أمّنْ يجيب المضطرَّ إذا دعاه
بقلم د. أبو نوفل حسن يشو
انطلاقا من قوله تعالى:
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
بقلم: د. حسن يشو –لطف الله به-
تمهيد:
لبست ثوب الرجاء والناس قد رقدوا *** وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عُدتي فـي كـل نائبـة *** ومن عليه لكشف الضـر أعتمـد
أشكو إليك أمـورًا أنـت تعلمهـا *** مالي على حملها صبرٌ ولا جلـدُ
وقد مددت يـدي بالـذل مبتهـلًا *** إليك يا خير من مُـدتْ إليـه يـد
فـلا تردَّنَّهـا يـا رب خائـبـةً *** فبحر جودك يروي كل مـا يـردُ
إن الإنسانية في الآونة الأخيرة ابتليت بداء عضال، وسم زعاف، ووباء قاتل، وجائحة فتّاكة، اسمها (الكورونا كوفيد 19) أوقفت حركة الإنسان في الشوارع والأسواق والمؤسسات، وبات الناس في حجر منزلي يترقبون أخبار الوفيات وارتفاع عدد المصابين أو المعافين، وينتظرون حالة الذروة، ويفاجؤون الفينة تلو الأخرى ببؤر العدوى تتصاعد، وفي أسرة كبيرة وكاملة، وتصلهم أخبار عن إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وأمريكا وغيرها من الدول المتقدمة التي فعل بها الفيروس فعلة شنيعة أسفر عن اغتيار جماعي وإبادة لضعفاء المناعة والمسنين والمرضى المزمنين، ولكن أصبح يحصد أرواحا بلا عدٍّ ولا حساب، حيث اقتحم على الأطباء في مصحاتهم والممرضين والطواقم الطبية، وزار الأسر الحاكمة والوزراء والرؤساء، فما فتئ المراقبون والمترقبون في الحجر المنزلي إلا أن يحولقوا لمن رضي بقدر الله خيرهوشره، ويولولوا لمن جزع وكان ضعيف الإيمان، والحالة هذه تتفاقم، تبين أن الإنسانية تعيش حالة الاضطرار، التي أطرها النص القرآني أعلاه بالتضرع إلى الله سبحانه؛ فهو الذي تكفل بالإجابة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الصورة بإجمال:
إن الله تبارك وتعالى ملاذ الخلق أجمعين، في الرخاء والشدة، وقد يسهو هذا العبد الضعيف أيام التقلب في روضات نعمه المسبغة علينا ظاهرة وباطنة، ولكنه إذا اشتد عليه الأمر؛ وفشلت الحلول البشرية، وضاقت الوسائل المتاحة المسخرة في نطاق الأسباب والمسببات؛ هنا تنطق الفطرة السليمة مستغيثة بالخالق البارئ المصور؛ حيث أذكر ان ملحدًا كان يجحد وجود الله؛ ولما ألمت به أزمة وهو في جوف الليل، ولا مغيث؛ أخذ يرتجف فؤاده، واعترته قشعريرة، والمكان مخيف، حتى انفجرت فطرته ناطقة بالحق: “يا الله فرج عني ما أنا فيه”، وكذلك قصة الشاب الذي تابع دراسته في الاتحاد السوفييتي سابقا أيام الثورة البلشفية والنظام الشيوعي الحاكم، ورجع ملحدًا إلى بلده، وزعم أن الله غير موجود، وضحكوا عليه بأنه مسلم رغم أنفه، فاضطر أن يقول –من غير شعور-: “والله العظيم الذي لا إله إلا هو إني ملحد”.
فالله يصور لنا هذا الإنسان الفقير إليه، وهو في حالة شدة واضطرار، وحالة سوء؛ فيجيبه سبحانه ويخلصه من أزمته، ويفرج كربته، ويكشف ما به من ضر، بل ويجعل الإنسان خليفة في الأرض يخلف بعضهم بعضا، منكرًا على من يعيش هذه النكبات؛ ومع ذلك يزعم أن في رحاب هذا الكون غير الله أو الطبيعة نفسها، أو بطريق الصدفة والطفرة، أو الإنكار الكلي كالدهرية والملاحدة واللادينيةوالعلمانية الكلية؛ وما أقل من يتذكر والله المستعان!
بكلمة:
إن دعوة المضطر في ضوء الآية مجابة على كل حال؛ لقوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62]، جاء ذلك في سياق البرهان على ربوبية الله تعالى وألوهيته، بأسلوب الاستفهام التقريري (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) المختوم بالاستفهام الإنكاري: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)، والآية كما لا يخفى ها هنا عامة في إجابة دعاء المضطر برًّا كان أم فاجرًا، مؤمنًا كان أم كافرًا، إذا هو لجأ إلى الله تعالى حال اضطراره فإن الله تعالى جرت عادته أن يجبه؛ لأن سبحانه وتعالى علق إجابة الدعاء كما هو ملحوظ في منطوق النص بالاضطرار فقط، فتأمل.
الاضطرار مجلبة الإخلاص والإخلاص سر الإجابة:
ذهب بعض المفسرين ولعل منهم العلامة ابن عاشور إلى أن الكافر لا تقبل دعوته؛ لقوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [الرعد: 14]. وإذا كان دعاؤهم في ضلال أي لم يعرف طريقه للإجابة!
والحق أن هذا لمن دعوا غير الله أو دعوا الله وأشركوا معه؛ فلا يستجاب لهم، فالذي في ضلال ولا يستجاب دعاؤهم أصنامهم، وليس دعاءهم الله تعالى، وهذه الآية هي مثل قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ) [فاطر: 13- 14].
علاوة على أن معنى نفي الإجابة مرتبط بيوم القيامة؛ لأن العمل -ومنه الدعاء- قد انقطع، فلا ينفعهم دعاؤهم آنذاك، ومنه قول الله تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر: 49- 50].
قال القرطبي رحمه الله تعالى: “ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر”.
والظاهر أن المضطر حتى لو لم يكن مؤمنًا فإن دعا الله مخلصًا غير مشرك به أحدًا فإن الله يجيب الدعاء؛ وهو واسع الرحمة قال ناعتًا وصف المشركين حالة الاضطرار: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[يونس: 22]، قال الطبري رحمه الله تعالى: “أخلصوا لله -عند الشدّة التي نزلت بهم- التوحيد، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ولكن بالله الذي خلقهم”.
أهمية الدعاء عند الاضطرار:
إن الدعاء عند حالة الاضطرار والحاجة مستجاب طبقا للآية الكريمة؛ وأن الله ينظر بعين الرحمة إلى المضطرين المكروبين؛ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم رسالته في كشف الضر لمن دعا الله؛ وفق الآتي:
1- دل النص القرآني في قوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ)، والسنة النبوية على إجابة دعاء المضطر؛ كما في حديث أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْهُجَيْمٍ، قَالَ: قُلْتُ “يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَامَ تَدْعُو؟ قَالَ أَدْعُو إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ…”.
