بقلم أحمد النسناس
في هذا الكتاب يحاول العلامة القرضاوي أن يجيب عن هذا السؤال (أين الخلل؟) الذي شغل العقل الإسلامي منذ ما يزيد على قرنين من الزمان، تشعبت الإجابات عنه وتفرقت، فرأى البعض ممن سقط في براثن الانبهار الحضاري بالغرب أن الخلل يكمن في تراث الأمة، وأن سبيل الإصلاح هو اتباع الغرب في أفكاره وعاداته شبرا بشبر وذراعا بذراع، خاصة في خصومته مع الدين، وفصله الدين عن الدولة والحكم والتشريع والحياة، وفي مقابل هؤلاء المدرسة الإصلاحية منذ السيد جمال الأفغاني رأت أن الخلل يكمن في سوء فهم الأمة لدينها، وقد خاضت هذه المدرسة معركتين في آن واحد: معركة للدفاع عن الإسلام بقرآنه وسنته وفقهه وتراثه وتاريخه ضد الهجمة العلمانية الاستشراقية، ومعركة أخرى ضد الجامدين على التراث، وليته تراث الأمة في فترة ازدهارها ونشاطها العقلي والفكري والحضاري، إنه جمود تراث متأخري الفقهاء من المقلدة للمذاهب الأربعة.
يرى الدكتور القرضاوي أن الأمر أكبر من أنه خلل، فكلمة الخلل تعني أن الغاية واضحة والطريق معروف والوسيلة مهيأة، ولكن عطلا أصاب الوسيلة أن تستكمل الطريق، أما بالنسبة للأمة فقد أصابها غيبة وعي فهي في تيه عن الغاية ومن بعده بالضرورة ضياع للطريق.
فالأمة نسيت وظيفتها ورسالتها ونسيت وحدتها، ونسيت ربها فأنساها أنفسها. وإذا نظرنا إلى الأمة بمعايير التقدم المادي وجدناها وراء وراء، فهي عالة على غيرها في قوام حياتها الاقتصادية والعسكرية، لا تنتج القوت الكافي الذي به قيام المعيشة، ولا تنتج السلاح الذي به حماية السيادة، طاقتها معطلة، أرخص شيء عندها والوقت، وأثقل شيء عليها العمل، طاقتنا العقلية معطلة، لأننا نقلد ولا نجتهد، وننقل ولا نبتكر ونحفظ ولا نفكر، تعليمنا يخرج موظفين لا مثقفين.
أمة لا تقرأ مع أن أول آية نزلت من كتابها «اقرأ». طاقتنا العملية معطلة، فقد تعودنا حسن الكلام ولم نتعود حسن العمل، نقرر وننتظر من غيرنا أن يعمل، نقرر ونقدر ولا نتابع ما قررناه. ومثل ذا يقال عن طاقتنا الاقتصادية، فعلى الرغم من أن الله حبا الأمة بمقدرات لا تتوافر لغيرها من الأمم، إلا أن الأمة لا تسعى في استغلال مواردها، تستهلك ولا تنتج، وإذا أنتجنا أنتجنا ما لا نحتاج إليه. وطاقتنا العددية معطلة، لأننا وإن قاربنا المليارين لم نتعاون ولم نتكامل، في عصر التكتلات الكبرى، بل تقسمنا قوميا وفكريا وسياسيا.
وطاقتنا الروحية معطلة وإن كنا نحتفل بالأعياد والمواسم الدينية ونعط الدوائر الرسمية في أيام الجمع والأعياد، لكن الدين أصبح في حياة الأمة لهوا أو شبيها باللهو، نزين الحوائط بآيات القرآن ونعطل أحكامه! أحببنا الدنيا وكرهنا الموت فصدق فينا قول رسول الله: “ولكنكم غثاء كغثاء السيل”.
وبعد أن يعرض العلامة القرضاوي واقع الأمة يعرج إلى الحديث عمن هو المسؤول عن حال الأمة هذه فيرى أن المسؤولية يحمل حكام الأمة قسطا منها فقد عانت شعوبنا كثيرا من حكامها، لكنهم ليسوا وحدهم المسؤولين، فالحكام ما هم إلا إفراز لشعوبهم، والعلماء عليهم قسط من المسؤولية فهم ورثة الأنبياء ودعاة الحق، لكنهم لم يعودوا وحدهم في الميدان كما كانوا، فقد أصبحت أجهزة الإعلام أشد تأثيرا منهم، وحولهم الحكام إلى موظفين ينتظرون الراتب كل شهر. وهناك مسؤولية على جماهير الأمة، وعلى رأس جماهير الأمة أبناء الحركة الإسلامية الحديثة التي وثقت بها الجماهير والتف حولها الآلاف من الشباب.
