أيديولوجيا جندرية.. أنثى أم ذكر أم اختيارات أخرى؟
بقلم حسام شاكر
تتهيّأ القابلة في غرفة الولادة لاستقبال كائن بشري بعينيْن ولسانٍ وشفتيْن، وتستعدّ لتعريفه اسماً وطولاً ووزناً، مع تصنيفه بوصف “ذكر” أم “أنثى”. قد يُمنَح المولود -تسهيلاً لهذا التصنيف- ملابس زرقاء أو وردية، وهما لونان للتمايُز بين الذكور والإناث فرضتهما الثقافة البصرية المُعولَمة في القرن العشرين. ظلّ الإنسان يُطلِق صيْحته الأولى -كما فعل منذ بزوغه الأول- وهو مُعرّف بلا عناء، بمقتضى علامات ظاهرة في هيئته وبدنه، فيسري وصف “الذكر” و”الأنثى” من تلقائه على المواليد عموماً دون الاضطرار إلى تنظير اجتماعي أو تكلّف فلسفيّ؛ وإنْ اختلطت بعض السِّمات لدى أفراد قلائل من بين آلاف المواليد بما يؤكِّد مبدأ التصنيف ولا ينقضه.
يَكبُر “الذكر” أو “الأنثى” مِن بَعدُ ويَشُقّ طريقه في القرن الحادي والعشرين، وما إنْ يشرع في فتح حسابات شبكية على مواقع التواصل مثلاً؛ حتى تُحاصره أُحجِية مُدجّجة بمصطلحات وتعريفات ومختصرات مفهومية؛ إنْ عزَم على تصنيف “نوْعه”. لا تقتصر القوائم المستجدّة على ثنائية الذكر والأنثى المعهودة عبر تاريخ البشر، فالأمر انقلب في سنوات معدودات إلى “خيارات أخرى” تتزايد مقترحاتُها موسماً بعد آخر. تُقترَح على الفرد احتمالاتٌ للتفضيل، تستنفره كي يعرِّف ذاته وما تكون من بين زحام “الخيارات”، أو ما يرغب أن يصير عليه بالأحرى؛ بعد أن ظلّ مُعرّفاَ بصفة تلقائية منذ خروجه الأوّل إلى عالَمه. تقترح منصّة “فيسبوك” على المشتركين في بريطانيا، مثلاً، أن يحدِّدوا في خانة “الجِندر” تعريفهم الذاتيّ من قائمة “خيارات” مذهلة تشمل عشرات المقترحات المتكاثرة سنة بعد سنة. انطلق الأمر بأكثر من خمسين اختياراً سنة 2014 ثم تجاوزت سبعين اختياراً معروضاً للمبحرين في العالَم الأزرق في غضون سنوات ثلاث لاحقة، وما زالت القائمة مرشّحة لمزيد من التوسّع الذي يقع تجريبه على جماهير الشبكة بقرار فوقيّ محبوك بالتشاور مع جماعات ضغط مؤدلجة.
بعد تهشيم المعيار وإسقاط التصنيف المُنعقِد حسب محدِّدات جليّة محسوبة على “البيولوجيا” و”الفسيولوجيا”؛ انتقل التعريف من تحديد موضوعيّ قطعيّ إلى اختيار ذاتيّ نسبيّ. يُقترَح على الفرد أن يختار مَن يكون؛ من قائمة آخذة بالتمدّد بما تستوعبه من مصطلحات “فئوية” جديدة تمّ نحتها حديثاً على أنقاض مصطلحات حديثة سبقتها؛ وهي تأتي معزّزة بمعاجم تشرح ما استَغْلَق على الأفهام منها؛ وترفدها موادّ دعائية مكرّسة للإقناع بجدواها وذمّ المتشكِّكين بها.
