذَ شَوْبًا مِنْ الِاتِّصَالِ بِقَوْلِهِ (وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ)([9]).

فهذِهِ هِيَ أنواعُ طُرُقِ حَمْلِ الحَديثِ، فَالخُصُومُ يَطْلُبُونَ الأَخيرَ مَعَ كونِهِ أَدْنَى الطُّرُقِ، لأَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ مِنَ الشَّخصِ الَّذِي لَمْ يسمَعِ الأحادِيثَ أَوهَامٌ وَأغلاطٌ، فَلِذلِكَ تَسَابَقَ التَّلامِيذُ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْ لَفْظِ البُخَارِيِّ، وهَكذَا الحَالُ بالنِّسْبَةِ لِتَلامِيذِ التَّلامِيذِ، وَبهذا لَم تَقَعِ العِنَايَةُ عَلَى النُّسْخَةِ الخَطِّيَّةِ، بَلْ: وَقَعَتْ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الإِمَامِ البُخَاريِّ، وَمُقَابَلَةِ نُسَخِهِم بِنُسْخَتِهِ وَتَصْحِيحِهَا، وَاللهُ تَعالَى أعلَمُ.

 ([1])  صحيحُ البُخاريِّ نِهايةُ أسطُورَةٍ، ص: (164).

 ([2])  فِي هذِهِ السَّنَواتِ الأَخيرَةِ يُتَكَلَّمُ عَنْ نُسْخَةٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ تَرْجِعُ إِلَى زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَلكِنَّ هذَا لا يَزِيدُ مِنْ إِيمَانِنَا شَيئًا، لأنَّ أدلَّتَنَا لِحِفْظِ كِتَابِ اللهِ تعالَىِ مِنْ أيِّ تغييرٍ أَقْوَى بِكَثيرٍ مِنْ وجودِ نُسْخَةٍ مَخطُوطَةٍ.

وَإِذَا استَدَلَّ خُصُومُ السُّنَّةِ بهذِهِ النُّسْخَةِ فِي الِاعتِرَاضِ عَلَى البُخَارِيِّ فَإِنَّنَا نَقُولُ لَهُم: كَيْفَ كَانَ المسلِمُونَ يُثبِتُونَ لِغَيرِ المُسلِمينَ قَبْلَ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ وَصَلَنَا مَعْصُومًا محْفُوظًا دُونَ أَيِّ تَغييرٍ؟ وَكَذَلِكَ مَا مَوقِفُهُم إِذَا أُتِينَا بِنُسْخَةٍ فِيهَا تَحريفٌ وَادَّعَوا أنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى زَمَنِ الصَّحَابَةِ؟

فَلَا شَكَّ أنَّ الِاعتِمَادَ عَلَى طَريقَةِ النَّقْلِ المُتَوَاتِرِ الْمُعتَمِدِ عَلَى حِفْظِ الصُّدُورِ هُوَ أَفْضَلُ مَا يُقَالُ، لأنَّهُ لا مَجَالَ للعَقْلِ أَنْ يُفَضِّلَ نُسْخَةً عَلَى حِفْظِ مَلَايينَ مِنْ بلادٍ مُخْتَلِفَةٍ!

 ([3])  الإِلمَاعُ للقَاضِي عِياضٍ، ص: (73).

 ([4])  مقدِّمةُ ابنِ الصَّلاحِ، ص: (151).

 ([5])  مقدِّمةُ ابنِ الصَّلاحِ، ص: (165-169).

 ([6])  مقدِّمةُ ابنِ الصَّلاحِ، ص: (173).

 ([7])  مقدِّمةُ ابنِ الصَّلاحِ، ص: (175).

 ([8])  مقدِّمةُ ابنِ الصَّلاحِ، ص: (177).

 ([9])  مقدِّمةُ ابنِ الصَّلاحِ، ص: (178).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى