مقالات مختارة

أهمية التحكيم

بقلم د. محمد جبر الألفي

كان التحكيم في بادئ الأمر هو الوسيلة الوحيدة لحسم المنازعات، إلى أن تكونت الوحدة السياسية ذات السيادة والسلطان، فنشأ نظام القضاء ليطبق شريعة هذه الوحدة السياسية، ومع ذلك ظل التحكيم قائمًا إلى جانب القضاء يؤدي دورًا هامًّا في المجتمع الإنساني:
1- فهو يجنب الخصوم كثيرًا من النفقات التي تتمثل في رسوم التقاضي وأتعاب المحامين وما شابه ذلك.
2- وهو يختصر الوقت الذي يستغرقه بطء التقاضي، والتنقل بين درجاته، وإجراءات تنفيذ الأحكام.
3- والتحكيم يتناسب وظروف أطراف النزاع، الذين يحددون بالاتفاق مع المحتكم إليهم ما يلائمهم من أوقات لا تتعارض مع أعمالهم وارتباطاتهم.
4- وقد يلجأ أطراف النزاع إلى التحكيم؛ حفاظًا على الخصوصية التي تسود علاقاتهم، ولا يرغبون في عرضها علنًا أمام القضاء.
5- ومما يشجع على تفضيل التحكيم: حرية أطراف النزاع في اختيار محكمين على درجة كبيرة من الخبرة الفنية التي لا بد منها في فَهْم طبيعة النزاع ودقة الحكم فيه.
6- ويحتل التحكيم مكانة مهمة في القانون الدولي العام، حيث التنظيم القضائي لا يزال قاصرًا.
7- وللتحكيم دور بارز في حسم المنازعات التي تظهر في أوساط الأقليات الدينية أو العرقية أو المذهبية، التي لا تقبل أحكام القانون السائد في البلد الذي تعيش فيه، فيجدون في التحكيم مخرجًا من تطبيق هذا القانون الذي قد يتعارض مع شرائعهم ومعتقداتهم وأعرافهم، وحينئذٍ يعد التحكيم فرض كفاية في واقعنا المعاصر، عند عدم توافر القضاء الإسلامي.

واحتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية – في الوقت الراهن – صار من الأمور التي عمت بها البلوى، فأغلب البلاد الإسلامية واقعة تحت تأثير خارجي شرس يمنعها من تطبيق الشريعة الإسلامية، فالقضاة الذين يحكمون على المسلمين منهم المسلم وغير المسلم، والقانون الذي يحكم به على المسلمين خليط من قواعد إسلامية وغير إسلامية، وهذه الدول الإسلامية ترتبط بمواثيق ومعاهدات دولية، وتسري عليها أحكام ومبادئ القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية، وتقدر بعض المصادر الإسلامية عدد المسلمين الذين يعيشون في دول غير إسلامية – سواء كانوا ينتمون بجنسيتهم إلى تلك الدول أو دول أخرى، أو كانوا من رعايا الدول الإسلامية – بنحو 230 مليون مسلم، ويعتقد بعض الباحثين أن هذا العدد قد يصل إلى حوالي ثلث مليار نسمة[1].

وإزاء هذا الوضع، لا يسهل الأخذ بالحلول التقليدية التي وضعها الفقهاء إبان وحدة العالم الإسلامي وعزته، من نحو وجوب الهجرة على من يقدر عليها، وإقامة الحدود أو التعامل بالربا في دار الحرب… ونحو ذلك[2]؛ وإنما ينبغي مساندة الهيئات الإسلامية والإنسانية التي تهتم بأوضاع الشعوب الإسلامية التي لم تستقل بعد، والتي تعمل على تمتع الأقليات المسلمة بحقوقها السياسية والدينية والاجتماعية، وقد نص الشافعية على أن: من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، ويقدر على الاعتزال في مكان خاص، والامتناع من الكفار، فهذا تحرم عليه الهجرة؛ لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار، وهو أمر لا يجوز[3].

إذا تقرر ذلك، فإن احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية يدخل في باب الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وحينئذٍ يرخص للمسلم في الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية، باعتباره نوعًا من التحكيم الفاسد، الذي ينفذ لموافقة الحكم قواعد القانون الطبيعي ومبادئ العدالة[4].

ولكن خصوصية قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين تتطلب وقفة متأنية؛ ذلك أن أحكام الزواج والطلاق والنسب والمحرَّمات من النساء، وعدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها وتوزيع التركات ونحو ذلك – قد ثبتت بنصوص من الكتاب والسنة، ومجال اجتهاد الفقهاء فيها محدود، فهي أقرب اتصالاً بالعقيدة، والفصل فيما ينشأ عنها من نزاع يقتضي الكثير من الخشية والاحتياط.