2- المضطر يدعو بنفسه؛ ويحقق الله رجاءه؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ الْمَكِّيِّ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ طَاوُسٌ يَعُودُنِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ادْعُ اللهَ لِي. فَقَالَ: “ادْعُ لِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّهُ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ”.
3- فضلا عن إجابة دعوة المضطر؛ فإن الله ينظر إليه والحالة هذه حالة الاضطرار والإخلاص بالدعاء نظر رأفة وشفقة ورحمة؛ وصار الاضطرار مجالا لاستمطار رحمة الله، واستدرار عفوه وكرمه، ورأفته.
4- قال شيخ الإسلام: “من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدا سواه، فتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب أو الضر، وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عنه مقال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه”.
5- إن الكرب والاضطرار يعقبه النصر في أغلب الأعم كما جرت سنة الله التي لا تحابي أحدًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: “واعلمْ أن َّالنَّصرَ مع الصبرِ وأنَّ الفرَجَ مع الكَربِ وأنَّ مع العُسرِ يسرًا واعلمْ أنَّ القلمَ قد جرَى بما هو كائنٌ”.
البعد المقاصدي في النص:
وجدت باستقراء كتب التفسير أن العلامة ابن عاشور رحمه كان سباقا في الالتفات إلى البعد المقاصدي في النص القرآني؛ بحيث جعله ينساب على أنواع المقاصد الثلاثة من حيث قوتها:
أولا: المقاصد الضرورية:
وجعل الجزء الأول من الآية: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) يتعلق بقسم الضروريات، وسماها حال الاضطرار إلى تحصيل الخير، أو حالة الاحتياج.
فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوه من المعاوضات، وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها. والاضطرار افتعال من الضرورة لا من الضر. وتقديره أنه نالته الضرورة فطاوعها. وليس له فعل مجرد وإنما يقال اضطره كذا إلى كذا. واللام في (المضطر) لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني، أي يجيب فردًا معهودًا في الذهن بحالة الاضطرار. والإجابة إعطاء الأمر المسؤول. والمعنى أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضاً ويؤخر بعضًا.
ثانيا: المقاصد الحاجية:
وجعل الجزء الثاني من الآية نفسها: (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) يتعلق بقسم الحاجيات، وسماها حال انتياب السوء، أو حالة البؤس.
وحالة البؤس هي المشار إليها بقوله (ويكشف السوء). والكشف أصله رفع الغشاء، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس. وَرُمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء. وهو أيضًامستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء. والمعنى من يزيل السوء. وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض. والمعنى إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضًا فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه. وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة. والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيهمعارضه من أصول أخرى، والله أعلم بذلك.
ثالثا: المقاصد التحسينية:
وهي في الجزء الثالث من النص نفسه: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) وسماها حالة الانتفاع، أو حال التصرف في الأرض ومنافعها.
وحالة الانتفاع هي المشار إليها بقوله (ويجعلكم خلفاء الأرض) أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير مالكين لها، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها. وأفاد خلفاء بطريق الالتزام معنى الوراثة لمن سبق، فكل حي هو خلف عن سلفه. والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلًا بعد جيل. وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61.] وهذه مرتبة التحسيني.
دلالات (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ):
ترى ما المراد بالمضطر هنا؟ وما نظائره في حياتنا؟
إن المضطر هنا –حسب كتب التفسير عامة- هو المكروب المجهود، ذو الضرورة المتعبة، والحاجة المنهكة؛ وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى، وهو:
– الذي لا حول له ولا قوة.
– الذي قطع العلائق عما دون الله.
– المفلس!
– المذنب إذا استغفر.
– الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها!
– كل ذي حاجة أو فاقة!
– كل من ضاقت به الأرض بما رحبت.
وهل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟!
لذا لزم اللوذ به، والافتقار إليه، واللجأ إلى مناجاته، والاحتماء بكنفه الذي لا يضام، والفرار إليه، واللهج بذكره، والإلحاح بدعائه موقنين الإجابة؛ لأن عادة الله جرت أن يخلص المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء عنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه!
ما السر في إجابة دعوة المضطر؟
بمعنى آخر: ما المقصد العميق والتعليل الدقيق لإجابة دعوة المضطر خصوصا في الأمثلة التي وردت في بعض الأحاديث مثل:
1- دعوة المظلوم فهو مضطر.
2- دعوة المسافر فهو مضطر.
3- دعوة الوالد على ولده؛ لاضطراره!
وقد جاءت الأحاديث بالإخبار عن ذلك منها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثُ دعَواتٍ مُستجاباتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المُسافِرِ، ودعوةُ الوالِدِ لولَدِه”.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: “واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ”.
3- وقوله صلى الله عليه وسلم: “اتَّقوا دعوةَ المظلومِ فإنَّها تُحملُ على الغمامِ يقولُ اللهُ: وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّك ولو بعد حينٍ”.
4- وخرج الآجري من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلمقوله: “فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر”.
وقد علق القرطبي في تفسيره أن الله يجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا في دينه؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته.
وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل: (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأنعام: 129]، وأكد سرعة إجابتها بقوله صلى الله عليه وسلم: “تحمل على الغمام”. ومعناه – والله أعلم – أن الله عز وجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء؛ ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له. وفي هذا تحذير من الظلم جملة؛ لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره؛ حيث قال على لسان نبيه: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا “. فالمظلوم مضطر!
ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته. فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه.
وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه وصدق ضرورته؛ وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته.
الله الملجأ عند الاضطرار والشدائد:
ينبهنا الله تعالى ها هنا أنه هو المدعو عند الشدائد، والملجأ عند الاضطرار، والمرجو عند النوازل، كما ذكر ذلك في أكثر من موضع؛ منها:
1- قال: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا) [الإسراء: 67]، وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله؛ وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها البتة في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل؛ فلما نجاكم إلى البر أعرضتم أي عن الإخلاص، وهذا الأمر الشنيع من الناس، ولكن الله يجيب المضطر إذا دعاه مخلصا حين تنطق جبلته وفطرته السليمة. وأما من خذل ووكل إلى عقله الضعيف؛ فإنه لم يلحظ وقت الشدة إلا مصلحته الحاضرة وإنجاءه في تلك الحال. فلما حصلت له النجاة وزالت عنه المشقة ظن بجهله أنه قد أعجز الله ولم يخطر بقلبه شيء من العواقب الدنيوية فضلا عن أمور الآخرة.
2- وقال تعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل: 53]. ذلك لأن الله هو المنفرد بالعطاء والإحسان (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) ظاهرة وباطنة (فَمِنَ اللَّهِ) لا أحد يشركه فيها، (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) من فقر ومرض وشدة (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) أي: تضجون بالدعاء والتضرع لعلمكم أنه لا يدفع الضر والشدة إلا هو، فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده. ولكن كثيرا من الناس يظلمون أنفسهم، ويجحدون نعمة الله عليهم إذا نجاهم من الشدة فصاروا في حال الرخاء أشركوا به بعض مخلوقاته الفقيرة.
