بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
يمكننا أن نقسِّم التفسير المقاصديَّ إلى نوعين:
النوع الأول: التفسير المقاصدي العام:
وهو ذلك التفسير الذي يبحث في الغايات الكلية والعامَّة للقرآن الكريم، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن هذه المقاصد[1]، فالقرآن تحدث عن مقاصده، ومن ذلك:
1- مقصد توحيد الله وعبادته:
- ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 1 – 3].
- ﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 1 – 3].
- ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 1 – 3].
- ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [الأحقاف: 1 – 5].
2- مقصد الهداية الدينية والدنيوية للعباد:
- ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2].
- ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
- ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38].
- ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 1 – 4].
- ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].
- ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
- ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].
- ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 29، 30].
- ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2].
- ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64].
- ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
- ﴿ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الطلاق: 11].
3- مقصد التزكية وتعليم الحكمة:
- ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
- ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151].
- ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
- ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231].
4- مقصد الرحمة والسعادة:
- ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
- ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
- ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [طه: 1 – 3].
- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
5- مقصد إقامة الحق والعدل:
- ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].
- ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115].
- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
- ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48].
- ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الشورى: 17].
- ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 1 – 9].
النوع الثاني: التفسير المقاصدي الخاص:
وهذا النوع من التفسير المقاصدي هو الذي يبحث في مقاصدَ خاصةٍ بمجالٍ من المجالات، أو مقاصد خاصة بسورةٍ من السور، أو حتى مقاصد تفصيلية لألفاظ القرآن الكريم.
فمجالات القرآن الكريم متنوعة، مثل: مجال العبادات، ومجال أحكام الأسرة، ومجال الحدود والعقوبات، ومجال تزكية النفس، ومجال الأخلاق، ومجال العقيدة… إلخ.
وجَمْع آياتِ القرآن الكريم في مجال من المجالات، أو حتى موضوعٍ من الموضوعات، مع التأمُّل فيها والتدبُّر، يكشف عن مرامي القرآن الكريم وغاياتِه في هذا المجال أو ذاك.
فلو تأملنا مثلًا في مجال الزواج والحياة الزوجية، وهو ركن من أركان أحكام الأسرة، فكيف تحدَّث القرآن عن هذه العلاقة؟
للفقهاء والأصوليين حديثٌ عن الزواج، تغلب عليه اللغة القانونية، لغة الحقوق والواجبات، ولغة الأحكام الشرعية؛ حيث الوصف بالحِلِّ والحرمة ونحو ذلك، وللدعاة حديث أيضًا تغلب عليه روحُ الإصلاح، واستدامةُ الحياة، واستبقاؤها بين الزوجين، في غير نسيان للتذكير بالحقوق المتبادلة بينهما، وسبلِ تفعيلها.
وقد وجدتُ في القرآن مذاقًا خاصًّا، وطعمًا حلوًا، ومعانيَ متفردةً، حين تحدَّث عن الزواج، ذلك الرِّباط الوثيق والميثاق الغليظ، وتلك العلاقة العجيبة، فكيف تحدَّث القرآن عنها؟
1- الزواج آيةٌ من آيات الله تستحق التفكُّر، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، فهل هناك أسمى من أنْ يجعلَ اللهُ الزواجَ آيةً من آياته تستحق التفكُّر والتدبر والتأمل؛ لما فيها من عجائب وغرائب يلحظها كلُّ سليم الفطرة، عميق الفِكر، بعيد النَّظر؟! أمَّا أصحاب الفِطَر المطموسة المنكوسة، فليسوا من ذلك في شيء؛ ولهذا ختمَت الآية بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
2- الزوجة مخلوقة من نفْس الزوج؛ كما في آية سورة الروم السابقة: ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [الروم: 21]، وكما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [النساء: 1]، وقولِه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [الأنعام: 98]، فانظر إلى دلالة: ﴿ مِنْهَا ﴾؛ فهي توحي بأنَّ الزوجةَ جزءٌ من الزوج، والزوجَ جزءٌ من الزوجة؛ فكأنَّ الأصل أن هذه العلاقة غيرُ قابلة للانفصال إلا إذا انفصل الجزء عن الكلِّ، أو انبتر العضو من البدن، وهو ما لا يتصور إلا بمرض خبيث، نسأل اللهَ العافية.
وأيضًا فيها دلالة أخرى، وهي أنَّ المرأةَ من طِينة الرجل، فيها ما فيه من ضَعْف ونقص وخطأ؛ فلا ينبغي أن يفترض فيها الكَمال، والأمرُ كذلك بالنِّسبة له، إنَّهما من الطينة نفسها.
3- الزواج سكن للزوجين، كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [الأعراف: 189]، وقوله: ﴿ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ [الروم: 21]، وجعلَ هذا من آيات الله تعالى، وهذا محسوسٌ ومُشاهَد في الحياة العملية للأزواج الأسوياء.
وفي كون الزواج سكنًا للطرفين يجعلُ كلًّا منهما متمسكًا بهذا السَّكَن، وهل يفرط في السكن عاقل أو سوِيٌّ؟! إضافةً إلى ما في بِنية الكلمة ﴿ لِتَسْكُنُوا ﴾ من راحة وروح، واطمئنان وهدوء، تسكبها في النَّفس حروفُ الهمس في الكلمة.
4- المودة والرحمة بين الزوجين فعلٌ إلهي، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، وما دلالة هذا؟
إن من دلالاته أنَّ الله تعالى يريد لهذه العلاقة أن تقوم، وأن تستمرَّ؛ سكنًا للزوج، وسكنًا للزوجة، ورحمةً ومودَّةً متبادلة، ومراعاةً للحقوق، وتحقيقًا للوفاء؛ لذلك تولَّاها الله بنفسه وأنشأها جَعْلًا إلهيًّا خالصًا.
5- الزوج لباس للزوجة، والزوجة لباس للزوج؛ قال تعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187]؛ هل في هذا التعبير من جمال أو فوائد؟
الجواب: نعم، بلا شك؛ فهو تعبير يوحي بأنَّ كلًّا منهما حريصٌ على الآخر كما يحرص المرء على لباسه، ولنا أن نسأل هنا: ما وظيفة اللِّباس؟ إذا تدبَّرنا، وجدنا أن وظيفته تتلخَّص في ثلاثة أمور: الحماية، والستر، وإبراز الحسن؛ فكأنَّ القرآن يريد أن يقول لنا: إنَّ الرجل حماية لزوجته من الرياح الهوج، ومن أتربة الحياة، وزعازع الدهر، وأنواء الزمان، وكذلك المرأة حماية لزوجها في أسراره ومالِه، وأولاده وعرضِه وشرفه، وإن كلًّا منهما يجب أن يكون سترًا على الآخر، فلا يُبرز عيوبه إلَّا على سبيل الإصلاح والتجويد والتحسين، لا من باب التشهير والتجريح والإساءة؛ فإنَّ هذا يتعارض مع هذا التعبير اللطيف.
6- الزوجات حرث للأزواج، قال تعالى: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: 223]، فكلمة الحَرْث تجعل الزواج رمزًا للنماء والبركة، لا وسيلة للفقر كما يصوِّره المُفْلِسون، وهو معنًى صرَّح به القرآن، واستخدام القرآن لكلمة الحرث تعبيرًا عن الزواج استخدامٌ بديعٌ غيرُ مسبوق، يجعل الخير المتوقع من الزواج كالخير المنتظر من الأرض التي لا قوام للحياة إلا بما تخرجه من زرع.
7- الزواج ميثاقٌ غليظٌ، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20، 21].
ولم أجد في الإسلام عقدًا سُمِّيَ ميثاقًا ثم وَصَفَتْهُ النصوص بأنه غليظٌ سوى ميثاق الزَّواج، وكان كافيًا أن يصف القرآن عقد الزواج بأنه ميثاق وعهد؛ فالميثاق كلمة فيها من القوَّة والتشابك ما يَحول بينها وبين التفكُّك أو التحلُّل.
- •••
أمَّا مقاصد سور القرآن الكريم بما هي نوع من أنواع التفسير المقاصدي الخاص فهي: “نوع من أنواع التفسير المقاصدي، يبحث في أهداف وغايات السورة الواحدة، مع الكشف عن وجه الإفادة منها؛ لتحقيق مصلحة العباد في العاجل والآجِل”.
