بقلم د. علي محمد الصلابي
كان الإجماع على بيعة أبي بكر انتصاراً لمبدأ الشورى على العصبيات الوراثية التي كانت تسود في الجاهلية، وبهذا القرار الإجماعي دخل الإسلام مرحلة جديدة إذ أنشأ الصحابة دولة مدنية لا يرأسها نبي يتلقى الوحي، كما كان الأمر في حياة الرسول، بل يتولاها رجل اختاروه بالإجماع بعد تشاور وتنافس وخلاف، فأصبحت الخلافة بذلك حكومة مدنية بخلاف حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم ذات الطابع الديني الموجه الإلهي. ولكن أبا بكر اختار أن يسمى خليفة الرسول ليؤكد عزمه على السير على المنهج الذي وضعه النبي قبل وفاته في الشؤون الدينية والدنيوية، وبعده جاء عمر واتخذ لقب أمير المؤمنين، لتأكيد صفته كممثل للأمة وجماعة المسلمين. لقد كانت دولة الصّدِّيق مدنية شورية، لأن من يترأس الدولة لم تكن سلطته مطلقة ويكفي ذلك أن ترجع إلى خطبة أبي بكر، بعد تولي الخلافة حيث قال: «إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني» ثم أضاف: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم». ومعنى ذلك أنه أعطى للأمة حق الرقابة على عمله ومحاسبته، فضلاً عن أنها هي التي اختارته بواسطة من يمثلونها، وهذان المبدآن هما أساس النظام الديمقراطي في العصر الحديث، إن حكومة الصّدِّيق قامت على الأصول الشورية الثابتة وروحها التي هي أهم من الأشكال المتغيرة والقابلة للتطور ومن هذه الأصول العامة الثابتة ما يلي:
ـ أنه كان يرى أنه مسؤول عن المال العام.
ـ ومسؤول عن أيّ خطأ أو انحراف عن العدل.
ـ وكان يتشاور مع الناس ويخضع لرقابتهم.
ـ وكان يلتزم بأحكام الشريعة والعدالة.
ـ وكان يتولى القضاء بنفسه أو يعين قضاة يتولون هذه المهمة، وسار الخلفاء بعد ذلك على نفس النهج.
كانت دولة الصّدِّيق قائمة على الشورى والمواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة، وحقوق المرأة …إلخ المستمدة من مقاصد القرآن الكريم والتوجيهات النبوية الرشيدة.
إن دولة الصّدِّيق الإسلامية مدنية بامتياز وليست دولة دينية فهناك فرق كبير بين الدولة الإسلامية أي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام والدولة الدينية التي عرفها الغرب النصراني في العصور الوسطى، وعلى ذلك أن هناك خلطاً كبيراً بين ما هو إسلامي وما هو ديني، فكثيرون يحسبون أن كل ما هو إسلامي يكون دينياً والواقع أن الإسلام أوسع وأكبر من كلمة دين. حتى إن علماء الأصول المسلمين جعلوا “الدين” إحدى الضرورات الخمس، أو الست التي جاءت الشريعة لحفظها وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وزاد بعضهم العرض. أضرب مثلاً موضحاً، نحن ندعو إلى تربية إسلامية متكاملة، وهذه التربية تشمل أنواعاً من التربية تبلغ بضعة عشر نوعاً، إحداها التربية الدينية، إلى جوار التربية العقلية والجسمية والخلقية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والأدبية والمهنية والفنية والجنسية.. ألخ.
فالتربية الدينية شعبة واحدة من شعب التربية الإسلامية الكثيرة، فالخطأ كل الخطأ الظن بأن الدولة الإسلامية التي ـ قادها الصّدِّيق ـ دولة دينية، إنما الدولة الإسلامية “دولة مدنية” تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى، ومسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح لهذا الحاكم، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، بل يعتبر الإسلام هذا واجباً كفائياً على المسلمين، ويصبح فرض عين إذا قدر عليه وعجز غيره عنه أو جبن عن أدائه.
إن الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، فهناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره “رب الناس، ملك الناس، إلٰه الناس” ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس، أن يلغوا هذه الأحكام أو يجمدوها، فلا ملك ولا رئيس ولا برلمان ولا حكومة ولا مجلس شورى، ولا لجنة مركزية ولا مؤتمر للشعب، ولا أيِّ قوة في الأرض تملك أن تغير من أحكام الله الثابتة.
إن عهد الخلافة الراشدة يعتبر مرجعية كبرى في الفقه السياسي وبناء الدول وازدهار الحضارات، لذلك يجب دراسته بكل دقة، لأنه يقدم لنا السوابق التاريخية التي تعتبر حجة في فقه “الرئاسة” المنضبطة بمقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية.
وإذا كان البريطانيون يعتبرون “الماجنا كارتا” الميثاق الأساسي لحرياتهم والفرنسيون يعتبرون إعلان حقوق الإنسان ميثاقهم، فإن المسلمين يعتبرون حكومة الخلفاء الراشدين الوثيقة الأساسية لحرياتهم السياسية، وهي ميثاق عملي، وليست مجرد بيان قولي.
أما البيان القولي فإننا نجده في خطبة الوداع التي ألقاها الرسول الكريم في حجة الوداع، ويكفي أن نذكر منها المقتطفات الآتية:
«أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا.. استوصوا بالنساء خيراً.. لقد تركت فيكم ما إن أطعتموه فلن تضلوا بعده أبداً كتاب الله وسنة رسوله.. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ولا فضل لأبيض على أحمر ولا أحمر على أبيض إلا بالتقوى».
المصدر: الاسلام اليوم.