وهكذا قال هاهنا: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62]. أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه. وهو تماما ما نتدارسه في هذا البحث.
ما سر اللام هل للجنس أم الاستغراق؟
واللام فيه على ما قيل: للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب.
وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء) [الأنعام: 41].
دلالات (وَيَكْشِفُ السُّوءَ):
والسوء هنا: البلاء والضر والشر والجور، والنقمة. ولا يكشفها جميعها إلا الله وحده؟
فهو كالتفسير للاستجابة؛ فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى، ومرض إلى صحة، وضيق إلى سعة، إلا القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا ينازع؛ وهو الله سبحانه القوي المتين.
يا خالق الخلق يا رب العباد ومن *** قد قال في محكم التنزيل:ادعوني
إنّي دعوتك مُضطرًّا فخُذ بيدي *** يا جاعل الأمر بين الكاف والنون
نجَّيتَ أيوب من بلواه حين دعا *** بصبر أيوب يا ذا اللطف نجّيني
واطلق سراحي وامنُن بالخلاص كما *** نجَّيتَ من ظلمات البحر ذا النون
دلالات (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ):
و(خُلَفَاءَ): وهم سكان المعمورة يهلك قرنا وينشئ آخر، ويأتي بخلفلسلف؛ وذكرت المعاني الآتية:
– يجعل أولادكم خلفاءكم.
– جعلكم خلفاء الجن في الأرض. أمة بعد أمة، وجيلا بعد جيل، وقوما بعد قوم.
– ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها، ويمد لكم بالرزق،ويوصل إليكم نعمه، وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم،ويأتي بقوم بعدكم أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟
– لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته.
– ويستخلف بعد أمرائكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم.
– خلفا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم.
ويقول تعالى بعدها: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ) [النمل: 62] أي: يخلفُ بعضكم بعضًا فيها، كما قال: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [النور: 55].
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام: 133].
وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجا) [الأنعام: 165]، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30].
هل يقال للإنسان خليفة الله في الأرض؟
هذه من اللطائف ذات الصلة بهذا البحث؛ مع العلم أن الإنسان خليفة وقد ذكر الله ذلك في البقرة فقال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]. بمعنى بعضه يخلف بعضًا وهذا محل اتفاق؟
لكن المسكوت عنه هل يجوز أن يقال: خليفة الله؟
وهذا يدعو لبيان أن الخلافة تكون للأسباب الآتية:
1- لموت الإنسان فيخلفه من يستحق مكانه كخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- لغياب الإنسان؛ فيخلفه من ينوب عنه ويسد مسده في سفره وغيابه!
3- لعجز الإنسان ومرضه؛ فيخلفه نيابة عنه.
وهذه الأسباب لا تنطبق على الله جل جلاله، فلا يقال إن الإنسان خلف الله؛ لأنه سبحانه حي لا يموت، حاضر لا يغيب، قوي متين لا يعجز!
وقد أورد الراغب الأصفهاني سببا آخر هو التكريم؛ فقال: “والخلافة النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف؛ وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض”.
فيكون الإنسان خليفة الله في الأرض؛ لتشريف المستخلف وهو الإنسان!
لماذا جعلنا الله خلفاء؟
ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد، ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين، كما خلق آدم من تراب. ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض، ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد، فكانت تضيق عليهم الأرض وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم، ويتضرر بعضهم ببعض. ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة، ثم يكثرهم غاية الكثرة، ويذرأهم في الأرض، ويجعلهم قرونا بعد قرون، وأمما بعد أمم، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية، كما قدر ذلك تبارك وتعالى، وكما أحصاهم وعدهم عدا، ثم يقيم القيامة، ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله.
(أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) يقول سبحانه: أإله مع الله سواه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟
إن في الآية تقرير لوحدانية الله سبحانه، وأنه لا يوجد معه أحد يشاركه في الملك والحكم!
وإن أعظم جرم تقترفه البشرية هو الإشراك بالله تعالى؛ لذا قال: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
دلالات (قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)
وكانت هذه الآية عقب السؤال المطروح قبل النص: “أمن يجيب.. ويكشف” و”أإله مع الله”. والجواب: يقدر على ذلك، أو إله مع الله يعبد، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك؛ لذلك قال: (قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)
أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم. ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
تَذَكُّرًا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
ما سر القراءتين: (تذكرون .. ويتذكرون)؟
قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالياء والآخرون بالتاء؛ كقوله: (بل أكثرهم لا يعلمون) وتعالى الله عما يشركون فأخبر فيما قبلها وبعدها؛واختاره أبو حاتم.
أي هؤلاء المذكورين بنعوتهم وأوصافهم، قليلا ما يتذكرون ويأخذون العبرة، والقراءة المشهور أن الخطاب والعتاب موجه مباشرة إلينا نحن القراء حتى لا يكون القرآن نسخة تحكي عن آخرين منفصلة عنا؛ فهذا الالتفات لدى البلاغيين غاية في الأهمية في الانتقال من الغيب إلى خطاب الحاضر.
قال ابن عاشور: “ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم؛لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم”.
إن مسَّكَ ضرٌّ فدعوتَهُ كشفَ عنكَ:
وروي أن رجلًا من بلجهم قال: يا رسولَ اللَّهِ إلامَ تدعو؟ قالَ: “أدعو إلى اللَّهِ وحدَهُ الَّذي إن مسَّكَ ضرٌّ فدعوتَهُ كشفَ عنكَ، والَّذي إن ضللتَ بأرضٍ قفرٍ دعوتَهُ ردَّ عليكَ، والَّذي إن أصابتْكَ سَنةٌ فدعوتَهُ أنبتَ عليكَ”. قالَ: قلتُ: فأوصِني. قالَ: لا تسبَّنَّ أحدًا، ولا تزهدنَّ في المعروفِ، ولو أن تلقى أخاكَ وأنتَ منبسِطٌ إليهِ وجهكَ، ولو أن تُفرِغَ من دلوِكَ في إناءِ المستسقي..”.
يجب أن يدعو المضطر بنفسه:
عن عبيد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاوس يعودني، فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر؛ قال: إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قال الشاعر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ** عليّ فما ينفك أن يتفرجا
ورب أخ سدت عليه وجوهه ** أصاب لها لما دعا الله مخرجا
لماذا ضمن الله إجابة المضطر؟
ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأ ينشأ عن الإخلاص وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس: 22].
وقوله سبحانه: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65]، فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه.
أفضلُ الدعاء ما هيّجَه الاضطرار:
وقد تمثلها نبي الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حين اشتد عليه أمر المعركة؛ رفع يديه صلى الله عليه وسلم داعيا حتى سقط الرداء عن كتفيه ورؤي بياض إبطيه، وهو يلهج: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض”.
قال الإمام القشيري في رسالته: “خيرُ الدعاء ما هيَّجَته الأحزان”.
وهذا ابن القيم من عمق التجربة الروحانية يقرر: “من كمال إحسان الرَّب تعالى أن يُذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر، ويُعَرِّفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بِضِدِّها”.
قال مُورّق العجلي رحمه الله: “ما وجدتُ للمؤمن مثلًا إلاَّ رجلًا في البحر على خشبة، فهو يدعو يا ربِّ يا ربِّ، لعل الله عزَّ وجلَّ أن ينجيَه”.
ووفاقا لما أسلفت فإن المضطر يخلص في الدعاء، والله يستجيب للمخلصين!
جاء في الحكم العطائية: “ما طلب لك شيءٌ مثل الاضطرار، ولا أسرعَ بالمواهب مثل الذلة والافتقار”.
لذا قال الشاعر:
أدب العبيد تذلل ** والعبد لا يدع الأدب
فإذا تكامل ذله ** نال المودة واقترب
وقال آخر:
وما رمت الدخول عليه حتى ** حللت محلة العبد الذليل
وأغضيت الجفون على قذاها ** وصنت النفس عن قال وقيل
إن الوسائل كلها ليس فيها شيء أعظم نفعا من وجود الاضطرار: وهو تأكد الاحتياج واشتداده. والمواهب التي لا علة لها. والذلة التبؤسوالمسكنة والافتقار والفاقة إليه.
وإنما كان الأمر على ما ذكر لثلاثة أوجه:
أحدها: أن ذلك موقوف لك عند حدك، ورجوع منك إلى شكلك الذي لا يتعداه وجودك أبدًا وبه كمالك.
الثاني: أنه بساط الأدب من غير وقوف على وجه أو سبب؛ ولذلك قيل: إذا أردت أن تسأل حاجة من الله، فقدم إساءتك، وقل: يا رب، بلا شيء.
الثالث: أن في ذلك وجود الإعراض عن الكل وترك الكل له، اكتفاء به وتحقيقا يقول: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]. الذي أخبر الله عن قوم أنهم قالوا ذلك (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ( [آل عمران: 174] فافهم.
من أدعية المضطر:
• عن أبي بكرة نفيع بن الحارث قال: إنِّي أسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَداةٍ: اللَّهمَّ عافِني في بَدَنِي، اللَّهمَّ عافِنِي في سَمْعي، اللَّهمَّ عافِنِي في بَصَري، لا إلهَ إلَّا أنتَ، تُعِيدُها ثَلاثًا حينَ تُصْبِحُ، وَثَلاثًا حينَ تُمْسي، وَتَقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الكُفرِ وَالفَقرِ، اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عَذابِ القَبرِ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، تُعيدُها حين تُصْبِحُ ثَلاثًا، وَثَلاثًا حين تُمْسي. قالَ: نَعَمْ يا بُنَيَّ، إنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدْعو بِهِنَّ، فأُحِبُّ أنْ أستَنَّ بِسُنَّتِهِ. قالَ: وقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: دَعَواتُ المَكروبِ: “اللَّهمَّ رَحمَتَكَ أرْجو، فلا تَكِلْني إلى نَفْسي طَرْفةَ عَيْنٍ، أصْلِحْ لي شَأْني كُلَّهُ، لا إلهَ إلَّا أنتَ”.
• عن حذيفة بن اليمان قال: “جاء جِبريلُ إلى النَّبيِّ فقال يا مُحمَّدُ ما بُعِثْتُ إلى نَبيٍّ قطُّ أحَبَّ إليَّ منكَ ألَا أُعلِّمُكَ أسماءً مِن أسماءِ اللهِ هنَّ مِن أحبِّ أسمائِه إليه أنْ يُدْعى بهنَّ قُلْ يا نورَ السَّمواتِ والأرضِ يا زَيْنَ السَّمواتِ والأرضِ يا جبَّارَ السَّمواتِ والأرضِ يا عِمادَ السَّمواتِ والأرضِ يا بديعَ السَّمواتِ والأرضِ يا تاجَ السَّمواتِ والأرضِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ يا صريخَ المُستصرِخِينَ ويا غِياثَ المُستغيثينَ ومُنتهى العابدينَ المُفرِّجَ عنِ المَكروبينَ المُروِّحَ عنِ المَغمومينَ ومُجيبَ دعاءِ المُضطرِّينَ وكاشفَ الكربِ ويا إلهَ العالَمينَ ويا أرحَمَ الرَّاحمينَ تزولُ بكَ كلُّ حاجةٍ.
• عن أنس بن مالك قال: “كانَ رجلٌ من أصحابه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منَ الأنصارِ يُكْنى (أبا معلَّقٍ)، وَكانَ تاجرًا، يتَّجرُ بمالٍ لَهُ ولغيرِهِ، يُضرَبُ بِهِ في الآفاقِ، وَكانَ ناسِكًا ورعًا، فخرجَ مرَّةً، فلقيَهُ لصٌّ مقنَّعٌ في السِّلاحِ، فقالَ لَهُ: ضع ما معَكَ فإنِّي قاتلُكَ قالَ: ما تريدُ إلى دمي؟ شأنَكَ بالمالِ قالَ: أمَّا المالُ فلي، ولستُ أريدُ إلَّا دمَكَ قالَ: أمَّا إذا أبيتَ، فذرني أصلِّي أربعَ رَكَعاتٍ قالَ: صلِّ ما بدا لَكَ فتوضَّأَ، ثمَّ صلَّى أربعَ رَكَعاتٍ، فَكانَ من دعائِهِ في آخرِ سجدةٍ أن قالَ: يا ودودُ، يا ذا العرشِ المجيدِ، يا فعَّالُ لما تريدُ، أسألُكَ بعزِّكَ الَّذي لا يرامُ، ومُلْكِكَ الَّذي لا يضامُ، وبنورِكَ الَّذي ملأَ أركانَ عرشِكَ، أن تَكْفيَني شرَّ هذا اللِّصِّ، يا مغيثُ أغثني ثلاثَ مرَّاتٍ فإذا هو بفارسٍ قد أقبلَ بيدِهِ حربةٍ واضعُها بينَ أذَنَيْ فرسِهِ، فلمَّا بَصرَ بِهِ اللِّصُّ أقبلَ نحوَهُ فطعنَهُ فقتلَهُ، ثمَّ أقبلَ إليهِ، فقالَ: قُم، قالَ: من أنتَ بأبي أنتَ وأمِّي، فقد أغاثَني اللَّهُ بِكَ اليومَ؟ قالَ: أَنا ملَكٌ منَ السَّماءِ الرَّابعةِ، دعوتَ بدعائِكَ الأوَّلِ، فسَمِعْتُ لأبوابِ السَّماءِ قعقعةً، ثمَّ دعوتَ بدعائِكَ الثَّاني، فسَمِعْتُ لأَهْلِ السَّماءِ ضجَّةً، ثمَّ دعوتَ بدعائِكَ الثَّالثِ، فقيلَ لي: دعاءُ مَكْروبٍ، فسألتُ اللَّهَ أن يوليَني قتلَهُ قالَ أنَسٌ: فاعلم أنَّهُ من توضَّأَ، وصلَّى أربعَ رَكَعاتٍ، ودعا بِهَذا الدُّعاءِ، استجيبَ لَهُ، مَكْروبا كانَ، أو غيرُ مَكْروبٍ.
