أوثق مرجع في لغة العرب هو القرآن!
بقلم د. محمد عناية الله أسد سبحاني
هنا يحلو لنا أن نقول إن القرآن هو أوثق وأوسع مرجع في لغة العرب، فقد تكون هناك كلمة عربية استعملها العرب في معنى، واستعملها القرآن في ذلك المعنى، وفي معنى آخر، لا يُعثر له على شاهد في كلام العرب. ولكن تلك الكلمة تكون واضحة في مدلولها بحكم موقعها وسياقها.
إذا كان الوضع هكذا، فلا يترك ذلك المعنى الذي يقتضيه السياق، وتدل القرينة على صحته، والكلمة تتسع لذلك المعنى من غير تكلف، لا يترك ذلك المعنى بحجة أنه لم يُعثر له على شاهد في كلام العرب.
فإن القرآن كلام محفوظ لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، بخلاف كلام العرب، فإنه ليس كله محفوظا، بل جزء كبير منه قد تلاعبت به الأيام، وعبثت به يد الحدثان، والذي وصل إلينا أقلّ مما ذهب عنا من غير شك.
نضرب لذلك مثلا قوله تعالى في سورة يوسف:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. (31) فما معنى: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)؟
ما قيل في معنى: (قطّعن أيديهن):
قال القرطبي، وهو يفسر تلك الآيات:
“قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة:” أَيْدِيَهُنَّ” أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن، أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في مواضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن.”[1]
وقال أبو حيان الأندلسي:
“وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي. والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن. فالجرح كأنه وقع مرارا في اليد الواحدة، وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف، فكأنها غابت عن حسها. والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم.”[2]
وهكذا نرى المفسرين، رحمهم الله، سلكوا مسلكا واحدا في تأويل (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ). والباحث حينما ينظر في هذا التأويل لا يرتاح إليه لإشكالات آتية:
الإشكال الأول:
لقد استعمل القرآن لفظ (تقطيع الأيدي) مرات، مثل قوله تعالى:
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى.[3]
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.[4]
فالقرآن لا يستعمل (تقطيع الأيدي) بمعنى: الخدش، والحزّ، والجرح البسيط في اليد، كما زعموا عن تلك النسوة، بل يستعمله بمعنى: المبالغة في القطع المتقطّع بشكل مؤلم فظيع حتى تنفصل اليد، أو الرجل من الجسم، كما فعل فرعون مصر بالسحرة الذين آمنوا بسيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام. وكما أمرالقرآن أن يُفعل بالذين يحاربون الله ورسوله، ويفسدون في الأرض.
الإشكال الثاني:
حينما قالت النسوة بحرف واحد عن سيدنا يوسف عليه السلام:
حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.[5]
فهن لم يقصدن بكلامهنّ، تلك الوسامة والقسامة، وذلك الحسن والجمال الذي كان يكسو وجه سيدنا يوسف عليه السلام، وإنما قصدن بكلامهنّ ذلك السموّ النفسي، والعلوّ الروحي، والطهر والعفاف الذي كان يتحلى به سيدنا يوسف عليه السلام على الوجه الأكمل – على الوجه الذي لا يتصور من أيّ بشر! وإنما هو من شأن الملائكة المكرمين.
والملائكة المكرمون يُضرب بهم المثل في الخير والصلاح والبر والتقوى، لا في الحسن والجمال وقسامة الوجه.
الإشكال الثالث:
حينما أرسل الملك إلى سيدنا يوسف، وقد أعجب بتأويل رؤياه، قال سيدنا يوسف لرسول الملك:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ.[6]
فإن كان الأمر كما قيل، وهو أن تلك النسوة حينما رأين سيدنا يوسف عليه السلام بُهتنَ لطلعته، ودهشن وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. أو حَززْنَها بالسَّكاكين، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف، إن كان الأمر كذلك فهذا يعني أن تلك النسوة ليس لهن ذنب، وما عليهن غبار.
إنهن ما أتين بشيء منكر يستوجب اللوم أو المؤاخذة أو المحاكمة، وإنما حدث ما حدث بصورة طبيعية خالصة، ولم يكن هناك كيد ولا تدبير ولا تعاون على الإثم، أو مجاهرة بالسوء.
وإذاً، فلماذا تذكّرهن سيدنا يوسف عليه السلام بعد مدة طويلة لا تقلّ عن عشر حجج؟ ولماذا تذكر تقطيعهنّ أيديهن بصفة خاصة؟ وما علاقته بالفحص عما حصل بينه وبين امرأة العزيز؟ ولماذا قال بعد ذكر تقطيع الأيدي:
(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)؟
تلك أمور لا تدعنا نستريح أو نطمئن إلى ما قيل في تأويل الآية.
وهنا يأتي سؤال: فما تأويل الآية إذاً ؟
قبل أن نقبل إلى تأويل الآية بإذن الله، نودّ أن ننبّه إلى أمرين كانا مزلّة الأقدام، وكانا زلقا للناس في تأويل الآية:
معنى السكّين:
ما المراد بالسكين في قوله تعالى: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)؟
فقد يراد بالسكين تلك الأداة التي تقشر بها الفواكه والخضار، أو يقطع بها اللحم. وهو المعنى المعروف للّفظ.
ويراد به أحيانا على سبيل الاستعارة، أدوات الزينة والتجمل من الحُليّ والحُلل، وأصناف الطيب التي تستخدمها المرأة، وتتزين بها، وتستعين بها على اقتناص من تريده من الرجال.
ويراد به أحيانا ذلك الجمال الساحر، الذي تملكه المرأة بطبيعتها، وتقتنص به الرجال.
وهناك كلمات أخرى غير السكين، تستعار لذكر فتنة المرأة واستحواذها على الرجال، مثل: النبل، والسلاح، والسهام.
قال امرؤ القيس:
وَما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلا لتَضْرِبِي ** بسَهمَيك في أعشار قَلبٍ مُقَتَّلِ
يقول الزوزني في شرح هذا البيت:
للأئمة في البيت قولان، قال الأكثرون: استعار لِلَحْظِ عينيها ودمعهما اسم السهم لتأثيرهما في القلوب، وجرحهما إياها كما أن السهام تجرح الأجسام وتؤثر فيها.
وتلخيص المعنى على هذا القول: وما دمعت عيناك وما بكيت إلا لتصيدي قلبي بسهمي دمع عينيك وتجرحي قطع قلبي الذي ذللته بعشقك غاية التذليل، أي نكايتهما في قلبي نكاية السهم في المرمى.[7]
وقال بشار بن برد:
لقد شط المزار فبتُّ صبا ** يطالعني الهوى من كل باب
وعهدي بالفراع وأم بكر ** ثقال الردف طيبة الرضاب
من الْمُتصيِّدات بكُلِّ نَبْلٍ ** تسيلُ إِذَا مشتْ سَيْلَ الْحُباب
مصورة يحار الطرف فيها ** كأنَّ حديثها سُكْرُ الشَّراب[8]
وقال أبودهبل الجمحي:
جنّية أو لها جنّ يعلمها … رمى القلوب بقوس ما لها وتر[9]
وقال آخر:
تَعرَّضْنَ مَرْمَى الصَّيْدِ ثُمَّ رَمَيْنَنا … مِنَ النَّبْلِ لاَ بِالطَّائِشاتِ الْخَوَاطِفِ
ضَعائِفُ يَقْتُلْنَ الرِّجالَ بِلاَ دَمٍ … فَيا عَجباً لِلقاتِلاَتِ الضَّعائفِ[10]
وقال أبو علي القالي:
وزادني بعض أصحابنا عن أبي الحسن الأخفش:
إذا سمعت آذانها صوت سائل ** أصاخت فلم تأخذ سلاحا ولا نبلا
قال أبو علي: السلاح ههنا جمالها.[11]
ثم هذه الاستعارة ليست خاصة بالنساء وسحرهنّ، وسبيهنّ قلوب الرجال، بل استخدموها للنوق كذلك.
ومنه قول المساور بن هند بن قيس بن زهير:
إذا قلت عودوا عاد كل شمردل … أشم من الفتيان جزل مواهبه
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها … تجرد فيها متلف المال كاسبه
قال المرزوقي في شرحه:
يقول: إذا عرض على كل واحد من بني غالب معاودة الحروب والكرور فيها عاد منهم كل رجل تام الخلقة ممتد القامة، كريم النفس، كثير العطية.
