إعداد السنوسي محمد السنوسي
على امتداد حياته التي بلغت خمسة وثمانين عامًا، (1917- 2002م)، نستطيع أن نقول إن المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي، رحمه الله، قد أمضى منها ما يقارب السبعين عامًا في عمل دءوب ونشاط متصل، في ميادين الأدب والفكر والثقافة والدعوة والدفاع عن الإسلام والتأصيل لقضاياه ومناهجه.
بدأ مفكرنا حياته الأدبية والثقافية مبكرًا جدًّا؛ ففي سن السابعة عشرة نشر أول مقال له في مجلة “أبولو” الأدبية، التي كان يحررها د. أحمد زكي أبو شادي، ضمن عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم.. وهو ما فتح له باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ؛ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة.. ثم امتدت رحلة العطاء..
مُحامٍ عن الإسلام
كان الأدب والنقد مدخل الأستاذ الجندي للكتابة والثقافة، ثم ما لبث أن استرعاه ما يواجه الإسلامَ من شبهات وتحديات؛ وكان قد اطلع على شيء من هذا مبكرًا من خلال كتابات الدكتور محمد حسين هيكل في “السياسة”، و”السياسة الأسبوعية”، عن التغريب وكتاب المستشرق جب (وجهة الإسلام).. فنذر الجندي نفسه للفكر الإسلامي؛ دفاعًا وتأريخًا وتأصيلاً.. وكان يقول عن نفسه: “أنا محامٍ في قضية الحكم بكتاب الله؛ مازلت موكَّلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة.. أُعِد لها الدُّفوع، وأقدم المذكرات، بتكليف عقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى”.
كان أنور الجندي يمتلك قلمًا رصينًا رائقًا، إذ بدأ حياته أديبًا وناقدًا.. ويلم بالقضية التي يتناولها إلمامًا جيدًا، لاسيما المتصلة بالتاريخ الحديث؛ فقد كان على اطلاع واسع بالصحف والمجلات والدوريات، ويتابع المعارك الفكرية والأدبية في أرشيفاتها العتيقة بصبر ودأب قلَّما توافرا لباحث آخر.. وقد ذكر عن نفسه قائلاً: “قرأت بطاقات دار الكتب، وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها.
راجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رءوس موضوعات، راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عامًا، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن؛ كل ذلك من أجل تقدير موقف أو القدرة على التعرف على (موضوع) معين في وقت ما”.
هذا الدأب، وهذه الجدية في التعامل مع القضايا، وهذه الموسوعية في الاهتمام بقضايا الفكر والأدب المختلفة؛ جعلت مفكرنا الكبير أنور الجندي- بحقٍّ- (مؤرخ الفكر الإسلامي في القرن العشرين).. مع زهد بالغٍ ميَّز حياته الشخصية، وجعله لا يبتغي سوى إرضاء الله تعالى بإبراز حقائق الإسلام، والدفاع عن الأمة في ميدانها الفكري، والتصدي بقلمه للمتربصين والطامعين والمنحرفين.
أربعمائة عنوان!
وعبر ما يزيد على الأربعمائة عنوان؛ ما بين عمل موسوعي، وكتاب مفصَّل، ورسالة موجزة (كما أخبرني أمين مكتبته الباحث/ محمد مبروك).. تنوع العطاء الفكري للأستاذ الجندي، في جهد وجهاد حثيث، وإنتاج غزير تعجز عنه مؤسسات كاملة!.. ومن أهم المحاور التي توزع عليها عطاؤه:
- في الدعوة والفكر الإسلامي وتحدياتهما.
- في الغزو الفكري ومواجهة التغريب والاستشراق والتنصير.
- في الحضارة والتاريخ وفلسفته وتصحيح النظر لمحطاته الكبرى.
- في الاقتصاد ومدارسه وإبراز المنهج الإسلامي.
- في الصحافة والتأريخ لها والتحذير من الأقلام المسمومة فيها.
- في التراجم، وإنصاف أعلام الأصالة والانتماء، ونقد الشخصيات الهدامة.
- في الأدب ومذاهبه ومعالمه وفضح الاتجاهات الوافدة.
- في أسلمة المناهج والعلوم والقضايا والمصطلحات المعاصرة.
- في مفاهيم العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق.
- في الصحوة الإسلامية والتأريخ لحركة اليقظة في العصر الحديث.
المصطلحات والمفاهيم
كان مفكرنا الكريم شديد العناية بالمصطلحات والمفاهيم، لأنها النافذة التي تتسرب منها المناهج والنظم المخالفة للإسلام.. وقد خصص الأستاذ الجندي لهذه المهمة، بالإضافة لمجمل أعماله، كتابًا مهمًّا في جزءين، هو (مَعْلَمة الإسلام)، الذي أراد به أن يكون “دائرة معارف إسلامية جامعة، تربط بين الأصالة والمعاصرة، وتختص بالمصطلحات وتضم 99 مادة، أي مصطلحًا، في مختلف أبواب الشريعة والأخلاق والتربية والاجتماع والاقتصاد والنفس والثقافة والحضارة والعلم والفن والتاريخ واللغة والسياسة والفلسفة ومقارنات الأديان”، كما جاء في تعريفه بـ(المعلمة).
وقد أكد مفكرنا الراحل في تقديمه (المعلمة) ضرورة التنبّه لخطورة المصطلحات والمفاهيم، موضحًا أن “المفكرين المسلمين مطالبون اليوم بأن يقدموا الإسلام للبشرية بديلاً عن هذه المناهج التي انهارت وفسدت وتعفنت، ومطالبون قبل ذلك أن يتعرفوا إليه ويأخذوا به في أنفسهم وفي أسرهم. وهذا يقتضي الكشفَ عن الحقائق، وتصحيحَ المفاهيم، وتحريرَ القيم من دخائل التفسيرات الغربية والماركسية والصهيونية جميعًا، وإزاحةَ ذلك الظل المظلم، وكسرَ هذه الدائرة المغلقة التي خلَّفها التغريب والغزو الثقافي”.
اهتمامه بالشباب
اهتم أنور الجندي بالشباب، وحرص على كتابة رسائل موجزة لهم في مختلف القضايا التي فصَّلها في موسوعاته وكتاباته الأخرى؛ إدراكًا منه بأن الشباب هم الهدف الأول لموجات التغريب.. حتى إنه كتب لهم رسالة لطيف بعنوان: (ماذا يقرأ الشباب المسلم)، نصحهم فيها بأهم الكتب التي لابد من مطالعتها، ووجههم إلى أن يقرأوا الكاتب قبل أن يقرأوا له.. وإلى “أن لا تخدعنا الأسماء ذات الدويّ، ولا الأثواب البراقة، ولا أرقام التوزيع أو براعة الإعلان؛ وأن نكون قادرين على الحكم على الكتابات المطروحة من خلال قيمتها الحقيقية، ومن خلال معرفتنا لمدى إيمان كُتابها بأمتهم وفكرهم.. ذلك أننا إنما أُوتينا من قِبل الكتب اللامعة والأسماء البّراقة”.
وقد أهداهم (معلمة الإسلام)، قائلاً: “الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الإسلام والعرب؛ فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسئولياته وتبعاته؛ وهم الذين سوف يحملون أمانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الأخطار التي تحيط بها من كل جانب؛ فمن حقهم على جيلنا أن يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة”.
مفتاح شخصيته
وإذا أردنا أن نكشف عن “مفتاح شخصية أنور الجندي”؛ تلك الشخصية العميقة الثرية متعددة الإبداعات؛ فيمكن أن نتلمس هذا “المفتاح” فيما وصف به الجنديُّ أحدَ أعلام اليقظة والانتماء، أعني الأديب كامل كيلاني؛ إذ قال عنه الجندي في ذكرى وفاته الرابعة والعشرين، 1982: “إن مفتاح شخصية كامل كيلاني هو التحدي الذي واجه الأمة.. فعندما اشتعلت موجة العامية في الصحافة، وارتفع صوت الهجوم على الفصحى، واتسع نطاق التكلم باللغات الأجنبية في البيوت المصرية؛ وهذه الظاهرة قد استطارت في العشرينيات: ظاهرة التكلم بالفرنسية في الأسَر الكبرى؛ هنا اهتزت نفس الرجل، وترك مجاله في الأدب والشعر إلى كتابة قصة الطفل؛ لحماية اللغة العربية وإذاعتها.. وأخذ يطبع قصصه طباعة حديثة أنيقة على ورق فاخر وبالألوان.. وكان يحملها إلى بعض البيوت، يقدمها لرجالها باسم أبنائها”.
وهكذا كان “أنور الجندي” أيضًا.. فحيثما بَرَزَ تحدٍّ فكريٌّ وثقافي للإسلام في قضايا الفكر والتربية والتاريخ والأدب والصحافة والحضارة والاستشراق والتغريب، وجدت “الجنديَّ” فارسًا لا يُشق لا غبار، وقلمًا سيَّالاً لا يجف مداده حتى يأتي على الحقائق الناصعة فيبرزها، وعلى الشبهات الزائفة فيعرّيها وينقضها.
رسالته ومكانته
أما رسالته في الحياة، وزهده البالغ في زخارفها الزائلة، وصبره على شظف العيش وعدم تطلعه إلى ما يمكن أن يكون عقبة أمام أداء رسالته.. وأما مكانته وما تركه من أثر وعطاء عريض.. فيمكن لنا أيضًا أن نتعرف على ذلك- بإيجاز- من خلال وَصْفِه لعَلَم آخر من أعلام الفكر الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو الأستاذ محمد فريد وجدي، إذ قال عنه الجندي في كتاب خصَّصه له: “نحن إزاء شخصية خصبة غاية الخصوبة، عميقة غاية العمق.. شخصية مفكر وفيلسوف، وباحث متجرد لفكرة واحدة، عاش لها حياته كلها، وما أطولها، بعيدًا عن مجالات الشهرة والتألق، أو إحداث الدوي، كأنما هو زاهد، لا يتطلع إلى أي شيء في هذه الحياة، غير أمر واحد، هو أن يقول كلمته.
إنه من النماذج القلائل التي تظهر في تاريخ الفكر الإنساني بين آن وآخر، لتكون مهيأة بالعقل والقلم على أداء دور كبير، ليس على مسرح الحياة وإنما في أعماقها.. من أولئك القادرين على استيعاب مفاهيم عصرهم من أجل الدفاع عن دعوة إنسانية رفيعة يحملون لواءها مدى حياتهم، لا يصيبهم اليأس ولا التحول، ولا تزيدهم الأيام والأحداث إلاّ قوة على الاستمرار.. فكأنما هذه الحياة عندهم مجرى طويل ممتد يبدأ أول أمره عاديًّا لا يلفت النظر.. ثم لا يلبث أن يزداد عمقًا.. ولا يزال يمتد ويتسع ويعمق حتى إذا أوفى على الغاية اكتمل وتضخم وأحال كل ما حوله خصبًا وحياة”.
وكأن الجندي، رحمه الله، يتحدث عن نفسه..!
ما أصعبها من مهمةٍ حاولتها هذه السطور، وهي كتابة مقال عن المفكر العملاق الموسوعي أنور الجندي، في ذكرى مرور مائة عام على مولده.. لكن حسبها أن تكون لمسة وفاء لهذا المفكر الكبير الذي له دَين في أعناق أجيال كثيرة أفادت من علمه، وترعرعت على كتاباته، وفاءت إلى رياضها.. وحسبها أيضًا أن تكون دعوةً للتعرف على تراث الرجل وإعادة قراءته بما يواصل المهمة التي نذر نفسه لها، وقام بها خير قيام..
(المصدر: إسلام أونلاين)