بقلم الشيخ عبدالعزيز رجب
نتناول في هذا المطلب – بمشيئة الله تعالى – التقسيم الرابع لمقاصد الشريعة الإسلامية باعتبار تعلقها بعموم الأمة وخصوص أفرادها.
وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى (مقاصد كلية – مقاصد بعضية – ومقاصد أغلبية).
المقاصد الكلية:
وهي المقاصد التي تعود على عموم الأمة عودًا متماثلًا؛ أي: تعود على عموم الأمة كافة، وفيه صلاح الأمة والجمهور، ولا الالتفات منه إلى أحوال الأفراد إلا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة[1].
من المقاصد الكلية التي تتعلق بعموم الأمة:
1- المساواة: ونقصد بالمساواة مساواة الأمة في تناول الشريعة أفرادها، وتحقيق مقدار اعتبار تلك المساواة ومقدار إلغائها، والمساواة في التشريع الإسلامي أصل لا يختلف إلا عند وجود مانع[2].
عوارض المساواة: وعوارض المساواة هي التي إذا تحققت تقتضي إلغاء حكم المساواة، لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، أو ظهور مفسدة محققة جراء المساواة.
أنواع العوارض المانعة من المساواة في بعض الأحكام:
العارض الأول:
العوارض الأصلية أو الجلية الدائمة: وهي الموانع التي تتغير وتعلم بطبيعة الإنسان، مثل: مساواة المرأة للرجل فيما تفتقد فيه عنه بموجب أصل الخلقة، مثل إمارة الجيش، والخلافة، وإمامة المرأة للرجال في الصلاة.
العارض الثاني:
العوارض الشرعية: ما كان تأثيرها بتعيين التشريع الحق، إذًا التشريع الحق لا يكون إلا مستندًا إلى حكمة علة معتبرة، والموانع الشرعية تتعلق بالأخلاق واحترام الغير، مثل: قاعدة حفظ الأنساب في منع مساواة المرأة للرجل في إباحة تعدد الأزواج.
العارض الثالث:
العوارض الاجتماعية: وهي الموانع التي تبنى على ما فيه صلاح المجتمع، مثل: صنع مساواة الجاهل للعالم في التعدي للنظر في مصالح الأمة، الموانع الاجتماعية ترجع إلى المعاني المعقولة، أو ما تواضع عليه الناس واعتادوه، مثل مساواة العبيد للأحرار في قبول الشهادة.
العارض الرابع:
العوارض السياسية: وهي الموانع التي تؤثر في سياسة الأمة، فتقضي بإبطال حكم المساواة بين أصناف أو أشخاص، أو في أحوال خاصة، كل ذلك لمصلحة من مصالح دولة الأمة، وهي تتعلق بحفظ الحكومة الإسلامية من وصول الوهن إليها، مثل الوحدة، ونشر الدعوة الإسلامية، حماية البيضة[3].
2- مقصد التعاون والتضامن والتكافل: وهو مقصد شامل لكل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والله قد أمر به، وهو أمر ظاهر وبين، ففي التعاون قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].
وقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
وعدم التعاون على الإثم والعدوان: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
فرض الزكاة، والصدقات عمومًا، وأوجب الخير والبر عمومًا، كالوصايا للخيرات في حدود ثلث التركة، والأوقاف على الخيرات، والمصالح العامة من أنواع الصدقات الجارية التي لا تنحصر.
3- مقصد وحدة الأمة: وهو مقصد من مقاصد الشريعة الكلية التي تحافظ على كيان الأمة وديمومتها، وقد أمر الله بها فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].
ووحدة الأمة الإسلامية وحدة جامعة، ينطوي تحت لوائها وحدة العقيدة، والشريعة، واللغة والوطن والعروبة بلا تعارض بينهم، يقول د/ جمال الدين عطية: “تدعيم وحدة الأمة المختلفة في وحدة العقيدة، والشريعة، واللغة، وحدة الأمة لا تنفي التعددية في إطار الوحدة، فوحدة العقيدة لا تنفي وجود فرق متنوعة في مسائل العقيدة، ووحدة الشريعة لا تنفي وجود مذاهب فقهية متعددة، كما لا تنفي وجود أحزاب سياسة متعددة ذات برامج مختلفة في إطار الأصول الإسلامية العامة، ووحدة اللغة لا تنفي تعدد اللهجات، كما لا تنفي استعمال لغات قومية ومحلية إلى جانب لغة القرآن الكريم”[4].
ووسائل تحقيق هذا المقصد:
1- تدعيم معنى الخلافة الخاصة بالأمة الإسلامية: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30].
2- سيادة الشريعة على كل ما عداها من نُظم وقوانين وحكام ومحكومين وأوضاع وعادات؛ ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
3- ضرورة التنظيم الجماعي: بدءًا من أدنى صوره ((إذا كنتم ثلاثة، فأمِّروا أحدكم))، وإلى الإمارة في صلاة الجماعة، وجعل ثوابها بضعًا وعشرين ضعفًا، إلى الإمامة العظمى التي اعتبرت من فروض الكفاية، التي تأثم الأمة إذا لم تقمها[5].
4- تفعيل الشورى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
6- نشر الدعوة الإسلامية: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125].
7- الإعداد العسكري: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ [الأنفال: 60].
4- مقصد الحرية: ومقصد الحرية من المقاصد الكلية التي دعا إليها الإسلام، وحافظ عليها.
والحرية لها معنيان: ضد العبودية، وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة، تصرفًا غير متوقف على رضا أحد آخر، تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض[6].
ووسائل الشريعة في تحقيق هذا المقصد:
الإسلام التفت إلى علاج الرق والحرية بصفة عامة، فمن الأقوال المأثورة في ذلك “الشارع متشوِّق للحرية”.
أولًا: علاج الرق: من خلال تكثير أسباب رفعه:
مثل: جعل بعض مصارف الزكاة في شراء العبيد وعِتقهم ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ [التوبة: 60]، جعل العتق من وجوه الكفارات: القتل الخطأ، الفطر في رمضان، والظِّهار، حنث اليمين، أمر بمكاتبة العبيد إذا طلَبوا ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ [النور: 33]، وجوب أو ندب إذا أعتق الشريك نصف العبد أن يعتق الشريك الآخر النصف المتبقي، إعتاق الجارية إذا ولدت من حر، وتسمى (أم الولد)، الترغيب في عِتق العبيد عمومًا؛ ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 – 13].
2 – النهي عن التشدُّد على العبيد في الخدمة[7]:
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يكلف من العمل ما يغلب، فإن كلفه فليُعِنْهُ))،[8]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عبيدكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمه مما يأكل، وليُلْبِسْه مما يلبَس))[9].
ثانيًا: حرية الاعتقاد: كما اعتنى الإسلام بحرية الاعتقاد:
1- فدعا إلى إبطال المعتقدات الضالة التي أكره دعاة الضلالة أتباعهم ومريديهم على اعتقادها بدون فهم ولا هدى ولا كتاب منير.
2- ودعا إلى إقامة البراهين على العقيدة الصحيحة.
3- حسن مجادلة المخالفين، وردهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وأحسن الجدل؛ كما قال سبحانه: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
ثالثًا: حرية الأقوال:
وهي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، وفي ذلك أباح حرية العلم والتعليم والتأليف؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأدَّاها كما سمعها؛ فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه))[10].
4- حرية الأعمال: وتكون في عمل المرء في خويصته، وفي عمله المتعلق بعمل غيره، إعمال المرء في الخويصة يدخل في تناول كل مباح، وعمل المرء في المتعلق بغيره الأصل فيه أنه مأذون له فيه، إذا لم يكن يضر بغيره[11].
5- مقصد النظام الأمن: ومعناه أن تكون الأمة قوية مرهوبة الجانب، مطمئنة البال ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النور: 55]، ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
“والأمن مِن نِعم الله التي أنعم بها على قريش؛ {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، وهو من مقومات الأمة الرئيسية، ومقاصد الشريعة في تنظيمها[12].
وسائل حفظ الأمن: تشمل وسائل حفظ الأمن (الأمن الداخلي والخارجي):
أ) حفظ الأمن الداخلي: وشرعت الأحكام المتعلقة بحماية النفوس والأعراض الأموال، كما فرض العقوبات على انتهاكها، سواء في ذلك ما كان لحماية آحاد الناس؛ كالقِصاص، وحد السرقة والقذف، أو ما كان لحماية الجماعة؛ كحد الحرابة، وحد الردة.
ب) حفظ الأمن الخارجي:
1- شرع إعداد القوة لزجر الغير عن التفكير في الاعتداء ﴿ وَأَعِدُّوا ﴾ [الأنفال: 60].
2- شرع الجهاد للدفاع في حالة وقوع اعتداء من الخارج.
3- شرع الاكتفاء الذاتي ضمن فروض الكفاية؛ كيلا تكون الأمة عالة على غيرها.
4- شرع ترتيبات إقرار الأمن في حالة بغي طائفة على أخرى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
————————————-
[1] ابن عاشور (213، 314)، الاجتهاد المقاصدي (40).
[2] ابن عاشور (329).
[3] انظر ابن عاشور (333/ 335).
[4] نحو تفعيل مقاصد الشريعة (155، 156).
[5] انظر: نحو تفعيل مقاصد الشريعة (157).
[6] ابن عاشور (391).
[7] البخاري (5/ 22، 8) مسلم (5/ 93) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[8] البخاري (5/ 22، 8) مسلم (5/ 93) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[9] البخاري (5/ 22، 8) مسلم (5/ 93) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[10] أحمد (3/ 225)، ابن ماجه (1/ 89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] ابن عاشور (397، 398).
[12] نحو تفعيل مقاصد الشريعة (157).
المصدر: شبكة الألوكة.