صلاة الحاجة:
اتفق الفقهاء على أنّ حكم صلاة الحاجة الاستحباب، استدلالًا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: “مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لْيُصَل رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ، وَلْيُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه، ثم ليصلِّ ركعتين، ثم يثني على الله تعالي، وليصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: لا إله لا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين”. ثم يسأل من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يُقَدَّر.
عجلة الإنسان ودعاؤه بالشر:
قال سبحانه: (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) [الإسراء: 11].
وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله -بلطفه – يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر؛ قال سبحانه: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [يونس: 11].
وهذا من لطفه وإحسانه بعباده، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه، وبادرهم بالعقوبة على ذلك، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي: لمحقتهم العقوبة، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم، ويعفو عن كثير من حقوقه، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
ويدخل في هذا، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله، ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت منه لهلكوا، ولأضره ذلك غاية الضرر، ولكنه تعالى حليم حكيم.
دعاء سيدنا نوح من الكرب العظيم:
وهذا نبي الله نوح -عليه السلام-، قال عنه مولاه: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) [الصافات: 75- 79]. وفي موضع آخر قال -سبحانه- عنه: (وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الأنبياء:76].
ودعا سيدنا نوح فقال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر: 10].
دعاء سيدنا إبراهيم:
ولا سيما حين قرروا حرقه بالنار؛ لأنه دعا إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام واستهزأ بها؛ فقالوا: (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 68]، فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا – قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفِيَتْ أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم- ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض، وأضرموها نارًا، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقَدْ قط نارٌ مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق، فلما ألقَوه قال: “حسبي الله ونعم الوكيل”؛ كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: “حسبي الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]”.
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأما من الله فبلى.
قال الله – عز وجل -: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء: 69]، قال: لم يبقَ نار في الأرض إلا طفئت، وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحدٌ يومئذ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وَثاقِه.
دعاء سيدنا أيوب حين مسه الضر:
ولما امتحن الله نبيه أيوب -عليه السلام- بالأسقام وعِظَم اللّأواء، والدود والأدواء، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 83- 84].
دعاء سيدنا يونس في بطن الحوت:
وهذا سيدنا يونس -عليه الصلاة والسلام- حين امتحنه الله بأن ألقاه في بطن الحوت (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88]. وهذا وعد من الله عز وجل.
هذا الدعوات وغيرها بشارة لكل مؤمن وقع في شدة أو كرب عظيم، أوغم وهم، ودعا الله وهو في حالة من حالات الاضطرار والاحتياج: أن الله -تعالى- سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف إذا دعاه وتضرع إليه وأخبت.
دعاء سيدنا يعقوب:
وقال يعقوب: (أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[يوسف: 86]. قال يعقوب (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي) أي: ما أبث من الكلام (وَحُزْنِي) الذي في قلبي (إِلَى اللَّهِ) وحده، لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، وكله أمل في الله من أنه سيردهم عليه ويقر عينيه بالاجتماع بهم؛ وهو الذي حصل تماما حين دعا ربهم مضطرا محتاجا مغموما مخلصا له الدين.
استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر:
عن عمر الفاروق وعبد الله بن عباس: لَمَّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إلى المُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ القِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ برَبِّهِ: “اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ”، فَما زَالَ يَهْتِفُ برَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، حتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن مَنْكِبَيْهِ، فأتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فأخَذَ رِدَاءَهُ، فألْقَاهُ علَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ التَزَمَهُ مِن وَرَائِهِ، وَقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فإنَّه سَيُنْجِزُ لكَ ما وَعَدَكَ، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9] فأمَدَّهُ اللَّهُ بالمَلَائِكَةِ.وقد خرج من العريش الذي نصب له وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر: 45].
قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]. وذلك حين هم المشركون باستئصال الإسلام وأهله عن بكرة أبيهم، تخويفا لهم وترهيبا، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه؛ وقالوا: “حسبنا الله ونهم الوكيل”.
تغيير الحال إلى الأفضل:
جرت عادة الله أن يكون نصرُه لأوليائه ولو بعد حين؛ ومضت سنته أنمن عادى له وليًّا فقد آذنه بالحرب، وهو القائل سبحانه: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110]، وإن المكر السيئ لا يَحيق إلا بأهله، والعبرة هنا بإخوة يوسف لما بغَوا عليه حسدا من عند أنفسهم، وبلغت بهم الشحناء الخبيثة ذروتها أن مكروا به مكرًا، وقالوا: اطرحوه أرضًا، واجعلوه في باطن الأرض –في بئر عميق- لترتاحوا منه إلى الأبد! وأبى اللهُ إلا أن يجعله على خزائن الأرض، وفتح له ما شاء الله أن يفتح من أبواب رحمته، وقد مكّنه فوق الأرض، وكاد له سبحانه والله خير الماكرين؛ حتى رجعوا إليه صاغرين، وهم لا يعرفونه، يسألونه الميرةَ.
واقرأ يا أخيّا بتأمل وهدوء تمام القصة في سورة يوسف؛ ومنها هذه القطعة: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 88- 92].
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إثر خروجه من الطائف:
روى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما تُوفِّيَ أبو طالبٍ خرج النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الطائفِ ماشيًا على قدمَيه يدعوهم إلى الإسلامِ فلم يجيبوه فانصرف فأتَى ظلَّ شجرةٍ فصلَّى ركعتينِ ثم قال: “اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ، أرحمُ الراحمينَ أنتَ؛ ارحمْني، إلى منْ تكلُني؟ إلى عدوٍ يتجَهَّمُني، أمْ إلى قريبٍ ملَّكتَهُ أمري؟ إن لمْ تكنْ غضبانًا عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لهُ الظُّلُماتُ وصلُحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ أن تُنزلَ بيَ غضبَكَ أو تُحلَّ عليَّ سخطَكَ، لكَ العُتْبى حتى تَرضَى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بكِ”.
