أين الحركة الإسلامية من الاستيعاب وسرعة اتخاذ القرار؟
بقلم عزة مختار
تعاني الحركة الإسلامية -منذ عقود ليست قليلة- من حالة تراخ شديد في اتخاذ القرارات اللازمة للتعامل مع الواقع المعاصر، ليس على مستوى القطر الواحد وحسب، وإنما على مستوى العالم العربي والإسلامي مع التفاوت.
فتجدها –في غالب فروعها- في حالة إقدام هنا، وفي حالة انحسار هناك ثم تستبدل الأوضاع، اتخذت من رد الفعل قاعدة، فهي غالباً في حالة انتظار الآخر ليتخذ تجاهها موقفاً من القبول أو الرفض، من التعامل أو المقاطعة، من الاتهام أو الاستيعاب، ليكون موقفها التجاوب كرد فعل في كل الحالات.
لم تصنع الحركة الإسلامية في العقود الأخيرة رأياً – مسبقاً – أو موقفا تضع فيه الآخر، سواء كان مؤيداً أو خصماً في مربع الواقع المفروض، وربما كانت تلك الإشكالية التي تتعلق بالقيادة هي السبب الرئيس في تراجع تأثيرها على الواقع المحلي -في مصر على سبيل المثال- والإقليمي -في ثورات الربيع العربي- والعالمي في صناعة قرار مناوئ لمحاربة الغرب ومعاداته للإسلام، بغير جريرة سوى الفكرة الاستعمارية المسيطرة على الجانب الآخر في عملية الصراع البشري على ريادة العالم؛ لمواجهة الخطر الإسلامي من وجهة نظرهم.
ذلك الخطر الذي يقدم للإنسان الحل السحري في علاج متوازن يحمل في طياته سعادة الدنيا والآخرة، إشباع الروح والجسد، إعمال العقل والارتقاء بالنفس، فلا تحمل شريعة في العالم -سواء كانت شريعة سماوية طالتها يد التحريف، أو شريعة أرضية صاغتها أعظم العقول الإنسانية في المجال القانوني- تلك الحالة من الانسجام والتوافق بين الإنسان وذاته، سوى هذا الدين.
ومن هنا حوصرت الفكرة الإسلامية في بلدانها ببساطة، مع استسلام مخز للشعوب العربية والقابعة تحت نير الاستبداد وحكام المستعمر بالوكالة، تراجع تأثير الحركة الإسلامية –في بعض فروعها- بشكل كبير لدرجة أنها أصبحت في بعض الأحيان عبئاً على الإسلام ذاته، وقد وجب تغييرها بشكل جذري، ليس تغييراً ينبني على الأشخاص مع ثابت الفكر المتجمّد، وإنما تغييراً يطالُ كل الوسائل التي لم تتجدد منذ عشرات السنواتْ، والتي لم تعد صالحة لمجاراة الواقع المعاش، وحجم الحرب الشرسة بكل أنواعها: من حرب بالرصاص، إلى حرب فكرية، إلى حرب على أصول وثوابت الشريعة.
تراجع تأثير الحركة الإسلامية –في بعض فروعها- بشكل كبير لدرجة أنها أصبحت في بعض الأحيان عبئاً على الإسلام ذاته، وقد وجب تغييرها بشكل جذري، ليس تغييراً ينبني على الأشخاص مع ثابت الفكر المتجمّد، وإنما تغييراً يطالُ كل الوسائل التي لم تتجدد منذ عشرات السنواتْ، والتي لم تعد صالحة لمجاراة الواقع المعاش
أصبحت الحركة في حاجة لتغيير دماء في عملية الاجتهاد العقلي والنقلي؛ لإعادة المفاهيم الأصيلة للنصوص الشرعية بما يتوافق مع مقاصدها التي أنزلت من أجلها.
وأصبح لزاماً على الحركة الإسلامية أن تستعيد روح الريادة من النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- ومن خلفائه الراشدين -رضوان الله عليهم أجمعين- قبل أن يصبح لزاماً على المسلمين توجيه سهامهم تجاه تلك الحركة؛ كي تولد من جديد، أو تذهب للأبد.