والمسلمون الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية على ضربين:

1- أقليات إسلامية تتمتع بقدر من الاستقلال الداخلي أو الحكم الذاتي، إما بنص أو معاهدة، وإما بحكم الأمر الواقع، وهؤلاء ينبغي عليهم إقامة نظام قضائي شرعي، ويكون تعيين قضاتهم إما بتولية من كبيرهم (شيخ الإسلام – أمير الجماعة – الحاكم)، وإما بتولية مباشرة من رئيس الدولة أو نائبه (غير المسلم)، وإما باتفاق من الجالية الإسلامية على شخص تتوافر فيه صفات القاضي ليحكم بينهم، وإما بأي طريق آخر يتناسب وأوضاعهم.
وقد نص الفقهاء على صحة هذه التولية، من ذلك ما جاء في فتح القدير: “إذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلد منه – كما هو في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار، وأقروا المسلمين عندهم -… يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه واليًا، فيولي قاضيًا ليقضي بينهم، أو يكون هو الذي يقضي بينهم”[5]، وفي قواعد الأحكام: “لو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله؛ جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد السابقة”[6]، وفي تبصرة الحكام: “القضاء ينعقد بأحد وجهين؛ أحدهما: عقد أمير المؤمنين…، والثاني: عقد ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء للضرورة الداعية إلى ذلك”[7]، وفي الأحكام السلطانية: “لو اتفق أهل بلد – قد خلا من قاضٍ – على أن يقلدوا عليهم قاضيًا، فإن كان إمام الوقت موجودًا بَطَل التقليد، وإن كان مفقودًا صح التقليد ونفذت أحكامه عليهم”[8].

2- أقليات إسلامية في بلاد لا يسمح نظامها بغير قضاء الدولة، وهؤلاء ليس أمامهم إلا الالتجاء إلى التحكيم، فيختارون مسلمًا عدلاً عالمًا بالشرع يفصل في قضاياهم المتعلقة بالأحوال الشخصية، وغالبًا ما تتولى هذه المهمة اتحاداتهم أو روابطهم أو جمعياتهم أو المراكز الثقافية الإسلامية لديهم، وبعد صدور حكم المحتكم إليه، إما أن ينفذه الأطراف من تلقاء أنفسهم، بدافع من الإيمان أو بتأثير من الجماعة، وإما أن يرفع الحكم إلى القضاء ليأخذ صيغة تنفيذية.

والواقع أن نظام التحكيم – في كثير من صوره – أصبح الآن معترفًا به في معظم الدول، ولا يعترض عليه القضاء إلا إذا خالف النظام العام، أو حسن الآداب، سواء كان تحكيمًا حرًّا “تحكيم الحالات الخاصة”، أو كان تحكيم مؤسسات وهيئات، والكثير من الدول تمنح هذه الأحكام قوة تنفيذية.

ولهذا نرى أن يقوم مجمع فقهاء الشريعة بتكوين لجنة من علمائه لمراجعة أحكام التحكيم التي تصدر عن هيئات تحكيم محلية، يجب إقامتها في مختلف الأقاليم، بدعم علمي ومالي وإداري وقانوني من المجمع، مع إعلام الجاليات المقيمة خارج ديار الإسلام بضرورة الالتجاء – شرعًا – إلى هذه الهيئات؛ حرصًا على تطبيق شرع الله على يد من يوثق بدينه وعلمه، والله أعلم، وهو أحكم الحاكمين.

——————————————————

[1] عبدالله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988، ص329-330، والمراجع التي أشار إليها في هامش 3.
[2] الكاساني، بدائع الصنائع: 7/ 30-31، الخرشي على خليل: 3/ 226، الرملي، نهاية المحتاج: 8/ 82، المرداوي، الإنصاف: 4/ 121.
[3] الرملي، نهاية المحتاج: 8/ 82، النووي، روضة الطالبين: 10/ 6.
[4] قرب: فتوى الشيخ محمد رشيد رضا عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، الذي أثبتها في تفسير المنار: 6/ 335-338، وقد قرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ط. دار الكتب المصرية، 8/ 303 بمناسبة ترجمة الشاعر النصراني “الأخطل” تحت عنوان: “كان حكم بكر بن وائل” ما يلي: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا الخراز، عن المدائني، قال: قال أبو عبدالملك: كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل، وكان يدخل المسجد فيقدمون إليه، كذلك قرأت في كتاب “مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي إلى الفتح العثماني” لعلي إبراهيم حسن، الطبعة الثانية: 1949م، ص303، أنه: إذا حدث نزاع بين مسلم وقبطي، تقدم المتقاضون إلى مجلس مؤلف من قضاة يمثلون الفريقين المتنازعين.
[5] ابن الهمام، فتح القدير: 5/ 461.
[6] عز الدين بن عبدالسلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 81.
[7] ابن فرحون: تبصرة الحكام: 1/ 15.
[8] الماوردي، الأحكام السلطانية: 76، أبو يعلى، الأحكام السلطانية: 73.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى