أنسنة النص عند الحداثيين
بقلم الشيخ خوالدية عاطف
يعدّ محمد أركون أكثر المفكرين لإثارة الجدل في الساحة الفكرية الإسلامية، ولعل خروجه عن السياق الديني التقليدي هو السبب في ذلك، مما جعل السؤال التالي ملحا: لماذا أركون أكثرهم إثارة للجدل؟ لعل الجواب يكمن في كونه أوّل مفكر يستخدم أحدث المناهج الغربية في دراسة الظاهرة الدينية، وما أحدثته من آثار، ولعله أسلطهم لسانا وأقلهم رحمة بخصوصه، ولهذا كثيرا ما كانت أفكار أركون محل بحث واهتمام ودراسة ولطالما عقدت له الملتقيات والندوات، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على تأثيره البالغ في كل من يقرأ له، وأسلوبه القوي في الإقناع واستعمال العبارات والمصطلحات الحديثة والجذابة، وأود أن أشير إلى بعض المصطلحات التي نحتها أركون أو طوّرها كي تكون عاملا مساعدا على فهم أفكاره ومنها الأنسنة، ويفرق أركون بين الأنسنة والنزعة الإنسانية، فالأولى تركز النظر في الاجتهادات الفكرية لفتح آفاق جديدة لمعنى المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، وهي نوعان: الأنسنة الدينية، وهي التي تربط مصير الإنسان بالتعاليم الإلهية المنزلة والأنسنة الإنسانية، وهي التي تتمركز حول مسؤولية الإنسان بما يقول ويقرر ويعتقد باسم العقل المسؤول المستقل، وبتعبير أركون نفسه: ” فالأنسنة هي نشاط مبدع يعتني بإعادة النظر في جميع ما يتعلق بوجود الإنسان وطرق الفهم والتأويل والتجسيد التاريخي لهذا”.
يهدف أركون من خلال فكره الحداثي التفتح على جميع القراءات إلى الوصول بالعقل العربي والإسلامي إلى الأنسنة المتفتحة المؤمنة بفضائل الإنسان المحترمة لكرامته ومؤهلاته لممارسة حقوقه وواجباته، والتخلي عن ذهنية التحريم والتكفير، ولا يكون ذلك إلا بفصل الدين المحض عن الإيديولوجيات الملتصقة به والتخلص من المركزية التي أنشأها الأسلاف، والتي تصدّر الآن من قبل الأصوليين على أنها الدين نفسه.
النقد: فأركون جعل العقل الإنساني في مرتبة الحاكم وصاحب السلطة في كل ما يتعلق بمعارفه ومساعيه، وهذا الفكر لأركون مستمد من الحضارة الغربية الذي يُعلي من شأن الإنسان ويعجله المؤسس لقيمه، والمنتج للحقيقة، ويعطي له حق قراءة وتأويل الكتاب المقدس بشكل مباشر، فأصبحت علاقة الإنسان بالنص مباشرة، ورفض الإنسان القراءة العلوية بجميع أشكالها، وهذا ما أراد تطبيقه محمد أركون على النص الديني بنوعيه ويحوّل اهتمام الإنسان من الله إلى الإنسان ذاته فيلغي التوحيد والعقائد ويترك مجال للإنسان ليقول كلمته، إن هذا الفكر الذي تبناه أركون فكر يلغي سلطة وقداسة الدين ليحل محلها قداسة الإنسان مباشرة، أما إن وضّف هذا الفكر توضيفاً إسلاميًّا بحت، بحيث وجه التفكير إلى حقيقة الإنسان (خلقه – نشأته – قدرته على الفهم – التفكير) وغيرها من المفاهيم فيكون معول بناء لا معول هدم.
المطلب السادس: مداخل المقاربة الحداثية في تشكيل نظرية المقاصد
فالعقل كمدخل مؤسس للمقاصد أو منتج للمقاصد يقول حسن حنفي: “لا يتعارض العقل والمصلحة نظرا للوحدة المبدئية بين العقل والواقع”.
والعقل هو مدخل لتحديد المصلحة التي يلزم أن تقع موافقة للواقع فالمصلحة هي مخرج متأرجح بين العقل والواقع.