يستطرد الدكتور في الحديث عن مسؤولية الحركة الإسلامية التي لم تستطع أن تصل بالسفينة إلى البر المأمول والمأمون وكثر الكلام حول إخفاق الحركة من أبنائها وأعدائها، ويوضح الدكتور القرضاوي أهم الأسباب التي عاقت الحركة الإسلامية في بلوغ أهدافها في: ضعف النقد الذاتي، والانقسام والاختلاف فكل جماعة ترى نفسها جماعة المسلمين وليست جماعة من المسلمين، ويرى أنه لا مانع من التعدد إذا كان تعدد تنوع وتخصص لا تنوع تضاد وتناقض، فمن أسباب الفرقة أحيانا الحرص المبالغ فيه على الوحدة، فمن أداه اجتهاده إلى أسلوب عمل مغاير اتهم بالانشقاق أو بالخروج عن الصف.
ومن الأسباب التي عاقت الحركة الإسلامية كثيرا غلبة الاتجاه العاطفي على الاتجاه العقلي والعلمي، بأن غدت العواطف والانفعالات هي الحاكمة على التصرفات والعلاقات، وأرجع فضيلته ذلك إلى:
1- قصور الدراسة والتخطيط فنحن نرتجل وخصومنا يخططون.
2- العجلة ما جعل الحركة تخوض معارك قبل أوانها وأخرى أكبر من طاقاتها.
3- المبالغة سواء في وصف الحركة لنفسها أو في نقدها لخصومها.
4- الخوف من التجديد فالحركة الإسلامية وإن كانت تدعو نظريا إلى الاجتهاد في الفقه لكنها في الحقيقة تميل إلى التقليد، حتى الحركات التي اشتهرت بالمرونة وسعة الأفق فإنها تتمسك أحيانا ببعض الوسائل والأشكال وإن وقفت حجر عثرة في سبيل انتشارها، وتنفر من الأفكار الحرة والنزعات التجديدية وتضيق بالمفكرين.
وبعد أن أوضح الدكتور واقع الخلل في الأمة وحدد أصحاب المسؤولية في ذلك الواقع تحدث عن سبيل العلاج الذي تتمثل أولى خطواته في إنصاف الحركات الإسلامية فهي تعمل في مناخ لا تحسد عليه، ولا يسمح للإسلام إلا الإسلام الحكومي الموجه المستأنس، وهي لا تكاد تفيق من ضربة إلا وتتعرض لأخرى، ومع كل هذا فالحركة باقية ماضية لا يستطيع أحد أن ينكر دورها في الفكر والشعور والسلوك والتربية والجهاد وإن أخفقت في إقامة الدولة الإسلامية المنشودة.
فلقد صححت المفاهيم التي شوهتها عصور الجمود أو الاستعمار وطاردت الغزو الفكري الذي خلا له الميدان في بعض المراحل، واستطاعت أن تعيد الحركة لجماهير المسلمين الشعور بالذاتية الإسلامية والانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، وأنشأت جيلا من المسلمين والمسلمات الملتزمين بالإسلام عقيدة وعملا وفكرة وسلوكا ودعوة وجهادا، وكونت من خلف هذا الجيل رأيا عاما يناصر الإسلام ويحب دعوته ويظهر الولاء لشريعته.
ومن العدل أن نسجل للحركة الإسلامية أن أفكارها تتطور شيئا فشيئا، لكن على الحركة الإسلامية أن تنتقل من دائرة الشكوى ولوم الزمان إلى دائرة العمل المتواصل الدؤوب على مستوى الإسلام وعلى مستوى العصر وللحاضر والمستقبل، ومن المجالات التي ينبغي الاهتمام بها العمل لكسب النخبة والجماهير معا، وكذلك ترشيد الصحوة الإسلامية، ويرسم الدكتور القرضاوي خطة الترشيد بأن تنتقل دائرة الاهتمام والتركيز: من الفروع والجزئيات إلى الأصول والكليات، من النوافل إلى الفرائض، من المُختلَف فيه إلى المُتَّفق عليه، من أعمال الجوارح إلى أعمال القلوب، من طرفي الغُلُوِّ والتفريط إلى الوسطية والاعتدال، من التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير، من الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد، من الكلام إلى العطاء، من العاطفية والارتجال إلى العلمية والتخطيط، من التعصب على المخالفين في الرأي إلى التسامح معهم، من الإثارة إلى التفقيه أو من أسلوب الوعاظ إلى أسلوب الفقهاء، أو من حماس المنبر إلى هدوء الحلْقة، من الكم إلى الكيف أو من الاهتمام بتزايد الأعداد ولو على حساب التربية إلى العناية بالتربية ولو على حساب العدد، من سماء الأحلام إلى أرض الواقع، أو من المثالي المنشود إلى الممكن الموجود، من الاستعلاء على المجتمع إلى المعايشة له، أو من موقف ممثل الاتهام إلى موقف الطبيب، من الاتِّكاء على الماضي إلى معايشة الحاضر، والإعداد للمستقبل، من الاستغراق في العمل السياسي إلى الاهتمام بالعمل الاجتماعي، من اختلاف التضاد والتشاحُن إلى اختلاف التنوع والتعاون، من إهمال شؤون الحياة إلى التعبد بإتقانها، من الإقليمية الضيقة إلى العالمية الواسعة، من الإعجاب بالنفس إلى محاسبة النفس، أو من الغلوِّ في إثبات الذات إلى نقد الذات.