بقلم المصطفى خرشيش
هناك جدليَّةٌ وفلسفةٌ تقومُ على أساسِ البحث في تكاملِ أجزاء العلوم الداخلية فيما بينها، والتي تشكل جسورًا للتكامل المتين في بناء الفهم القويم عند متلقِّي هذه العلوم؛ حتى يسهل عليهم الاستيعاب من جهة، وألا يبقى العلم في ذهنهم جزُرًا متناثرة من جهة ثانية.
وللعمل على تحقيق هذا، سيكون للباحث سلسلةٌ من الكتابات ترصد هذا التكامل؛ حيث ستنطلق بَدْءًا من إدراك صلاتِ الوصل بين مكونات علم أصول الفقه بعضها مع بعضٍ، لتستمر نحو فتح آفاق أخرى يرصد فيها الكاتب صلات هذا العلم بالعلوم الشرعية الأخرى، وهذا المقال هو أول تلك السلسلة، نسأل الله التوفيق والسداد.
ولِنُدْركَ العَلاقة بشكل جيدٍ بين الأدلة والأحكام، لا بد من تعريف كلٍّ منهما؛ حتى تكون الصورة واضحةً عند القارئ المحترم؛ فالأصوليون يُعرِّفون الحكم بأنه: “خطاب الله تعالى المتعلِّق بفعل المكلَّف بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع” [1]، ويُعرِّفون الدليل بأنه هو الذي “… يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري” [2]، فالرابط بينهما يظهر في أن خطاب الله سبحانه الذي خُوطِب به البشر جميعهم – عربًا وعجمًا، عبر امتداد الزمان والمكان – هو نفسه دليل على أحكامه سبحانه؛ إذ هو متضمِّن له صراحة في ذاته، أو حكمًا في نظر المجتهد.
فمن حيث التصريح، فإننا نجد تلك الأحكام التي نص الشارع الحكيم عليها بالجواز أو المنع، بدليل واضحٍ صريح، وحسم في أمرها إبَّان نزول الوحي المشرَّف، بنص صريح قاطع في مدلوله، لا يحتمل معنى آخر غير ما صرح به.
أما من حيث الحكم، فإننا نجد تلك الأحكام التي تحدُث للناس على شكلِ نوازل مع مرور الزمان وتغير المكان، فيحتاج الناس فيها إلى الفتوى وإصدار الحكم من المجتهد.
والهدف من هذا التنويع في بيان العَلاقة، هو بيان شمولية خطاب الشارع للدليل بنوعيه: الأصليِّ والتبعي.
يقول التفتازاني: “وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات الأعراض الذاتية للأدلة والأحكام؛ من حيث إثبات الأدلة للأحكام، وثبوت أحكام بالأدلة” [3]؛ ذلك أن العَلاقة التي تصل الأحكامَ بالأدلة هي عَلاقة إثبات وثبوت، بمعنى أن الأدلة إثبات للأحكام؛ أي: من خلالها تثبتُ الأحكام، ويصير الإنسان مكلَّفًا بها.
وثبوت الأحكام بالأدلة؛ أي: إن الأحكام تثبت بالأدلة؛ ذلك أن جميع مسائل هذا الفن تدور بين الإثبات والثبوت، وما سواهما تبع لهما تحققًا وثبوتًا.
وهذا يبيِّن لنا أن الأحكام ثمرة الدليل، والدليل مُثمِر، وترتبط الثمرة بمثمرها ارتباطًا وثيقًا؛ إذ لا يُتصوَّرُ الفصل بينهما، فالثمرة نتيجة المثمِر، ومنه منبعها وإليه عودتها؛ إذ لا حكم بدون دليل، ولا دليل بدون ثمرة، فالعَلاقة بينهما عَلاقة سبب بمسبب، أو علاقة مؤثِّر بنتيجته، أو عَلاقة مستنبَط بمستنبَط منه.
يقول الغزالي: “الأحكام ثمرات، وكل ثمرة فلها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر، وطريق في الاستثمار” [4]، والمثمِر المقصود به الدليل، والثمرة هي الأحكام.
ويقول أيضًا: “وقد تم النظر في القطب الأول، وهو النظر في حقيقة الحكم وأقسامه، فلننظر الآن في مثمِر الحكم، وهو الدليل” [5].
ويستفاد من هذا الربطِ في عملية تدريس الأدلة أنه لا بد أن يركِّز الأستاذ مع الطالب على الانطلاق من الدليل الصحيح، من أجل استنباط الحكم المناسب منه في عملية الاشتغال بالنصوص، سواء في المجال التعليمي التعلُّمي، أو في مجال الحياة العامة.
وهنا يتدرَّب الطالب على مجموعةٍ من المهارات التي ترتقي بعقله إلى منازلَ عليا في الاستنباط؛ إذ أولُ ما يقوم به حسنُ التصور للدليل.
ثم يتأكَّد من نوعه ومرتبته في سلَّم الأدلة؛ من أجل معرفة حجيَّته ومرتبته.
ثم يفهم بعد ذلك مدلوله فهمًا صحيحًا؛ ليأتي في النهاية على استنباط الحكم الشرعي المناسب للمسألة المدروسة.
والأهم من ذلك أن هذه المهارات لن تحصل عند الطالب إلا إذا تمرَّن على هذه العملية باستمرار؛ لأن التطبيق يسهم جدًّا في تنمية (ملَكة تنزيل النصوص) على الوقائع بشكل سليم، وهذا الذي نريد الوصول إليه في تدريس الدليل.
وإذ هو بعد ذلك يُدرِك أن الحكم الشرعي لا يستنبط إلا من دليل شرعي، سواء بصفة الأصالة أو التبع، وهذا هو المقصود من إدراك هذه العَلاقة في عملية التدريس، ويجب التركيز عليها في تدريس الدليل بشكل عامٍّ.
——————————————-
[1] المهذب في علم أصول الفقه المقارن؛ لعبدالكريم النملة، دار: مكتبة الرشد – الرياض، ط: الأولى: 1420 هـ – 1999 م، ج1، ص: 125.
[2] الإحكام في أصول الأحكام؛ للآمدي (ت631هـ)، تحقيق: عبدالرزاق عفيفي، دار المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق – لبنان، ج1، ص: 9.
[3] شرح التلويح على التوضيح؛ للتفتازاني (ت 793هـ)، ج1، ص: 38.
[4] المستصفى للغزالي، ص: 7.
[5] المستصفى، ص: 79.
(شبكة الألوكة)