استيعاب القائد لجنوده والاستماع إليهم
يمثل النبي -صلوات الله عليه وتسليمه- القائد الأول للأمة، منه نتخذ القدوة في كل ما جاء به من قول وفعل وتقرير.
ومن يدّعي أن المحن لا تسمح بمسألة القيادة وفق حقها، وأن ليس في الوقت سعة للاستماع للصغار، وأن على القائد اليوم أن يكون ديكتاتوراً عادلاً؛ حفاظاً على صف الجنود أو صف المؤسسة من الانفراط، وتلك كلها تصورات مبتورة، باطل أريد به حق ولم يفلح.
ليس هنالك ما هو أكثر من محن الدعوة في فجرها، فتلك غزوة بدر التي مثلت المواجهة الأولى بين المؤمنين والمشركين، حين خرج النبي وصحابته للعير وليس للنفير، وحين استدعى الأمر الدخول في معركة لا يعرف نتيجتها، وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- مستشيراً صحابته الكرام في الإقدام أو الإحجام.
وقد يرد البعض قائلاً: إن الحركة الإسلامية اليوم تعمل بمبدأ الشورى، ولا ينكر منصف تلك القيمة داخل أدبيات الجماعة وقوانينها، وأجيب بأن الشورى الإسلامية صارت لدى البعض مجرد مبادئ يتشدق بها البعض ويحتج بها إذا ما ووجه بالواقع المرّ .
فقد صارت الشورى لدى البعض صورية وليست حقيقة واقعة، تستبعد أصحاب الرأي والمشورة، وأصحاب المواقف المغايرة، وأصحاب الفكر، وصارت أدبيات تروى للجيل الذي حرم من التعبير عن ذاته ورأيه بحرية؛ ظناً منهم أن هذا الجيل غير مؤهل لاتخاذ قرارات كبرى، تؤثر في مصير الحركة، وتناسوا أن الدين كله قام على عاتق الشباب، وأن بناء الأمة في بدايتها توقف على حركتهم.
صارت الشورى لدى البعض صورية وليست حقيقة واقعة، تستبعد أصحاب الرأي والمشورة، وأصحاب المواقف المغايرة، وأصحاب الفكر، وصارت أدبيات تروى للجيل الذي حرم من التعبير عن ذاته ورأيه بحرية؛ ظناً منهم أن هذا الجيل غير مؤهل لاتخاذ قرارات كبرى، تؤثر في مصير الحركة
استشار النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته في الاستمرار ومواجهة العدو، أو العودة إلى المدينة، والخلاف في الرأي لا يخيف، ولا يهدم فكرة، ولا يعيق حركة، إنما الاستئثار به هو الذي يهدمها ويمزقها ويذهب بها في مهب الريح العاصفة.
اختلف الصحابة -وقد كان منهم من تحمس ومنهم من آثر العودة بدون قتال- لولا أن وقف الصحابي الجليل المقداد بن الأسود قائلاً للنبي القائد: “يا رسول الله، لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل: “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ” ولكن امض ونحن معك”، فعاد النبي طالباً المشورة قائلاً: “أشيروا عليَّ أيها الناس”، لم يكتف بقول حماسيٍّ، ولم يكتف بموافقة المهاجرين، فأدرك سعد بن معاذ مقصده -عليه الصلاة والسلام- فقال : “لكأنك تقصدنا يا رسول الله”، فقال عليه الصلاة والسلام: “أجل”، فقال سعد: “قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو خضت بنا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد”.
حرص النبي على مشورة الجميع -ليس كل الأفراد بالطبع، وإنما من هم على رؤوس الأفراد- ولم يفرض على أحد قراراً برغم أنه الجهاد، فما بالنا بما هو أقل من ذلك، طالما أن الأمر يخضع للرأي والمشورة وليس في ثابت من ثوابت الدين!
في نفس الغزوة يعلمنا النبي فنون القيادة، وإسناد الأمور لمن يجيدها وذلك ليس عيباً، إنما العيب في ادعاء معرفة كل شيء، والإحاطة بكل شيء، فتضيع المعركة، وتنفرط الصفوف ، ينزل النبي بالجيش منزلاً، فيأتي من آخر الصفوف الحباب بن المنذر وقد أدرك بفطرته السوية أن عليه واجب التساؤل بأدب للقائد: “أهذا منزل أنزلكه الله؟ أم هو الرأي والمشورة؟” فقد رأى أن المقام هنا ليس في صالح المسلمين، وعليه كجندي أن يؤدي واجبه، وعلى القائد كذلك أن يؤدي واجبه ويستمع، ثم يقرر إن كان الأمر فيه صالح المسلمين وفكرتهم، فيجيبه القائد بسعة: “بل هو الرأي والمكيدة”، لم يستح النبي -صلوات الله عليه- من أن يقول -وهو النبي- إنه الرأي والمشورة، وقد قالها في موضع آخر: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فيشير الحباب بموضع آخر وهو نقل الجيش حيث تكون آبار بدر خلفه، فيمنع الماء عن المشركين، فيقره النبي ويسجل له التاريخ موقفه كجندي أدى مَهَمَّتَه على خير ما يكون.
سرعة اتخاذ القرار والحسم فيه
والتردد في اتخاذ القرار وعدم اقتناص الفرص المتاحة، وتطويع الظروف لصالح الفكرة، أصبح من شيم الحركة المتأصّلة، مما أتاح الفرصة للخصوم من النيل من الحركة وتكبيلها، فقد يصنع الله لك ظروفاً تؤهلك لاتخاذ قرارات ما تحسم قضيتك وتنقلك من خانة الدفاع المستمر لخانة الخصم العنيف، الذي لا يؤمن جانبه، والذي يصعب الانقضاض عليه، والمحن طبيعة الطريق ليس في ذلك شك، لكن المحن اختبار للثبات وحسن التصرف والتعامل بحكمة وإعمال العقل.
إنما البلاء الذي نمر به اليوم ليس إلا عقاباً لأخطاء متعددة تصر عليها القيادة حتى اللحظة، تتخاذل حين يجب أن تُقْدِم، تتردد حين يجب أن تستفز حماس جنودها، تتعلل بالظروف والأعداء حين تجبن على اللقاء والحسم، ولستُ أخصّ هنا فصيلًا بعينه، إنما ذلك سمتُ الحركة -بكل توجهاتها التي تدعو لإعلاء راية الجهاد أو تلك التي تتبني السلمية- لم يخرج عن نطاق تلك الإشكالية إلا حركات المقاومة الفلسطينية -التي استوعبت كافة الدروس التاريخية على مدار معاركها مع المحتل- فخرجت من دائرة التوجس، وفرضت رؤيتها على الجميع حتى لاقت احترام العالم رغماً عنه.
إن على الحركة أن تتعلم، أو تفسح المجال لمن تعلموا وأدركوا، أو لمن هم على استعداد للتجديد والانفتاح، مع فتح كافة الخيارات، طالما لم تخرج عن دائرة الشريعة المتسعة، وعن أخلاقيات الإسلام التي تساوي وتوازن بين القوة والعزة وبين الرحمة والاستيعاب
لقد آن الأوان أن تدرك الحركة الإسلامية أن أدوات اللعبة السياسية العالمية قد تغيرت، وعليها أن تغير آلياتها بما يتوافق وقوة هذا الدين، وبما يتوافق مع المستجدات قبل أن تكون سبباً في تأخر المسلمين لقرن آخر.
إن على الحركة أن تتعلم، أو تفسح المجال لمن تعلموا وأدركوا، أو لمن هم على استعداد للتجديد والانفتاح، مع فتح كافة الخيارات، طالما لم تخرج عن دائرة الشريعة المتسعة، وعن أخلاقيات الإسلام التي تساوي وتوازن بين القوة والعزة وبين الرحمة والاستيعاب.
إن الأمة في خطر عظيم لا يخرجها من هذا الخطر أصحاب القلوب الضعيفة، بل يخرجها أصحاب العقول المحنكة، والقلوب المستنيرة.
(المصدر: موقع بصائر)