وقوله: (إذا أخذت بزل المخاض سلاحها) فالمراد بسلاحها محاسنها وأمارات عتقها وكرمها، كأنها تتحلى بتلك المحاسن في عين أربابها حتى تحلى، فيصير ذلك سبباً للضن بها.
يريد أن تحسنها بسلاحها في عينه لا يجدي عليها نفعاً، ولا يدفع عنها مكروهاً، لما به من إكرام الضيوف، ويوجب على نفسه من قضاء الحقوق.[12]
ولا نريد أن نكثر، ففي تلك الأمثلة كفاية، والجدير بالذكر أن الشعراء حينما يذكرون تلك المعاني، يكثرون من ذكر السهام، والنبال، والقسيّ، والسلاح؛ فإن النضال عندهم من بعيد.
وأما القرآن، فإنه عدل عن تلك الكلمات إلى لفظ (السكين)؛ فإن الصيد في متناول اليد، وليس عن النسوة ببعيد. فالمراد بالسكين في قوله تعالى: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) أدوات الزينة والتجمّل التي تزيد في فتنة تلك النسوة، وتزيد من سحر جمالهن، وتساعدهنّ في تدلية يوسف واستهوائه والاستحواذ عليه.[13]
وأما السكين بمعنى: المدية، أو آلة القطع والذبح والتقشير، فهذا ليس مكانه، وأسلوب الكلام وموقعه لا يقبله، والمدية لا تقدّم للضيف في يده، ولاسيما إذا كانت ضيافة النسوة.
وإنما تكون المدية- إذا كانت- مع الطعام والفواكه في ضمن أدوات الأكل والتفكّه، ولو قدم إنسان لضيفه مدية من غير مستلزماتها لأوحشه، وربما عاد الضيف على أدراجه!
معنى: (قطّعن أيديهن)
سبق أن قلنا إن لفظ: التقطيع يفيد معنى المبالغة في القطع، فإذا قيل مثلا: قطّع القاضي أو الحاكم أيدي المجرمين وأرجلهم، فلا يفيد ذلك إلا أنه قطعها شر قِطعة، ودكّها دكّا، ورضرضها رضرضة. والقرآن لم يذكر تقطيع الأيدي والأرجل إلا في هذا المعنى.
ولا يفيد اللفظ هذا المعنى إلا إذا تولى شخص تقطيع أيدي الآخرين. ولكن إذاكان أصحاب الأيدي هم الذين يقطّعون أيديهم فحينئذ يتحوّل اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، لاستحالة أن يقطّع أصحاب الأيدي أيديهم حقيقة، فاللفظ يكون إذاً استعارة لبذل أقصى الجهد، واستنفاد الطاقة.
فحينما جاء عن هؤلاء النسوة أنهن قطّعن أيديهن، فهذا يوحي أنهن بذلن أقصى جهدهن، وأقصى كيدهنّ وأبلغ مكرهنّ لاستهواء يوسف، وإزلاقه من قمّة الطهر والعفاف إلى مهواة الفجور والفاحشة!
ويدل عليه أيضا دعاء يوسف واستجابة ربه له، بعد ما انتهت تلك المهزلة المخزية بفشل تلك النسوة:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (33-34)
كما يدلّ عليه قول يوسف لرسول الملك حينما جاءه في السجن، حيث قال:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. (50)
وهذا التركيز على لفظ الكيد إن دل على شيء فإنما يدل على ضخامة ذلك الكيد والمكر الذي ابتلي به سيدنا يوسف من تلك النسوة الفاتنات الماكرات، ولكنه خرج بفضل الله وتوفيقه، من تلك الفتنة الحالقة، مرفوع الرأس حيث لم يمسسه سوء، واعترفت تلك النسوة بكل صراحة بنزاهته وطهارته وشموخه:
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
تأويل الآيات كما يمليه علينا السياق:
والآن بعد هذا التقديم المهمّ نتوجه إلى تأويل تلك الآيات، فنقول:
حينما راودت امرأة العزيز سيدنا يوسف عن نفسه، وبذلت كل ما استطاعت من صنوف الكيد والحيل لاستهوائه، وفشلت فشلا مخزيا فيما بذلت وفيما حاولت، افتضحت بين جاراتها وصديقاتها فضيحة لم تتصورها، وأصبحت حديث النسوة في كل بيت، وكلما اجتمعت صديقاتها وزميلاتها في صباحهن ومسائهن، تحدثن عنها، وسخرن منها، وقلن:
تلك امرأة خرقاء ذات نيقة، لا تعرف كيف تستبي فتاها! ليس فيها مكر ودهاء! لو كنّا مكانها، لفعلنا كذا وكذا! وما كان لفتاها إلا أن يستسلم لنا، ويركع أمامنا!
فذلك قوله تعالى:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. (30)
فالنسوة حينما قلن: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لم يقصدن أنها ليست عفيفة راشدة، وإنما قصدن أنها امرأة خرقاء، لا تعرف كيف تنجز أمرها، وكيف تنال مبتغاها!
وأوضح دليل على ذلك أنهن فعلن كل ما فعلته امرأة العزيز، حينما سنحت لهن الفرصة، فالأمر ما كان أمر خلق وفضيلة، وإنما كان أمر المهارة واللباقة في إنجاز الرذيلة!
فلما وصل حديثهن إلى أذن امرأة العزيز، أخذتها العزة بالإثم، وقررت أن تجمعهن جميعا في قصرها، وتفسح لهن المجال مع فتاها، حتى يجربن ما يتبجحن به من مكرهنّ ودهاءهن، وهي على يقين بأنهن لن ينجحن فيما فشلت فيه، وإنما كانت تريد أن تكمّم أفواههنّ، وتقيم الحجة على أنها إن فشلت في مبتغاها، فليس ذلك بسبب عجزها وخُرقها، وضعف في مكرها ودهائها، وإنما فشلت لأنها أدخلت يدها في أمر مستحيل!
فكان أن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن غرفا مريحة فارهة تناسب مهمّتهنّ، وهيأت لهن جميع أدوات الزينة وأسباب الفتنة، حتى لا يبقى عندهن عذر في فشلهن مع يوسف، إذا فشلن كفشلها.
فأقبلت إليه النسوة كاسيات عاريات مائسات، ومكرن مكرا، وألقين حبالا، ورمينه بكل سهم، وتعرضن له بكل سكين، وأظهرن لافتتانه كل مهارة ولباقة، وكانت نهاية كيدهن ومكرهن أنهن اعترفن اعترافا:
(حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ!!)
جملة القول أن المعاجم والقواميس لا تساعدنا في معنى (آتت كل واحدة منهن سكينا)كما لا تساعدنا في معنى (قطّعن أيديهن) ولكن القرآن – بجوّه وسياقه – واضح في معنى اللفظين، فلا مبرر للعدول عن ظاهر القرآن إلى معان لا يقرّها اللسان، ولا يقترن بها برهان.
مثال آخر:
ومن هذا النوع قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. (51)
فما معنى الجبت؟
ما قيل في معنى الجبت:
قال ابن الجوزي: في «الجبت» سبعة أقوال:
أحدها: أنه السّحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي.
والثاني: الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس. وقال عكرمة: الجبت: صنم.
والثالث: حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء.
والرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.
والخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول.
والسادس: الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي.
والسابع: الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد. وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت: الساحرُ بلسان الحبشة.[14]
ذلك ما نجده في معنى الجبت عند المفسرين، وهي نفس المعاني التي توجد عند أئمة اللغة، وتلك المعاني التي ذكروها لا تستند إلى دليل، وهي نسبت إلى بعض الصحابة من غير إسناد، فلا حجة فيها.
معنى الجبت في ضوء الآيات:
وإذا رجعنا إلى القرآن، وأنعمنا النظر في آية الجبت، وجدنا أن القرآن لم يذكر الجبت إلا مرة واحدة، ولم يذكره إلا مقرونا بالطاغوت، وأما الطاغوت فقد ورد ذكره في القرآن ثماني مرات.
وكلما ذكر الطاغوت ذكر في مقابل لفظ الجلالة، وهذا يذهب بنا إلى القول بأن كل قوة معادية لله، وكل دولة محاربة لدينه تدخل في مسمى (الطاغوت).
والطاغوت ليس واحدا، فلكل قوم طاغوت، ولكل قُطر طاغوت، ولكل عصر طاغوت، وقد يكون الطاغوت في صورة شيطان واحد، وقد يكون في صورة عصابة من الشياطين.
وإذا كانت القوة الحاكمة المحاربة لله ولدينه هي الطاغوت، فالجبت هو القانون، أو النظام، أو الشريعة التي يحكم بها الطاغوت.
ولذلك كان التحاكم إلى الطاغوت، لا إلى الجبت، حيث قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا.[15]
والجبت لا يكون واحدا، كما أن الطاغوت لا يكون واحدا.
فالشرائع الجاهلية، التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تقوم عليها المجتمعات الجاهلية، والأنظمة الجاهلية، والحكومات الجاهلية، يطلق عليها لفظ (الجبت).
فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا في حرب مع شريعة الله؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالطاغوت، وكانوا يؤمنون بالجبت، وهي شريعة الطاغوت، فكانوا يؤيدون الكفار ضد المؤمنين، وكانوا يشجعونهم على شركهم، وكانوا ينوّهون بشأنهم، ويقولون حسدا وبغيا: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)
والسورة التي ورد فيها ذكر الجبت هي سورة النساء، وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من شرائع الله، وهي أقضّت على أهل الكتاب مضاجعهم، لأنها كانت رداً وإبطالاً لجبتهم، ونسخت كثيرا من بدعهم وأهوائهم.
ويمكن أن نستأنس هنا لمعنى الجبت بما روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال: العيافة والطيرة والطرق من الجبت.[16]
فذكر عليه السلام ثلاثة امور، وهي من أمور الجاهلية، أو من شرائع الجاهلية، وقال إنها من الجبت، وشرائع الجاهلية كلها من الجبت.
فهذا ما توصلنا إليه في معنى (الجبت) من خلال التأمل في نظم الآيات وجوّ السورة، وهو واضح ساطع لا لبس فيه ولا غموض، ولا يضرنا إن كانت المعاجم والقواميس ساكتة عن هذا المعنى، ما دام أن الآيات هي التي أرشدتنا إليه.
زبدة القول أن القرآن هو أوثق وأوسع مرجع للغة العرب، ويحدث أحيانا أن المحفوظ من كلام العرب لا يساعدنا في فهم كلمة من كلمات القرآن، فإذا رجعنا إلى القرآن نفسه، وأنعمنا النظر في آياته، وجدناه يبين معنى تلك الكلمة بأسلوبه، وسياقه، ونظم كلماته، بحيث يطمئن إليه القلب، وتسكن إليه النفس، فلله الحمد.
[1] الجامع لأحكام القرآن: 9/180
[2] أبوحيان- البحر المحيط: 5/250
[3] سورة طه: 71
[4] سورة المائدة: 33
[5] سورة يوسف: 31
[6] سورة يوسف:50
[7] شرح المعلقات السبع للزوزني- معلقةامرئ القيس: 1/23-24
[8] ديوان بشاربن برد: 1/146-147
[9] ديوان الحماسة لأبي تمام-باب النسيب: 2/132
[10] نفس المصدر- باب النسيب: 2/104
[11] الأمالي في لغة العرب- أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي: 2/4
[12] شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، باب الأضياف، وقال المساور بن هند بن قيس بن زهير
[13] ومما أفادني بعض الإخوة المتخصصين في الفنون الإسلامية، وهو الأخ منذر صبحي غنام الحسيني من فلسطين، أنه كان يُستخدم السكين في الآثار المصرية كأداة خاصة للزينة، وكان كمثل ما يسمى اليوم المكياج وماأشبهه.
فإن صحّ أن السكين كان أداة خاصة من أدوات الزينة، وكان يشبه المكياج، فهذا لاينافي أن يُستعار هذا اللفظ لمعنى أوسع وأشمل وأجمل كأخواته من السهام، والسلاح، والنبال، والقسيّ، كما قدّمنا.
[14] زاد المسير في علم التفسير- سورة النساء، الآية: 51
[15] سورة النساء: 60
[16] صحيح ابن حبان-كتاب النجوم والأنواء: 13/502/6131
…………………………………………………
المصدر: موقع الدكتور محمد عناية الله أسد سبحاني