فقد يكون لها مقصد أكبر، ثم غايات وأهداف كبيرة تَنتهي إلى هذا المقصد الأكبر، ثمَّ أجزاء وموضوعات داخل السورة لها هي الأخرى أهدافٌ وغاياتٌ تَنتهي أو تصبُّ في أهداف السورة العليا.
وهو نوع يتطلَّب القراءةَ المتأنيةَ للسورة، والتدبرَ العميقَ فيها، ولَمْلَمَةَ أطراف موضوعاتها، والتفحصَ في موضوعاتها جميعًا، والنظرَ في أهداف كل موضوع، ثم التأمُّلَ في النهاية لاستخلاص المقصد الأكبر من السورة، وهو – على أي حال – نوعٌ اجتهاديٌّ تلمُّسيٌّ يأتي عبر مسالك وطرق للوقوف عليها، وتدور أغلبها حول التدبُّر والتأمُّل من خلال توفير المقومات التي سنتحدث عنها في مبحث تالٍ.
وقد برع في هذا النوع من التفسير عدد من العلماء، منهم: محمد عبدالله دراز، وسيد قطب، ومحمد الغزالي.
– فالعلَّامة محمد عبدالله دراز له إشارات مهمَّة في كتابه: “مدخل إلى القرآن الكريم”، وهو أمْيَلُ إلى المقاصد العامَّة للقرآن الكريم؛ حيث رأى أنَّ القرآن يدور حول ثلاثة جوانب: الحق أو العنصر الديني، والخير أو العنصر الأخلاقي، والجمال أو العنصر الأدبي.. أمَّا كتابه “النبأ العظيم” فهو تفسيرٌ موضوعي مقاصدي لسورة البقرة، بل أولُ تفسير موضوعي لسورة كاملة، بَيَّن فيه محاورَ سورة البقرة والغايات التي تَرمي إلى تحقيقها، ولعلَّه أول تجربة في التفسير الموضوعي للسورة والكشف عن غاياتها.
– والأستاذ الشهيد سيد قطب برع براعةً منقطِعة النَّظير في هذا؛ فهو قبل بداية التفسير التفصيلي لآيات السورة يرسمُ لنا لوحةً جماليَّة لها، يبيِّن فيها الهدف الأساس والمقصد الأسمى للسورة، فهذه سورةٌ محورُ الحديث فيها عن وحدانية الله، وتلك تدور حول الوحي، وهذه حول اليوم الآخر، وتلك عن العقيدة، وهذه حول قيَمٍ أخلاقية تريد السورة أن ترسخها في الجماعة المؤمنة، وتلك عن الآداب الاجتماعية… إلخ.
– وأمَّا الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، فقد قدَّم محاولةً طيبةً عن هذا النوع من التفسير، وهو كتابه: “نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم”، قال في مقدِّمته عن التفسير الموضوعي للسورة: إنَّه “يتناول السورة كلَّها، يحاول رسم صورة شمسية لها، تتناول أولها وآخرها، وتتعرَّف على الروابط الخفية التي تشدُّها كلها، وتجعل أولَها تمهيدًا لآخرها، وآخرَها تصديقًا لأولها…، إنَّني أختار من الآيات ما يبرز ملامح السورة، وأترك غيرها للقارئ يضمها إلى السياق المشابه؛ وذلك حتى لا يطول العرض ويتشتَّت”[2].
أمَّا المقاصد التفصيلية لألفاظ القرآن الكريم، فهي مبثوثة في أغلب تفاسير القرآن الكريم مع التفسير الموضعي أو التفصيلي لكلمات القرآن الكريم، يسيرُ المفسِّر مع الألفاظ مبيِّنًا معناها، وكاشفًا عن غايتها والمقصود منها.
—————————————–
[1] أفدت هذا النوع من كتاب أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني: “مقاصد المقاصد”، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، بيروت، 2013م.
[2] نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم (5، 6)؛ محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1420هـ، 2000م.
المصدر: شبكة الألوكة.