قصة الثلاثة الذين انسدت عليه المغارة:
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما ثلاثةُ رهْطٍ يتماشَونَ أخَذهمُ المطَرُ فأوَوا إلى غارٍ في جبلٍ، فبينا هم فيه حَطَّتْ صخرةٌ من الجبلِ فأَطبقَتْ عليهِم، فقال بعضُهم لبعضٍ: انظُروا أفضلَ أعمالٍ عمِلتُموها للهِ سبحانَه فسَلوه بها لعلَّه يُفَرِّجُ بها عنكم. فقال أحدُهم: اللهم إنه كان لي والدانِ كبيرانِ، وكانت لي امرأةٌ وولدٌ صِغارٌ وكنتُ أرعى عليهم، فإذا رُحتُ عليهم بدأتُ بأبوَيّ فسقيتُهما، فناءَ يومًا الشجرُ فلم آتِ حتى نام أبوايَ، فطيَّبْتُ الإناءَ ثم حلَبتُ فيه ثم قُمتُ بحِلابي عِندَ رأسِ أبوايَ والصبيةُ يتضاغَونَ عِندَ رجلي، أكرَهُ أن أبدَأَ بهم قبلَ أبويَّ، وأكرَهُ أن أوقِظَهما من نومِهما، فلم أزَلْ كذلك قائمًا حتى أضاء الفجرُ، اللهم إن كنتَ تعلَمُ أني فعَلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فأفرِجْ عنا فُرجةً نرى منها السماءَ، ففُرِّجَ لهم فُرجَةٌ رأَوا منها السماءَ. وقال الآخَرُ: اللهم إنها كانت لي ابنةُ عمٍّ فأحبَبتُها حتى كانتْ أحبَّ الناسِ إليَّ فسألتُها نفسَها فقالتْ: لا حتى تأتيَني بمائةِ دينارٍ، فسعَيتُ حتى جمَعتُ مائةَ دينارٍ فأتيتُها بها، فلما كنتُ بين رجلَيها قالتْ: اتقِّ اللهَ لا تفتَحِ الخاتمَ إلا بحقِّه، فقُمتُ عنها. اللهم إن كنتَ تعلَمُ أني فعَلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرُجْ لنا منها فُرجَةً، ففرج لهم فرجة. قال الثالث: اللهم إني كنتُ استأجرت أجيرا بفرق ذرة، فلما قضى عمله عرضته عليه فأبى أن يأخذه ورغب عنه، فلم أزل أعمل به حتى جمعت منه بقرا ورعاها، فجاءني فقال: اتق الله وأعطني حقي ولا تظلمني، فقُلْت له: اذهب إلى تلك البقر ورعاتها فخذها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقُلْت: إني لا أهزأ بك، اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها، فذهب فاستاقها. اللهم إن كنتُ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما بقي منها. ففرج الله عز وجل عنهم فخرجوا يتماشون.
لماذا ندعو فلا يستجاب لنا؟
إن الله تعالى في النص الرئيس وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال وتمام القول في شرائط الدعاء؛ حيث يقول سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [البقرة: 60]. فمن استنكف عن دعائه فكيف يستجيب له!
وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].فمن لطن الله علينا أنه يستجيب دعواتنا؛ وهذا مجرب في حق الفقراء إلى الله، المتضرعين إليه؛ ولا سيما عند الشدائد، لكن بشرط أن نستجيب له كما هو مبين في الآية فتأمل!
وقد ذكر السلف لماذا لا يستجاب لنا؛ وهذه قصة إبراهيم بن أدهم جاء فيها: أنه ذهب إلى سوق البصرة اجتمع عليه الناس، وقالوا: يا أبا إسحاق، ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟
قال: لأن قلوبكم قد ماتت بعدة أشياء:
1- أنكم عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
2- عرفتم كتاب الله ولم تعملوا به.
3- أنكم زعمتم أنكم تحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركتم سنته.
4- أنكم زعمتم أن الموت حق ولم تستعدوا له.
5- تدفنون موتاكم ولا تعتبرون.
6- ادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه.
7- تأكلون رزق الله ولا تشكرونه.
8- انشغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم.
9- علمتم أن الجنة حق ولم تستعدوا لها.
10- أيقنتم أن النار حق ولم تهربوا منها.
مقاصد الدعاء:
يمكن اختزال مقاصد الدعاء فيما يأتي:
1- هو مقصد لذاته؛ لأن الدعاء عبادة، والعبادة مطلوبة لنفسها؛ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: “الدعاء هو العبادة”. حتى ولو لم تتحقق حاجات الداعين فهو مأجور بهذه العبادة فقد حقق مقصدا أخرويا.
2- إجابة الدعاء وقضاء الحاجة التي دعا لأجلها؛ وهذايحقق مرغوبه من الدعاء.
3- رد البلاء؛ أو أن يدفع عنه به شرا!
4- تيسير الأفضل مما دعاه؛ حيث إن الله ييسر له ما هو خير منه.
5- ادخار الأجر ليوم القيامة؛ أن يدخره له عنده يوم القيامة حيث يكون العبد إليه أحوج.
السلاح بضاربه لا بحده:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو. ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير”.
وهذا كلام نفيس في الاستعداد قصد الإمداد، الاستعداد منا الفقراء إلى الله، والإمداد منه جل في علاه.
من أسباب إجابة الدعاء وآدابه:
يمكن أن نحصر بعض الأسباب المستقرأة من الكتاب والسنة والمعينة على استجابة الدعاء؛ لنستعين بها في تضرعنا ومناجاتنا وأدعيتنا؛ منها:
1- الإخلاص في الدعاء؛ لقوله تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف: 29]، فنتوجه إلى الله وحده لا شريك له، ولا نخلط ولا نشرك معه أحدا؛ فهو القادر على قضاء حاجاتنا ولا سيما عند الفتن والشدائد، وأن لا نتصنع بأدعيتنا ونتكلف بها؛ ونتغنى ونتقعر، ونرائي، ونسمع!
2- دعاء الله رغبا ورهبا؛ كما وصف الله أنبياءه الصادقين وعباده الصالحين: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
3- التوبة إلى الله تعالى واستغفاره؛ لقوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10- 12].
4- تحري أكل الحلال، والتحرز من الحرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: (يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا، إنِّي بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51] وقالَ: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟”.
5- التضرع والتذلل بين يديه؛ لقول الله عز وجل: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف: 55].
6- الإلحاح دون ضجر أو ملل: ويحصل الإلحاح بتكرار الدعاء مرتين أو ثلاث والاقتصار على الثلاث أفضل اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم “كان يُعجِبُهُ أنْ يَدْعُوَ ثلاثًا، ويستغفِرَ ثلاثًا”.
7- عدم اليأس أو الاستعجال؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: “يُستجابُ لأحدِكم ما لم يعجَلْ، فيقولُ: دعوتُ ودعوتُ فلم أرَه يُستجابُ لي، فيستحسرُ عندَ ذلك ويدعُ الدعاءَ “. وأن يلحعلى الله باستمرار لا تيأس من روح الله (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
8- التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا في أول الدعاء أو آخره، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰفَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].
9- سؤال الله ما يرضيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ”.
10- اختيار جوامع الكلم؛ وكل أدعية القرآن والنبي العدنان من جوامع الكلم، دون تكلف وتكرار في العبارات، وتطويل ممل،لأن أحسن الدعاء أجمعه وأبينه، وخير الدعاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا الأدعية غير المأثورة لكنها نافعة.
