أيهما أقدس: السعودية أم الحرمان الشريفان؟
بقلم أ. محمد إلهامي
“لا يوجد قداسة لأي وطن عندي سوى المملكة العربية السعودية، ولا قداسة لأي مسجد سوى بيت الله الحرام في مكة المُكرّمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة. أما القُدس فقداسته أدبية كبيت من بيوت الله، مثله مثل مسجد حارتنا. لا يخدعونكم بشعارات شرعية خاطئة يتم تسويقها لتكبيل العقول والقلوب”.
بهذه التغريدة طالعنا الكاتب السعودي كساب العتيبي، الذي يكتب من داخل السعودية، وكونه يكتب من داخل السعودية معلومة مهمة ومؤثرة، ففي أي أمر يتعلق بالسياسة يمكن القول باطمئنان إن ما يُكتب من داخل السعودية يمثل الرأي الرسمي الحكومي، ومن فكروا في الكتابة بما قد لا يوافق (ولا أقول: يخالف) المسار الحكومي فمصيرهم بين قتيل وأسير وطريد!
وهذا الشيخ سلمان العودة سمع خبراً باتصال بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وأمير قطر تميم بن حمد فظنَّ أنه بداية تفاهم، فتعجل الصلح وكتب يدعو الله، فهو الآن منذ عاميْن في السجن يواجه قائمة من التهم التي تستوجب إعدامه!
لكن أمراً مهماً ينبغي التوقف عنده، وذلك هو البناء الفكري لهذه الرسالة، لقد صارت المساحة التي سيطر عليها عبد العزيز آل سعود “وطناً له قداسة”، فيما نُزِعت القداسة عن المسجد الأقصى الذي ذكره الله في كتابه وبارك فيه وفيما حوله، والذي أسرى إليه رسول الله وحث المسلمين على زيارته، والذي حجَّ إليه المسلمون أكثر من ألف سنة!!
هذا هو دين “الدولة”، وفيه تكون “الدولة” هي الإله الذي يمنح معنى القداسة، ومعنى الولاء والانتماء، ومعنى البراء والعداء والمفاصلة، الدولة لم تعد جهاز خدمة وتنظيم إداري لتدبير مصالح الناس ومعاشهم، بل تحولت إلى معنى روحي، يُطلب من الناس تحمل الفقر والألم والموت من أجل “ترابها”، والدولة بهذا المعنى أمر مفهوم في سياق العلمانية الغربية التي تخلت عن الدين وعن الإله وعن أي شيء غير مادي، كما أن شعور الغرب بدولته متجه نحوها كمؤسسات ووجود تاريخي سياسي، في حين يريد العلمانيون العرب سحب معنى الدولة هنا ليندمج في حاكمها، فيكون معنى الولاء للدولة الولاء للحاكم، وعلى سياسته تدور معاني الولاء والانتماء، والبراء والعداء، ولأجله تكون التضحية والفداء.
وإذا دخلنا إلى صفحة كساب العتيبي على تويتر، فستطالعنا تغريدته المثبتة، وهي التغريدة التي عادة ما توضع لإظهار الموقف الأهم والمبدأ العام، تقول التغريدة: “أجمل القناعات: الوطن خط أحمر.. القيادة خط أحمر”، وهذا كما هو واضح موقف سلطوي توثيني تترفع عنه العلمانية الغربية التي تأسست أصلاً ضد اندماج السلطة في الشخص، وتفرق بوضوح بين الرئيس وبين الدولة، فضلاً عن موقف الإسلام الذي لم يجعل الأمير سوى وكيل عن الأمة، حتى قال خير الأمة بعد نبيها: “وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”.
والدولة بهذا المعنى العقائدي المتعالي الذي هو مرجع ومعيار ما سواه نقيضٌ مباشر للإسلام، إذ هي تناقض ثوابته، وقد كان الكاتب الصحافي المصري عادل حمودة منسجماً مع هذه الفكرة حين استنكر –قبل سنوات- أن يدافع المصريون عن النبي محمد، لأن هذا عمل ينبغي أن تقوم به السعودية!!
ولم يكن غريباً فهم موقفه، فما دام أن الدولة المصرية هي الأصل والمعيار، فإن محمداً –صلى الله عليه وسلم- جزءٌ من التاريخ السعودي، وعلى ذات القياس جرى كساب العتيبي، فالقداسة الممنوحة للحرمين إنما لكونهما يقعان داخل المساحة التي سيطر عليها عبد العزيز وجعلها دولة باسمه!
وليست القداسة لكونهما خير أرض الله وفيهما نزل كتاب الله وعاش محمد –صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وإذ لم تمتد جيوش عبد العزيز المباركة حتى بيت المقدس فلم يشرف البيت بهذه القداسة!
وكان تركي الحمد، وهو سعودي، ويغرد من السعودية أيضاً (ورجاء ألا تنسى هذه المعلومة حين تتعامل مع المغردين السعوديين)، قد كتب تغريدة صريحة (18 ديسمبر 2017م) في ذات السياق ولكنها أقل فجاجة، يقول فيها: “كم أمقت أحدهم حين يصف السعودية ببلاد الحرمين.. السعودية كيان سياسي اسمه المملكة العربية السعودية، أما الحرمان فهما مكة والمدينة”، وبهذا فبعدما عاشت السعودية عمرها السياسي الذي لم يكمل ثمانين سنة تستمد مكانتها من رعاية الحرمين، صِرنا إلى المشهد الذي يراد فيه أن يستمد الحرمان مكانتهما من السعودية!!!
هذا التأسيس الفكري لمعنى الدولة في السعودية يطرح لتحقيق غرض سياسي مباشر، فالسياسة السعودية مشغولة هذه الأيام بتوصيل رسالة تريد حذف قداسة المسجد الأقصى وجعله كأي مسجد آخر، وهذه الرسالة لا تصدر للمرة الأولى، فقد سبق إليها الإعلامي السعودي فهد الشمري، إذ اعتبر في فيديو مشهور له أن مسجداً صلى فيه في أوغندا أكثر بركة من المسجد الأقصى! وكان هذا ضمن كلام طويل في تحقير وتسفيه الفلسطينيين وقضيتهم! وفيه تساءل الإعلامي ببراءة الأطفال: ما الذي جاء بالمسجد إلى جوار الكنيسة والمعبد اليهودي؟!.. وهذا سؤالٌ كافٍ في توضيح مستوى الجهل أو التجهيل الذي يراد أن ينشر في الشعوب العربية.
تمثل تغريدة كساب العتيبي واحدة من نماذج التراجع المخيف الذي لا يقف عند حد، فهذا الذي كان معارضاً سابقاً وعمل من لندن ضمن مجموعة المعارضة السعودية: سعد الفقيه ومحمد المسعري، ما لبث أن عاد إلى السعودية، عاد تائباً منيباً يتبرأ من ذنب المعارضة ويصف نفسه بالتهور والاندفاع والحماسة، ويصف أصحابه الذين رافقهم في المعارضة بأسوأ الأوصاف، لقد تاب الرجل لكن ليس إلى الله، بل تاب إلى “الوطن”، أو بالأحرى: تاب إلى القيادة! فلو أنه تاب إلى الله لم يكن ليسعى لنفي القدسية عن الأقصى المبارك، ولكان الخط الأحمر عنده هو الله، لا الوطن ولا القيادة!
ترى هل كان حين عاد إلى السعودية يظن أنه سيصل –راغباً أو مضطراً- إلى هذه المرحلة التي ينفي فيها قدسية المسجد الأقصى؟!
الحقيقة أن هذا المستوى من التهاوي والتنازل والخوض في المقدسات هو ما يُكَتِّل المعارضين لهذه الأنظمة ويزيد من يقينهم بأنهم على حق، فالمساومة عملياً على الدين وثوابته، وبقدر ما يبدي المرء استعداداً لهذا التخلي واستعداداً لتقديس وتوثين الحاكم وسياسته بقدر ما يكون أقرب إلى السلطة الحاكمة ومتمتعاً بمزاياها.
حين يتغزل المعارض السابق في سجن الحاير وخدماته الفندقية ومستشفياته التي تقدم خدمة التدليك (المساج)، فهو يشهد على نفسه بالتحول إلى جزء من المسرحية الكاذبة، يقسم على هذا بالله و”بكل أمانة”، وهو يكذب، ويعرف أنه يكذب، والمذيع الذي يحاوره ويستنطقه يعرف أنه يكذب، والجمهور الذي يستمع يعرف أنه يكذب، وليس يمنع سقوط المسرح إلا الحاكم المسلح المخيف المرعب! فلو كان في سجن الحاير خدمات فندقية حقاً لكان هو نفسه قد استمر معارضاً فذاق نعيم السجن الذي سيفوق حتماً شقاء الحرية في خارجه!
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تتعامل السعودية فعلاً مع الحرمين كما ينبغي لمكان مقدس لجميع المسلمين؟!!.. هذا ما نؤجل عنه الكتابة للأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
(المصدر: الخليج أونلاين)