وربط المقاصد بالتطور التاريخي يزيح المقاصد عن مستوى الثبات والإطلاق والتعالي على التاريخ، نحو إدخال فكرة النسبية التاريخية في الوضع المقاصدي، فالمقاصد بناء على هذه المقدمة يلزم أن تكون متحركة متجددة بحسب السياق التاريخي وتحولات الواقع.
والمتتبع للطرح الحداثي حول أصول والمقاصد يلحظ، محورية البحث في المقارنة بين الشافعي والشاطبي حول التأسيس الأصولي.
أولا : نقولات ونماذج لنقد الخطاب الحداثي لتأسيس الشافعي في أصول الفقه :
وصم الشافعي بأنه مكرس “للإيديولوجية العربية”، وأنه رفض الاستحسان واعتبر بأنه يناضل للقضاء على التعددية الفكرية والفقهية، وهو نضال لا يخلو عن مغزى اجتماعي فكري سياسي واضح.
وأصل الشافعي بذلك لهيمنة الدين والعقيدة على كل مجالات الحياة.
لأنه بمنهجه الأصولي كان محكوما بهاجس توسيع مجال النصوص لتضييق مجال الاجتهاد العقلي، وهذا ما أدى إلى إغلاق باب العقل والرأي والاجتهاد بذرائع شرعية ومقولات إسلامية، وبهذا يكون العقل الإسلامي فيما يتعلق بالفقه والتشريع قد خرب تماما، وأغلق بصورة شبه نهائية، فشروط الشافعي أغلقت باب الاجتهاد فعليا منذ عهده
وبذلك جعل النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي المسلم، وواضح أن عقلا في مثل هذه الحالة لا يمكن أن ينتج إلا من خلال إنتاج آخر.
ثانيا: نماذج لإتكاء الخطاب الحداثي على نظرية الشاطبي:
يتوسل الخطاب الحداثي بمدخل أطروحة الشاطبي على مستويين.
- المستوى البنيوي: في قراءة الخطاب الحداثي للتراث الأصولي والفقهي، يعد المركز في حركة الأحكام بين الشافعي والشاطبي متباينا مفترقا.
فالشافعي في نظر الحداثيين أسس لجعل المركز هو النص والقطب والمعول عليه، بخلاف الشاطبي الذي حرر الحكم الشرعي فجعل المقاصد والمصالح هي مركز حركية الأحكام، فالشافعي في نظرهم ألغى الإجتهاد والعقل وأبقى على النص أما الشاطبي فتحرر من قيود النص إلى المصلحة والمقصد.
- المستوى التاريخي: يحرص الخطاب الحداثي على إحداث قطيعة أو تقرير وجود قطيعة بين خطاب الشاطبي والأصوليين قبله، خاصة الشافعي في تأسيسه لأصول الفقه.
والجابري يقر بوجود وقدم الفكرة المقاصدية في التاريخ الأصولي والفقهي منذ بدايات التشريع الإسلامي، لكنه يفرق بين المنهجين من جهة بيان المركز والمساعد في كلا الطريقتين، ففي طريقة الشافعي وعامة الأصوليين، يرى الجابري أن المركز هو اللفظ والقياس عليه، والمقصد والمصلحة عنصر إضافي مساعد متأخر في الرتبة والاحتجاج، بخلاف طريقة الشاطبي بحسب ما يتصوره الجابري أنها تجعل المركزية للمقاصد والمصلحة والباقي النص والقياس عناصر مساعدة.
الرد: جميع الحداثيين لا يفرقون بين الأصول والمقاصد فهم يريدون هدم الشريعة ونسف قواعدها من خلال علم المقاصد إن استطاعوا، ولن يستطيعوا هدم الشريعة لأن الله تولى حفظها، فليأتوا بحديث غيره ولينتقدوا الشريعة من خلال علم آخر فهم يوظفون المقاصد من أجل هدم المقاصد وأصول الفقه.
ويصفون عمل الشافعي بأنه بشري اجتهادي، نعم هو كذلك اجتهادي لكنه أصبح بمثابة الحصن للشريعة ولاقى قبولاً عند الأمة الإسلامية عبر العصور بداية من القرن الثاني إلى يومنا هذا، ولم نسمع عن أحد من العلماء أنكر علم أصول الفقه ولن يستطيع أحد على مرّ العصور أن يلغي علم أصول الفقه ويأتي له ببديل.
فنقول للحداثيين لن تنجحوا في نسف الشريعة، نعم ستجدون قلة يتأثرون بكم ليس كل الوقت بل بعض الوقت، وستعود أنوار الشريعة وأسرار الفهم تحيط بعقول العلماء والأمة لتنير لهم أحكام ربهم وسنة نبيهم ليعيشوا مع قوله تعالى: ﴿ﭐ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﴾.
ثالثا: نماذج في تحويل مفهوم الشريعة في الخطاب الحداثي:
يقرر محمد سعيد عشماوي أن الدين والشريعة إنما يعنيان بالإنسان لا بالنظم ويحتفيان بالضمير أكثر من اهتمامها بالقواعد القانونية، ثم يقول في موضع: “إن ما تفردت به الشريعة حقيقة ليس الأحكام التي نصت عليها ولا القواعد التي استخلصت من هذه الأحكام، وإنما المنهج الحركي القادر على التجديد الدائم والملائمة المستمرة”.
ويركز الخطاب الحداثي على جعل الشريعة ليست أحكاما تطبق، بل هي منهج فضفاض يتلائم مع كل من أراد أن يوسع أو يضيف فيه.
وكأن الشريعة هي البقرة الحلوب التي لا تفرق بين صاحبها وحالبها وسارقها، والشريعة عندهم لا دخل لها في المعاملات ولا العبادات بل هي طقوس روح دون جسد.
فمثلا في جانب المعاملات نظام الربا في الإسلام ما زال مصونا له قواعده وآلياته، لكن عند الحداثيين فقد تغير الحال ولم يعد الأمر كما كان إستغلالا لحاجة المدين يؤدي إلى إعساره وإفلاسه، ولم يعد ثمة نظام ربا وإنما نظام لحساب الفوائد على الديون.
وبالنسبة لتطبيق الحدود كذلك يلغونها ويجعلون الشريعة قاسية على المسلم، ويقولون بأن الشروط التي وضعها الفقهاء لإدانة السارق أو الزاني وإقامة الحد يصعب أن تحقق، وكما أن تطبيق حد الرجم يبدو أنه من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم في نظرهم.
وكذلك هذه العقوبات لا تتفق مع روح الإسلام وسماحة الشريعة، لأنها تعطي صورة ظلامية أمام الرأي العالمي.
وفي جانب الاجتهاد يحرص الخطاب الحداثي على تحرير عقل المجتهد من القيود والأسيجة التراثية، فيتجه إلى تفكيك وإعادة تركيب المقدمات التي يتشكل فيه العقل الاجتهادي ومن تلك المقدمات: أصول الاستدلال، وقيود اللغة، وحدود النص وضوابط التأويل وفهم السلف وإجماع المتقدمين، وسياجات المسلمات والقطعيات.
لذلك يطالب الجابري بأن يكون محل تجديد الاجتهاد هو: إعادة تأصيل الأصول انطلاقا من مقدمات جديدة ومقاصد معاصرة وليس مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل لابد من بناء منهجية جديدة للتفكير في الشريعة عبر إعادة تأهيل عقل المجتهد.
ويقدم الجابري مفهوم الاجتهاد بأنه: “منهج قبل كل شيء يرتكز على بذل المجتهد الجهد الفكري، والاجتهاد ليس الأدلة والنصوص فقط، فهو يعمل على ربط فكرة الاجتهاد بمشاكل العصر ومتغيرات الواقع، فيعتبر الواقع مكونا لعملية الاجتهاد وهو ما يصفه أو يصطلح عليه (بالاجتهاد المواكب).
إذن فالجابري يحصر الاجتهاد ويقزمه في مستواه اللغوي من بذل الجهد، ويلغي شروط الاجتهاد التي قررها علماء الأصول في مبحث ضوابط الاجتهاد وشروط المجتهد.
النقد: وبهذا التصور لمقاصد الشريعة فإن النص يصبح تابعاً لا متبوعاً والمصلحة متبوعة لا تابعة فتنخرم أصول الشريعة وتتميع، ويصبح باب الاجتهاد مفتوحا على مصرعيه ليتكلم في الشريعة كل من هب ودب فيقدم ما حقه التأخير ويؤخر ما حقه التقديم، ويصبح المسلم الذي لا علم له بالشريعة في حيرة فيختلط عليه الأصل بالفرع والحلال بالحرام وهذا هو هدف الحداثيين.
خاتمة
إن التوسع في أعمال المقاصد دون مراعاة للضوابط المنهجية والمرتكزات الشرعية يؤدي بلا شك إلى منزلقات خطيرة في فهم ثوابت الشريعة من متغيراتها، وإلى التحلل والتحايل على أحكام الشريعة وتعطيل نصوصها ومحاصرتها باسم المصالح والمقاصد، مما ينجم عن ذلك اختلاط بين مفهوم المصالح والمفاسد ومفهوم الضروريات والحاجيات والتحسنيات.
والفكر الحداثي يتيح لكل إنسان أن يجتهد في الشريعة دون قيود وضوابط وشروط وضعها علماء الشريعة، وهذا الفهم التفكيكي للمصالح، يقصد به أصالة نسق قواعد الشريعة والتشكيك في الثوابت والمقدسات، بهدف التحرر من سلطة النص قطعي الدلالة والثبوت، فتعطل الأحكام تارة بإسم المصالح وتارة باسم الضرورة، وتارة باسم تغير الواقع.
فيبدأ الاجتهاد من خارج النص، وإذا كان النص هو رأس مال الشريعة وسندها، يصبح هو مادة للتقويم والتحليل.
هذا لا يعني عدم إعمال المقاصد والتهيب من توظيفها، بل لابد من تفعيل القواعد الخاصة بالمقاصد وغربلة كل ما هو غريب ودخيل عن المقاصد، وبهذا نجنب الأمة فوضى عجز الداخل عن فهم النصوص وتطبيقها، وكيد الخارج من إثارة فوضى فكرية والتحلل من الشريعة ونزع القداسة عن النص.
إن استنجاد الحداثيين بعلم المقاصد لم يكن عن اقتناع بأهميتها وقيمتها في فهم النصوص ووضعها موضعها الصحيح، ولم يكن بدافع خدمة النص الشرعي وتجديد فهمه ومواكبته لمراحل الحياة، ولا لترشيد العقل المسلم وتصحيح مساره، بل كان أساسا لاتخاذها مطية وسبيلا لضرب علم الأصول والتقليل من شأنه وأهميته وقوته، حتى يصبح طريق (التعامل مع النص الشرعي) مسلكا سهلا ومعبدا دون قيود وضوابط حتى يتمكن من شاء قول ما شاء دون اعتراض أو رقابة من أحد حتى تقع الأمة في فوضى يختلط فيها الحابل بالنابل، ويلتبس فيها الجهل بالعلم، وتسقط قداسة النص وهيبة العلماء وروح الشريعة، فيكون ذلك مدعاة لتجاوز الكل وإلغائه بدعوى ما يسمى عندهم (إحداث قطيعة إبستمولوجية مع التراث).
([1]) محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ص (19).
([2]) حسن حنفي، مرجع سابق، (ص 488-492)
([3]) وائل بن سلطان الحارثي، مرجع سابق، ص (853).
([4]) المرجع نفسه، ص (854).
([5]) الجابري، وجهة نظر، ص (57).
([6]) سورة البقرة، الآية (284).
([7]) محمد سعيد عشماوي: ولد في مصر سنة 1932، كاتب ومفكر مصري وقانوني، تولى منصب رئيس لمحكمة استئناف القاهرة، ألّف أكثر من ثلاثين كتاباً منها:” الإسلام السياسي” و”أصول الشريعة – الخلافة الإسلامية” و “العقل في الإسلام” و “من وحي القلم”، توفي في نوفمبر 2013.
([8]) العشماوي، أصول الشريعة، ص (108-109).
([9]) المرجع السابق، ص (119-123).
([10]) الجابري، وجهة نظر، ص (52).
([11]) المرجع نفسه، ص (52).
([12]) المرجع نفسه، ص (53).
([13]) قطيعة إبستمولوجية: مشتقة من نظرية المعرفة أول من استعمل هذا المصطلح هو الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرير سنة 1854م، ومعنى هذا المصطلح المعرفة وقد صيغت هذه النظرية على غرار الانطولوجيا (علم الوجود)، معجم المعاني الجامع، المعجم الوسيط، اللغة العربية المعاصر.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين