أهداف الاحتلال من اقتحامات الأقصى
بقلم د. تيسير التميمي
تتزايد في كل يوم تطلع فيه الشمس أو تغرب اقتحامات المستوطنين والجماعات اليهودية والشخصيات السياسية في الكيان الغاصب للمسجد الأقصى بأعداد كبيرة جداً بحماية القوات العسكرية من جيش وشرطة وحرس حدود وغيرهم، وبدعم كامل من حكومة نتانياهو الاحتلالية، وتتسارع إجراءات تهويده والهيمنة عليه بكل الصور والوسائل، وفي ذات الوقت تشهد أبواب المسجد الأقصى المبارك والحواجز المنصوبة على مداخل مدينة القدس منع المصلين المسلمين من الدخول للصلاة فيه، حتى لمن تجاوز الأعمار التي يفرضها الاحتلال كشرط لدخوله، مما يؤكد للقاصي والداني أن الأخطار المحدقة به وبالمدينة المقدسة جديّة وليست مجرد تخوّفات أو تكهّنات.
إذن فهناك جنونٌ إسرائيلي مشهود تتصاعد وتيرته وتتسارع إجراءاته يستهدف القدس والمسجد الأقصى المبارك ويرمي إلى تحقيق الحلم الأسطوري العنصري؛ والذي تمثل الإجراءات الاحتلالية الإسرائيلية فيهما إحدى حلقات مسلسله الشيطاني، مستغلة انشغال الأمة بمشاكلها الداخلية المفتعلة، وبعجزها وضعفها الذي تم الترتيب له قصداً، ومستغلة كذلك الانقسام الآثم والخلافات بين بعض فصائل العمل الوطني الفلسطيني والذي تغذيه الخلافات الحزبية وتكرسه الأهواء والمصالح الخاصة.
فالمسجد الأقصى المبارك يتعرض لمحاولات متنوعة ومستمرة تسهدف تهديمه لبناء الهيكل المزعوم مكانه، وتسعى إلى تقسيمه بين المسلمين واليهود على غرار فعلتها الإجرامية في الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل في عام 1994، فقد نفذت فيه قوات جيش الاحتلال مجزرة إرهابية ومسلسلاً من القتل استباح الدم الفلسطيني، ابتدأ في المحراب وامتد إلى مداخل الحرم والسُّلَّم المؤدي إليه ووصل إلى الشوارع والطرقات ومحيط المستشفيات، فكان يوماً لا ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن؛ لقد كانت المجزرة مخططاً دموياً مدروساً لتحقيق هدف مرسوم هو تهويد الحرم الإبراهيمي الشريف وقلب مدينة خليل الرحمن، فبعد انقضاء فترة حظر التجول الذي فرض على المدينة عقب المجزرة لأكثر من شهر، وبعد إغلاق للحرم في وجه المصلين المسلمين امتد لأكثر من شهرين؛ فوجئ أهل المدينة بتقسيمه وتهويد الجزء الأكبر منه؛ وتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إليه؛ بينما يسمح لليهود بالدخول والخروج متى شاءوا، وما زال الوضع فيه على حاله منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
إن أكبر هدف ترمي إليه سلطات الاحتلال من خلال دعمها الكامل وحمايتها للاقتحامات اليومية التي لا تتوقف وبأعداد متزايدة هو فرض الأمر الواقع، بحيث يصبح وجود المستوطنين والجماعات اليهودية وغيرهم من الصهاينة في المسجد الأقصى وفي ساحاته أمراً معتاداً وجزءاً من مشهده ومشهد مدينة القدس المحتلة.
وهنا نقول لهم: في الماضي؛ وقبل قرون خضعت مدينة القدس المباركة لاحتلال الفرنجة الصليبيين، واتخذ هؤلاء الغاصبون من المسجد الأقصى المبارك اصطبلاً لخيولهم، فكان هذا أمراً واقعاً فرضته القوة الغاشمة في تلك الحقبة من الزمان، وأصبح حينها جزءاً من المشهد اليومي لمدينة القدس، واستمر هذا الحال عقوداً وعقوداً، ولكن إلى متى ؟
لقد نهضت الأمة التي كادت أن تفقد كرامتها وعزها وشرفها بضياع القدس والمسرى، ونفضت غبار الذل والضعف والعجز والهوان عن نواصيها، وبدأت بالعمل الدؤوب ليل نهار في خطة شاملة وسعت أبناءها بمختلف شرائحهم ولا لأخص في المدارس، بدأت بوضع الأسس والقواعد للنهوض والتحرير، صحيح أن هذه الهمة والصحوة استغرقت سنوات وسنوات لكنها نجحت بفضل الله، بعثها في الأمة مجموعة من القادة المخلصين استلموا الراية عن بعضهم تِباعاً واحداً تلو الآخر حتى حققوا الهدف المنشود وهو تحرير القدس وتطهير الأقصى نهائياً من دنس الغزاة ومن نير الاحتلال، فعادت لهما الهوية الحقيقية الثابتة، وهي انتماؤهما لأمة النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن السنن الكونية والتاريخية والبشرية تتكرر وتتجدد كلما تجددت مقدماتها، فستنهض أمتنا حتماً، وستعيد لمدينتها المقدسة ولمسجدها الأقصى هويتهما العربية والإسلامية، فهذا ما عهدناه منها كلما تعرضت القدس والمسرى للأسر والغزو والعدوان.
لكل ذلك فإنني أدعو كافة الشعوب العربية والإسلامية التي ثارت على الظلم والقهر والاستبداد في عديد من الدول العربية إلى رفض هذا المساس العلني بقدسية الأقصى من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة، وإلى رفض اعتداءات المستوطنين الغاصبين المستمرة على المساجد الأخرى في فلسطين وإحراق محتوياتها وممتلكات الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، وإلى إعلان تمسكها بإسلامية القدس والمسجد الأقصى المبارك بكل مبانيه ومساحاته ومكوناته، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، مسرى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ورمز عقيدتها وعزتها وكرامتها.
وأرى أن مواصلة الجماعات اليهودية المتطرفة استمرار اقتحام المسجد الأقصى يرمي إلى رصد ردود فعل الشعوب العربية والإسلامية تجاه انتهاكها حرمته، واختباراً لمواقفها إزاء استمرار المخططات العديدة والمتنوعة لتهويده والهيمنة عليه، ومن ثم تقويض بنيانه من القواعد وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، مما يقتضي الأمة الاضطلاع بمسؤولياتها في حمايته والقيام بأوجب واجباتها في التصدي لهذه المؤامرات الخبيثة التي تحاك ضده وإفشال ودفع كل نوع من الأخطار التي تتهدده.
وأناشد أبناء شعبنا في كافة مواقعهم وبالأخص المقدسيين منهم وأهلنا في الأرض المحتلة عام ثمانية وأربعين أيضاً أن يشدوا الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه وأن يكثفوا حضورهم الدائم فيه للذود عنه والتصدي للمخططات التي تستهدف هويته الإسلامية، فالقدس والمسجد الأقصى المبارك هما بؤرة الصراع المركزية الحقيقية بين المشروع الصهيوني والأمة الإسلامية بأسرها.
وأستهجن في الوقت ذاته ـ كما يستهجن جميع أحرار العالم وشرفاؤه وعقلاؤه ـ صمت العالم على ما يجري فيهما من عدوان وانتهاكات من قبل المستوطنين الغاصبين والجماعات اليهودية المتطرفة المدعومة بالكامل من الحكومة الإسرائيلية وأذرعها العسكرية المتعددة، فهي برهان عملي قاطع ودليل دامغ على إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه ضد الفلسطينيين ومقدساتهم على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي الذي يفترض أن يتحمل المسؤولية الكاملة عن أمن وسلامة الشعب الفلسطيني؛ وبالأخص هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وقبل كل ذلك أطلب من الأمتين العربية والإسلامية التي انتفضت شعوبها وأسقطت أنظمتها الظالمة القاهرة أن تضع قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك على رأس سلم أولوياتها، وأن تبقيها حاضرة في قلوب أبنائها وضمائرهم، فارتباطهم بهما لم يكن ارتباطاً عاطفياً عفوياً ولا مرحلياً مؤقتًا في يوم من الأيام، وإنما هو ارتباط عقائدي راسخ رسوخ الإيمان لأن الله تعالى قرره من فوق سبع سماوات فقال سبحانه {سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ} الإسراء 1 لذا فقد أصبح اليوم لزاماً عليهم كافة أن يعملوا بجدية كاملة لإفشال هذه السياسة الإجرامية بحقهما.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)