11- الاعتناء بآداب الدعاء؛ وذلك مثل: استقبال القبلة والدعاء على حال طهارة وافتتاح الدعاء بالثناء على الله عز وجل وحمده والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك مع رفع اليدين حال الدعاء.
12- العزم وعدم تعليق الدعاء، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يَقولَنَّ أحدُكم: اللَّهمَّ اغفِرْ لي إنْ شِئتَ، اللَّهمَّ ارحَمني إنْ شِئتَ، ليَعزِمِ المَسألةَ؛ فإنَّه لا مُكرِهَ له”.
13- القيام لمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وعدم التفريط فيهما؛ قال صلى الله عليه وسلم: “لتأمرُنَّبالمعروفِ ولتنهونَّ عن المنكرِ، أو ليُسلِّطَنَّ اللهُ عليكم شِرارَكم، فيدعو خيارُكم فلا يُستجابُ لهم”.
14- الدعاء للغير في ظهر الغيب؛ فهو باب من أبواب الاستجابة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: “دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ”.
15- الدعاء في ثلث الليل الأخير؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: “يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له”.
16- الإكثار من ذكر الله مقدمة للدعاء؛ لقوله عليه السلام: “ثلاثةٌ لا يَردُّ اللهُ دُعاءَهمْ: الذّاكِرُ اللهَ كثيرًا، والمظْلومُ، والإِمامُ الْمُقسِطُ”.
17- تحري أوقات الإجابة وأماكنها؛ فمن الأوقات الفاضلة: وقت السحر وهو ما قبل الفجر، ومنها الثلث الآخر من الليل، ومنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ومنها وقت نزول المطر، ومنها بين الأذان والإقامة. ومن الأماكن الفاضلة: المساجد عموما، والمسجد الحرام خصوصا. ومن الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الصائم، ودعوة المضطر، ودعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.
إياك أن تستثقل الدعاء وتستغني عنه:
فإياك يا أخيا –كنت في حالة الاضطرار أو غيرها- أن تستثقل الدعاءفهو العبادة؛ وهو الخير كله، فيه يتجلى الافتقار إلى الله، وإثبات الغنى له وحده:
لا تـسـألـن بنـي آدم حـاجـة ** واسـأل الـذي أبـوابـه لا تحـجـب
الله يغضـب إن تركـت سـؤالـه ** وتـرى ابن آدم حـين يسـأل يغضـب
فكن ملحاحًا في دعائك، راجيًا عفو ربك، طالبًا مغفرته، راغبًا في جنته ونعيمه، طامعًا في عطائه وغناه؛ فهو سبحانه يستحيي أن يرد عبده خائبًا إذا سأله!
قصيدة المنفرجة:
هذه القصيدة هي (المنفرجة) لأبي الفضل يوسف بن محمد التوزي المعروف بابن النحوي (ت 513 هـ)، والمنفرجة من غرر القصائد وقد شرحها الشيخ الإمام زكريا الأنصاري وغيره ونظم على منوالها الإمام أبو حامد الغزالي؛ ونصها:
اشتدّي أزمةُ تنفرجي *** قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ
وظلام الليل له سُرُجٌ *** حتى يغشاه أبو السُّرُج
وسحاب الخير له مطرٌ *** فإذا جاء الإبَّانُ تَجِي
وفوائد مولانا جُمَلٌ *** لسُروج الأنفسِ والمُهَجِ
ولها أَرَجٌ مُحْيٍ أبدا *** فَاقْصِد مَحْيَا ذَاكَ الأرَجِ
فَلَرُبَّتَمَا فَاضَ المَحْيَا *** بِبُحورِ المَوْجِ من اللُّجَجِ
والخلق جميعا في يده *** فَذَوُ سَعَةٍ وذَوُ حَرَجِ
ونُزولُهُمُ وطُلوعُهُمُ *** فإلى دَرَكٍ وعلى دَرَجٍ
ومعايِشُهُم وعَواقِبُهُم *** ليست في المَشْيِ على عِوَجِ
حِكَمٌ نُسِجَتْ بِيَدٍ حَكَمَتْ *** ثم انتسجَت بالمُنْتَسِجِ
فإذا اقْتَصَدَت ثم انْعَرَجَت *** فبمُقْتَصِدٍ وبمُنْعَرِجِ
شَهِدَت بعجائِبها حُجَجٌ *** قامت بالأمر على الحُجَجِ
ورِضًا بقضاء الله حِجَا *** فعلى مَرْكوزَتِها فَعُجِ
فإذا انفتحت أبوابُ هُدَى *** فاعجل بخزائنها و لِجِ
وإذا حاوَلْتَ نِهايتَها *** فاحذَرْ إذْ ذَاك من العَرَجِ
لتكون من السُّبّاقِ إذا *** ما جِئْتَ إلى تلك الفُرُجِ
فهناك العَيْشُ وبَهجَتُهُ *** فَبِمُبتهِجٍ وبمُنْتَهِجِ
فَهِجِ الأعمال إذا رَكَدَتْ *** وإذا ما هِجْتَ إذَن تَهِجِ
ومعاصي الله سَمَاجَتُهَا *** تَزدانُ لذي الخُلقِ السَّمِج
ولِطاعَتِه وصَبَاحَتِها *** أنوارُ صبَاحٍ مُنْبَلِجِ
من يخْطو بحُورَ الخُلْدِ بِها *** يَحظَى بالحُور وبالفَنَجِ
فكُنِ المَرْضِيَ لهَا بِتُقًا *** تَرْضَاهُ غَدًا وتَكونَ نَجِي
واتْلُ القرآن بقَلْبٍ ذِي *** حُزنٍ وبصَوتٍ فيه شَجِ
وصلاة الليل مسافَتُها *** فاذهَبْ فيها بالفَهْمِ وَ جِي
وتأمَّلها ومعانِيها *** تَأتِي الفِردوسَ وتَبْتَهجِ
واشرب تَسْنِيمَ مُفَجِّرِها *** لا مُمْتَزِجًا وبمُمْتَزِجِ
مُدِحَ العَقلُ الآتِيهِ هُدًى *** وهَوَى المُتَوَلِّ عنه هُجِي
وكتاب الله رِيَاضَتُهُ *** لِعُقُولِ النَّاسِ بِمُنْدَرِجِ
وخِيارُ الخَلْقِ هُدَاتُهُمُ *** وسِوَاهُمْ من هَمَجِ الهَمَجِ
فإذا كنت المِقْدَامَ فَلا *** تَجْزَعْ في الحَربِ من الرَّهَجِ
وإذا أبْصَرْتَ مَنَارَ هُدَى *** فاظْهَر فَرْدًا فَوْقَ الثَّبَجِ
وإذا اشْتَاقَت نفسٌ وَجَدت *** ألَمًا بالشَّوقِ المُعْتَلِجِ
وثَنَايَا الحَسْنا ضَاحِكةً *** وتَمَامُ الضَّحْكِ على الفَلَجِ
وغِيابُ الأسْرارِ اجْتَمَعَتْ *** بأمانتِها تحت السُّرُجِ
والرِّفْقُ يدوم لصاحِبهِ *** والخِرْقُ يَصِير إلى الهَرَجِ
صَلَواتُ اللهِ على المَهْدِي *** الهادي الناس إلى النَّهْجِ
وأبي بكرٍ في سيرَتِه *** ولِسانِ مقالتِه اللَّهِجِ
وأبي حَفْصٍ وكرامتِهِ *** في قِصَّةِ سَارِيَةَ الخَلَجِ
وأبي عَمْرٍ ذي النُّورَيْنِ *** المُسْتَهْدِ المُسْتَحْيِ البَهِجِ
وأبي حَسَنٍ في العِلْمِ إذَا *** وَافَى بسَحائِبِه الخَلَجِ
وعلى السِّبْطَيْنِ وأمِّهِما *** وجميعِ الآلِ بمُنْدَرِجِ
وصَحَابَتِهِم وقَرَابَتِهِمْ *** وقُفَاتُ الأثْرِ بلا عِوَجِ
وعلى تُبّاعِهُمُ العُلَمَا *** بعَوارِفِ دينِهِم البَهِجِ
يا رَبِّ بهِم وبآلِهِم *** عجِّل بالنَّصْرِ وبالفَرَجِ
وارحَم يا أكْرَمَ مَنْ رحِمَا *** عَبْدًا عن بابِكَ لَمْ يَعُجِ
واخْتِمْ عمَلِي بخَواتِمِها *** لِأكون غدًا في الحَشْرِ نَجِي
لَكِنِّي بجُودِكَ مُعْتَرِفٌ *** فاقْبَلْ بمَعَاذِرِي حِجَجِي
وإذَا بك ضَاقَ الأمْرُ فَقُلْ *** اشْتَدِّي أزْمَةُ تَنْفَرِجِي
وفي الختام أتضرع إلى الله فأقول:
يَا سَابغَ النِعَم، ويَا دَافعَ النِقَم، ويَا فَارجَ الغَمّ، ويَا كاشفَ الظلم، ويَاأعدَلَ مَنْ حَكم، ويَا حَسيبَ مَن ظُلمَ، ويَا أوّلَ بلا ابتداء، ويَا آخرَ بلا انتهاء، اِجْعلْ لنا مِنْ أمْرنا فَرَجًا ومَخْرَجًا!
اللهمّ يَا سَامِعَ كلِّ شَكوىَ، ويَا مُنتَهَى كلِّ نَجْوَى، ويَا عَالمَ كلِّ خَفيّة،ويَا كاشِفَ كلِّ كَرْبٍ وبَليّة، يَا قَريبَ غَيرَ بَعيد، ويَا مَنْ نَجّىَ نُوحًا وإبرَاهيمَ ومُوسىَ وعيسىَ ومحمدًا –صَلّى اللّهُ عليه وسلّم– أدْعُوكَ يَا إلهي دُعَاءَ مَنْ اشتدّت بِهِ فَاقـتُهُ، وضَعُفتْ قوّتُه، وقَلّتْ حِيلتـُهُ، أدْعُوكَ دُعَاءَ المَلهُوف المَكرُوب الذي لا يجد كشفَ مَا نَزلَ به إلاّ مِنكَ! لا إلهَ إلاّ أنتَ، إلهي وإلهَ كلِّ شَيء ارحمنا يَا أرْحَمَ الرَاحمين، واكشِفْ عنّا مَا نَزَل بنا من وباء وضُرّ وبَلاء! اللهمّ احْفَظنا مِنَ القوم الظالمين، إنّك عَلىَ كلّ شَيء قَدير!
اللهمّ يَا بَارئُ لا بَارئَ لكَ، ويَا دائمُ لا نَفادَ لكَ، ويَا حيُّ ياَ قيُّومُ، يَا مَنْ هو قَائمٌ عَلىَ كلّ نَفْسٍ بمَا كسَبَتْ، إلَهي أنتَ العَزيزُ الجبّارُ الذي لا إلَهَ إلاَ أنْتَ، إلَهَنَا وإلَهَ كلِّ شَيء إلَهًا واحدًا، نسألُكَ بِحُرْمَة كتَابكَ وحُرْمَةِ كَلماتِكَ التّامَّاتِ كلِّهَا الأمنَ مِنْ كلِّ خَوْف والشفَاءَ مِنْ كلّ مَرَض والعَافيةَ مِنْ كلّ بَلاء!
اللهمّ اكْشِفْ عَنّا مَا نَزَلَ بنا مِن ضُرٍّ وَشَرّ وَاصْرِفْ عَنّا مَا عَلمنامِنهَا وَمَا لم نعلمْ، وَاحفَظنا مِنْ شَرّ مَا أحَاط به علمُكَ في الدُنيَا والآخرَة، وَخَلِّصْنِا خَلاصًا جَميلاَ، يَا رَبَّ العالمين! يَا مُدَبِّرَ كلِّ أمرٍ عَسير، دَبِّرْ لنا فَإنّا لا نُحْسِنُ التَدْبير!
اللهمّ يَا غِيَاثَ المستغيثينَ، يَا مُجيبَ دُعَاء المضطرّين، وَجّهنا وجوهناإليكَ وَتَوَكّلنا مُنيبين عَليكَ، لاَ نرفعُ حَاجَتنا إلاّ إليْكَ خَاشعين بَينَ يَدَيكَ، ألْحِقْنِا بِالصَالحِينَ وَأيّدْنِا بِجَلالِكَ وَآمِنّا بِجَبَرُوتكَ وَسُلطانكَ وَاحْفَظنِا مِنْ كلّ سُوءٍ!
اللهمَّ اقْذِفْ في قَلوبنا رَجَاءَكَ وَاقْطَعْ رَجَاءنا عَمّنْ سِوِاكَ حَتّىَ لا نرْجُو إلاّ إيّاكَ! اللهمّ مَا ضَعُفَتْ عَنْهُ قوّاتنا وقَصُرَت عَنْهُ آمالنا، وَلم تَنْتَهِ إليهِ رَغبَتنا وَلمْ تَبْلغْهُ مَسْألَتنا، وَلمْ يَجْرِ عَلىَ ألسننا مِمَّا أعْطيَتَ أحَدًا مِنَ الأوّلينَ وَالآخِرِينَ مِنَ اليَقينِ فَخصّنا بِهِ يَا رَبَّ العالمينَ!
اللهمّ ضَاقَتِ الحِيَلُ وَانْقَطعَ الأمَلُ وَبَطلَ العَمَلُ، لاَ مَلجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إلاّ إليْكَ! يَا مُسَهّلَ الصَّعْبِ الشّدِيد وَيَا مُلَـيِّنَ كلّ قَاسٍ عَنِيدٍ، وَيَا مُنْجِزَ الأمْرَيْنِ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ، بِكَ ندْفَعُ مَا نطيقُ وَمَا لاَ نطيقُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاّ بِاللّهِ العَليّ العَظيم!
وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)