ولمّا كان “الاختيار” معروضاً على الفرد لينحت “هويّته” ويحدِّد بذاته مَن يكون؛ فقد يعود من بعدُ إلى إعادة تعريف ذاته في المنصّة الشبكية عيْنها بلمسة منه أو لمستيْن، وصار مألوفاً لتيسير هذا المسعى أن تنشر بعض مواقع الإنترنت إرشادات من قبيل “كيف تغيِّر هويتك الجندرية في فيسبوك؟”. قد يتقمّص الفرد عيْنه هويّاتٍ غير متماثلة في حساباته المتعدِّدة على مواقع التواصل، وقد يظهَر مع كلٍّ منها للجمهور باسمِه وصورته؛ وقد يتوارى خلف أسماء مُنتحَلة وأقنعة مُفتعَلة.
لا يقتصر الأمر على بالغين يُطلَب منهم أن “ينتقوا هويّاتهم” مِن قائمة “خيارات” مشبّعة بأيديولوجيا جندرية؛ فالحالة يُراد لها أن تصير ثقافة عامّة عبر الأمم والمجتمعات؛ فتُغرس مفاهيمُها ومتلازماتُها في الحياة التعليمية والدراسية منذ الصِّغر وحتى التعليم العالي، وتُستزرَع مقولاتها الصارمة وإيحاءاتها المحبوكة في المضامين الإعلامية والجماهيرية، ومِن سيرة مصطلح “الثقافة” في اللغات اللاتينية cultura أنّه ارتبط بالزراعة والغراس أيضاً؛ لكنه في واقع الأيديولوجيا الجندرية يتجاوز مصادرةَ الحقيقة إلى نَفْيِِها واستنكارها وذمِّها؛ لتصير النسبيّةُ أصلاً والعدميةُ مآلاً.
لا يستهدف فصل “البيولوجي” عن “الاجتماعي/ الثقافي” الاكتفاء بالتفريق بين ثابت و”متغيِّر”، فالمغزى هو الاندفاع إلى تحفيز يُراهِن على تغيير ما يُعدّ متغيِّراً اجتماعياً وثقافياً وتاريخياً في “الهويّة” الفردية، وإن مضت بعض القراءات إلى رفض ما يترتّب على الثابت “البيولوجي/ الفسيولوجي” أو إظهار الاستياء منه أيضاً بصفته نزعة أيديولوجية أو Biologism كما يسمّى بصفة ذميمة. إنّ تأكيد صفة التغيُّر التاريخي لـ”النوع الاجتماعي” المُفترَض أطلق العنان لإسالة مفاهيم مركزية واستباحة محدِّدات تأسيسية في النظام الاجتماعي تتّصل بالفرد وما يسمّى “التوجّه الجنسيّ” والاقتران والزّواج والأسرة والأمومة والأبوّة بدعوى أنها مفاهيم أو تصوّرات “متحرِّكة” أو قابلة للتحريك بالأحرى؛ وهذا التحريك هو ما تتحرّاه مجموعات ضغط تُطلِق حملاتٍ وتبذل جهوداً دؤوبة لإحداث استجابات سياسية وتشريعية عبر العالم؛ تعزّزها في هذا مواقعُ أكاديمية مستحدثة في الجامعات توفِّر غطاءً علموياً للحالة تحت عنوان “الدراسات الجندرية” التي يحوم حولها النقد في الأوساط الأكاديمية.
ولمّا اعتُبِرَت المسألةُ متعلِّقةً، حسب هذا المنطق، بتصوّراتٍ اجتماعية؛ فإنّ محاولة غرسها تجري على قدم وساق بدءاً من التنشئة المنهجية المبكِّرة بأسلوب “يفتح الخيارات” للنشء في “التعرّف على ذاته” و”اكتشاف ميوله المحتملة” أو “هويّاته” الجنسية أو الجندرية كما تسمّى. تُستعمََل نُظُم التعليم المدرسية -التي هي فرع عن النظام العام وأداة من أدواته وبما تمارسه من عنف رمزي حسب بيير بورديو- منصّةً لاستزراع هذه المفاهيم لدى الأجيال الجديدة كحقائق تنفي الحقيقة ولا يرقى إليها شكّ، وتمضي بعض التطبيقات مثلاً إلى حثّ الأطفال في رياض الأطفال والمدارس على تجريب ملابس “النوع البيولوجي الآخر” للتمكين لهذه الأيديولوجيا منذ نعومة الأظفار بصفة مستقلّة عن إرادة أولياء أمورهم أو مدى رضاهم عن ذلك.
لا يتوقّف الأمر مع خيارات التصنيف الذاتيّ عند هذا الحدّ، فهي تتجاوز تحديد الصفة الذاتية من قائمة “خيارات” معروضة في استمارة شبكية أو قسيمة مطبوعة؛ لتفرض حضورَها في التمظهر الاجتماعي المباشر؛ على نحو يوافق في الهيئة والتصرّف؛ “الهُويّةَ” الجندرية المفضّلة أو “الميْلَ الجنسي” المزعوم. وقد يَستدرِج الرّجُلُ ذاتَه إلى انتقاء ملابس من “قسم السيِّدات” في المتجر مع بعض الحليّ وأدوات التجميل، أو تلفيق قطع شتى من أقسام عدّة، وقد تقوده قدماه إلى عيادةٍ يَطلُب فيها إحداثَ تغييراتٍ جراحية أو تحويرات مظهرية تُحَوِّله عن صِفَةٍ كان عليها؛ وقد يتزوَّد بهرمونات كي تحفِّز قفزته من الذكورة إلى الأنوثة أو تُطلِق وثبة إحداهنّ من الأنوثة إلى الذكورة، وهي في جملتها مسالك باتت مُشرعَنة أيديولوجياً كما لم يحدث من قبل.
وقع التمهيد لهذا الانقلاب بفسخ الصِّلة بين الدّالّ والمدلول، فطبقاً للمنظِّرة البارزة جوديث بَتْلر ينبغي لمفهوم الجندر أن يتّسع للقبول باختلافات وأشكال وتصوّرات لا تستوعبها المعايير، حتى يصير مفهوم “الرّجُل” و”المُذكّر” يحتمل الدلالة على جسد المرأة وجسد الرجل، وكذلك أن تدلّ كلمة “امرأة” و”مؤنّث” على جسد الرجل كما قد تدلّ على جسد المرأة. تقضي هذه المقولات التأسيسية في بابها بأن يتمرّد الإنسان على التوصيف المُسبَق الذي تنعقد مُعرِّفاتُه في خِلْقَته، فيسعى إلى مصادرة امتياز التحديد والتوصيف وما قد يترتّب على ذلك من أواصر وأدوار وفق أهواء متغيِّرة قد تتشكّل في الأذهان والوجدان تحت تأثير تيهٍ فلسفيّ وتعبئةِ أيديولوجية وثقافةٍ استهلاكية. وقد توافق الحالةُ نزعاتٍ ونزواتٍ تستثيرها حمّى جماهيرية طاغية تَجمَح مضامينُها بشاشات وتُغرِق تعبيراتُها شبكاتٍ وتعتلي وجوهُها منصّات بما يلقي بهالة شكّ حول استقلالية الفرد المُعبّأ دعائياً في تصنيف “توجُّهه” المفترض أو “ميْله”.
لكنّ مسألة “الاختيارات” هذه لا تتعلّق في هذا المقام بمفاضلة بين انتماءات التشجيع الكروي أو جماعات الاهتمام المشترك في البيئة المحلية مثلاً؛ فهي متّصلة بأساس الحياة الإنسانية وصميم النظام الاجتماعي وهي مؤثِّرة فيهما بلا ريْب، وعليها تترتّب أواصر الاقتران والنّسَب وشؤون الأحوال الشخصية أيضاً. يبقى تحديد “الهُويّة” في الخطاب الجندري موكولاً إلى ما يُدركه الفرد ذاته من نفسه واقعاً أو تشوّفاً، فيأتي إدراكاً وصفياً انطباعياً أو نزوعاً رغائبياً جامحاً، فتُعرّف “الهويّة” الذاتية فردانياً دون أن ينفكّ الحكم عن مخيال حاملها؛ بما يُفقدها سِمَة الثبات ويفتحها على خيارات شتى في حاضرها ومستقبلها، فيكون الإعلان عن هذه “الهُويّة” الفردانية بمثابة موقف ذاتيّ متحيِّز إلى “اختيار من متعدِّد” لا تقريرَ حالٍ موضوعياً. من شأن الحكم الانطباعي عن الذات أن يتأثّر بالبيئة المحيطة واتجاهاتها ونزعاتها وبما يُعرَّض له الفرد من مؤثِّرات تستميله إلى وجهات مخصوصة تحت تأثيرات أيديولوجية وتعليمية وثقافية وإعلامية، بما ينفي التصوّرات التي تعدّ الأحكام الجديدة اختياراً مستقلاً أو “تحرّراً” من السطوة الاجتماعية. وقد تفرض ميولٌ حسِّية مُستثارة اجتماعياً في زمن الشاشات والشبكات والصناعات الثقافية الموجّهة والحركات الاجتماعية الناشطة تأثيراتِها على أحكام “الهُويّة” الفردية هذه. يصير اتِّباع الشّهوات من هذا الوَجه مُعرِّفاً لهذه “الهُويّة” الفردية في جموحها أو تيهها أو تقلّبها.
ما تفرضه فروع العقيدة الجندرية، بالتالي، أن يقوم بنيانّ اجتماعي جديد على هذه السيولة التي لا ناظم لها؛ وإذا لم يتأتّ لها هذا في بعض البيئات فإنها تنزع الشرعية عن الانتظام الاجتماعي الذي تحدّدت فيه الصفات وتوزّعت فيه الأدوار والمسؤوليات على أسس مستقرّة تستوعب الفرد ضمن أواصر معرّفة ابتداءً.
ترتّب هذا الانقلابُ المفهوميّ على تشظية الكيان الإنسانيّ بدعوى التفريق الصّارم بين “نوعه البيولوجي” و”نوعه الاجتماعي”، فإنْ تحدّدت الصِّفَة ابتداءً بموجب المواصفات “البيولوجية” و”الفسيولوجية” لكلِّ إنسان، التي يفترق فيها على ذكر أو أنثى؛ فإنّ المجتمع، وفق العقيدة الجندرية، هو الذي يوزِّع الصِّفات والأدوار على طريقته حسب كلّ مرحلة تاريخية وثقافتها السّائدة، فينشأ التمايُز المفاهيميّ والتبايُنُ في الأدوار؛ مِن تصوّرات منعقدة لا من ذات مجرّدة. فالمفهوم الاجتماعي في صيرورته التاريخية -بهذا المعنى- هو الذي يحدٍّد “الذّكر” و”الأنثى” ويوزِّع الأدوار على هذا الأساس، وهو ما عُدّ مدعاةً لتحرّر الذات الفردية من التحديد الاجتماعيّ المُسقَط عليها، فتصير “هويّة” الفرد، بهذا المنطق، ما يختار بذاته أن يكون.
تترتّب على هذا التصوّر النظري التأسيسي سلسلةٌ ممتدّة من التفاعلات التي لا يحدّها حدّ في الأذهان والاختيارات والممارسات، بما يفتح خيارات “الأواصر الجنسية” على احتمالات تستعصي على الحصر بعد تحييد صفة الذكورة أو الأنوثة وإحالة الوصف إلى “نوْع” مجرّد عن أي صفة مُسبقة تقريباً؛ لأنّ “البيولوجيا” في جلائها وثباتها ليست ما يُحدِّد الصفة الاجتماعية، حسب هذا المنطق. تضغط هذه الحالة على الأنظمة التشريعية التي يُطلَب منها إعادة تعريف أواصر المُساكنة والزواج والأسرة والوالِديّة والقرابة والمسؤوليّات والإرث، فتتّجه إلى فتح المفاهيم على مزيد من “الاحتمالات” بما يقضي بسقوط التعريف أو انتفاء الدلالة؛ فلا يعود الزّواج زواجاً ولا الأسرة أسرةً، وتفقد الأمومة والأبوّة معناهما المنعقد في وعي البشر حتى حينه، ولا يعود لوشائج القرابة من أمل في البقاء على ما كانت عليه.
إنّ تحويل صفة الإنسان من قطعيّات محسومة إلى “خيارات” مفتوحة للمُفاضلات الفردانية متفرِّقة الأهواء؛ عبر تَشْظِيَته إلى مثنوية “بيولوجية” و”اجتماعية” ابتداءً؛ يشي بنزوع متزايد نحو إسالة المفاهيم المركزية، ويُذكي خِصاماً يُكِنّه أيديولوجيو “الجندر” لحقول “البيولوجيا” و”الفسيولوجيا” مثلاً، علاوة على نفورهم المتأصِّل من مفهوم “الحقيقة” ذاته خلال سعيهم الدؤوب إلى أدلَجة النزعة النسبية السائلة بمقتضى تراكمات فلسفية.
أُزيح مفهوم الجنس/ النوع في سنوات معدودة عن مواضعه القطعية؛ فآل إلى مفهوم تاريخي متغيِّر لا يَلْوي على شيء. فالمجتمع، حسب المنطق الجندري، هو مَن يحدِّد الذكر ويحدِّد الأنثى وينمِّط كلاً منهما في قوالبه، ويسقِط على الفرد حمولةً ثقافية معيّنة بموجب ذلك. يتعسّف المفهوم عندما يَتّخذ من التصوّرات النمطية المُفترَضة عن الذكر والأنثى نقطةَ بدءِ التصنيف؛ وكأنّ كلّ مولود يُولَد على غير صِفة؛ فأبواه يذكِّرانه أو يؤنِّثانه. إنّ التعريف الانشطاري للهُويّة الفردية حسب بطاقة “بيولوجية” وأخرى “اجتماعية” للفرد يؤسِّس لحالة فِصام مفهومي تقوم على تجزئة الإنسان، وهو منطق ذو قدرة انشطارية مؤهّلة لتفريخ متواليّات تعريفية مُلفّقة متولِّدة عنها في الواقع تَشَظِّياً وتلفيقاً.
ثمة مغالاة جسيمة في منطق الخطاب الذي يعتبر المواقفَ والأحكامَ الاجتماعية وتوزيع الأدوار المترتِّبة عليهما؛ مُحدِّداً تاريخياً حصرياً أو جوهرياً لصفة الجنس/ النوع. يَجُرّ هذا الخطاب إشكالاتٍ مفهوميةً متضافرةً ومآزقَ تطبيقيةً متلاحقة، ويفرض على قوائم الاختيارات المعروضة تحت بند “الجندر” أن تتمدّد بلا كابح لتستوعب تفضيلات الفرد وتقلّباته وأن تستجيب لضغوط جماعات تنتحل وَصفاً تأتي به لا على مثال سابق. ثمّ إنّها إذْ تتّهم “الاجتماعي/ التاريخي/ الثقافي” بالتواطؤ على التحديد “الهويّاتي” للجنس حتى حينه؛ تكون قد هيّأت مبرِّرات ذاتية لمحاولة الانقضاض على دفّة التوجيه الاجتماعي/ التاريخي/ الثقافي ابتغاء التحرّر من السطوة المُفترَضة؛ حتى إنْ تطلّب ذلك تسلّلاً فكرياً إلى داخل المنظومات والسلطات المهيمنة دولياً وإقليمياً ووطنياً ومحلياً؛ بما يتحرّى فرض المفاهيم الجديدة من مواقع مركزية عُلْوية كمحفوظات “المانيفست” أو “الثورة الثقافية” أو حتى “الكتاب الأخضر”.
استبطَنَت الجندريةُ اختراعَ الإنسان مفهومياً على أساس ينفي الحقيقة ويرفض التوصيف المُسبَق، وإن اضطرّت إلى اختزال هذا التوصيف في المستوى “البيولوجي”، بما يُغوي الفردَ بخوض مغامرة إعادة تشكّله ذاتياً في مظاهر “السمات البيولوجية” ذاتها. يشي هذا ضمناً بنزعة تألُّه تحاول تمكين الإنسان بصفة مُطلَقة من ذاتِهِ ماهيةً وتصرّفاً، ليباشر الاستعمار الذاتيّ المدفوع بمسوِّغات أيديولوجية والمشبّع بحمولة ثقافية. من الشائع أن يُواجَه نَقْدُ هذه الأيديولوجيا أو استنكارها بقصفٍ من محفوظاتٍ مُستلّة من الألواح المقدّسة الجديدة؛ التي تجري شرعنتها ودسترتها وعولمتها وتكثيف الهالة الانطباعية المجيدة حولها في الفضاءات الجماهيرية.
جاء تصنيف العلاقات الجنسية بين “غيْريّة” أو “مغايرة” أو “متباينة” Hetro و”مثليّة” Homo و”ازدواجية” Bi ليخدم منحى التسوية أو التكافؤ بين “الخيارات” والدعوة إلى “الحياد” إزاءها، بما يقطع الطريق على مفهوم الزوجية التأسيسي والجوهري والرّاسخ. فالزوجية ليست أساساً ولا شرطاً في هذه العقيدة، وقد تُذَمّ بدعوى أنها نموذج تاريخي متصرّم، كما لا تُشترَط في الزوجية الجندرية “الغيْرية” بالأحرى. والزوجية توحي فوق هذا بوجود أصل أو نموذج معياريّ يُفترَض به الثبات؛ ومثل هذا مُستبعَد في العقيدة الجندرية التي تفتح الخيارات للفرد كي يكتشف “ميولَه” ويجرِّب تفضيلاته التي له أن ينقلب عليها وقتما شاء طبقاً لرغباته التي يشكِّل “هويّته” بموجبها. لكنّها ميول ورغباتٌ لا تشتغل في فراغ، وإنّما في فضاء ثقافي/ اجتماعي مشبّع بالمؤثِّرات المُفتعلة ومُغرَق بتعبئة جماهيرية تتكثّف فيها محاولات الترغيب بتجاوز الزوْجية الراسخة التي يقع ازدراؤها أو يُراد اجتثاثُ مكانتها المتسيِّدة بزعم أنها نسخة تاريخية من الماضي.
قد يتطابق في بعض الأفهام مفهومُ “المثليّة” مع مسلك الفاحشة التي تُمارَس مع أشخاص من الجنس ذاته (الشذوذ). فـ”المثلية” وإنْ انطوت على ممارسات وعلاقات من هذا الضرب؛ إلاّ أنها تعبِّر عن تَشَكُّل “هُويّاتيّ” يستصحب خطابَه الفلسفيّ وتصوّراته المتعلقة به ويستبطن نفْياً للحقيقة وإسالةً للثّبات وإنكاراً للأصل علاوة على أنها تنقض تصنيف “السويّ والشاذّ” وتسعى لاقتلاعه من جذوره ولا تتسامح معه. وتُعبِّر “المثليّة” عن ذاتها من هذا الوجه في حركات اجتماعية تتبنّى راياتٍ ورموزاً طوطمية دالّة عليها وعلى مذاهبها الفرعية أيضاً، وتستحدث لذاتها مواسم ومحافل ومسيراتٍ جماهيرية أسوة بالطوائف والشعوب والمجتمعات التقليدية والحديثة، وهي تعدّ ذاتها طائفةً تبشيرية أو “أقلِّية” ضمن مجتمع “أقليات” لا يُرجَى أن تبقى أغلبية فيه، فترفع صوتها بمطالب سياسية وإملاءات تشريعية وبحملات ضغط في المجتمع المدني والحياة الثقافية.
كما تستهدف “المثليّةُ” المضامينَ الإعلامية والمناهج التعليمية لأحداث التحوّل الذي تنشده، وتخوض المرافعات التي تراهن بها على كسب الأتباع وإلْجام الخصوم. غنيّ عن البيان أنّ سلوكيات الفاحشة التي عرفتها مجتمعات الأرض ضمن الجنس ذاته لم تتوفّر على هذا الغطاء الفلسفي السابغ الذي تتدثّر به “المثليّة” أو على حُزمة التأويلات النظرية الملازمة لها، كما لم تَقُم على “رؤية عالمية” لمسلكها؛ ولم تتصرّف بالأحرى كجماعات ضغط وقوى تأثير منهجيّ تروم الإتيان على البناء الاجتماعي من قواعده في مسعى تعدّه حركة تحرّر تنهض بمهمّة تاريخية. يُبحر المقال التالي مع العقيدة الجندرية وطابعها الصراعي وكيف تعمل الأيديولوجيا المنبثقة عنها في اللغة والمجتمع والأنظمة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)