يكشف كتاب أصول التطرف (اليمين المسيحي في أمريكا) الذي ألفه مجموعة من الباحثين الغربيين، وهو من تحرير كمبرلي بلاكر، أن الهجرة الكبيرة للكاثوليك واليهود من أوربا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للبحث عن العمل والفرص المالية والاقتصادية، وللبحث عن الذهب، وما أتت به هذه الفكرة من أفكار وثقافات مغايرة للثقافة البروتسانتية، كل ذلك قد مهد للصراع بين التيارات النصرانية المتشددة والتيارات المناهضة لها، ومما أجج ذلك الصراع انتشار نظرية التطور عند داروين، ثم جاءت الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، فآتت أكلها، وأصبحت الخلافات بين شمال أمريكا وجنوبها متعددة في الشؤون الصناعية والاقتصادية والمالية ومسألة الرق، وبدأ كفاح السود للحصول على حقوقهم.
وفي الكتاب الذي ترجمه المشروع القومي للترجمة في مصر، يبدأ تقديم بلاكر بعبارة مقتبسة من جيمس دوبسون، مفادها أن الذين يتحكمون فيما يُدرس للشباب، وفيما يعايشون من خبرات – بمعنى ما يرون ويسمعون وفيما يفكرون ويؤمنون – هم الذين يحددون مسار الأمة في المستقبل.
وجاء في سياق الحديث ما نصه:
(من ذا الذي يستطيع صياغة هذه المقولة بأفضل من الدكتور جيمس دوبسون، أستاذ طب الأطفال السابق، ومؤسس منظمة (التركيز في الأسرة)، وهو رجل يشار إليه بالبنان في أوساط المسيحيين المحافظين بأمريكا، فهو أهم سلطة مرجعية (يعني أمريكية) في تنشئة الأطفال. وصوته الهادئ يصل بصفة يومية إلى أسماع الآباء والأمهات في عموم البلاد، عبر ألفي إلى ثلاثة آلاف محطة إذاعية، يتوجهون إليه بالأسئلة ويلتمسون منه الإجابات حول مسائل الزواج والعلاقات بين الجنسين وتربية الأطفال).
ويستطرد الكتاب: (ويعرف آخرون دوبسون بأنه شخص له شبكة علاقات قوية باليمين المسيحي. وفي الواقع قد يوهم نفوذه القوي على الحزب الجمهوري أنه زعيم اليمين المسيحي، وهو بطريرك إيفانجليكي يدافع عن فكرة العقاب الجسدي ويعارض بشدة سيادة المرأة على قرارها الخاص في مسألة الحمل والإنجاب…).
ثم تصف مشاركة بلاكر دوبسون بأنه ذو قدرة فائقة على تضليل الأمريكيين قليلي الدراية، الذين قد لا يوافقونه آراءه أصلاً. فمناوراته على الساحة السياسية تجري خلسة، دون أن يلحظها أو يسمع بها أحد – فيما عدا أولئك النفر الذين يقبض على عقالهم ويقودهم من أعناقهم – وهذا مصدر قوته ومفتاح نجاحه.
ثم يأتي شرح كيف أن دوبسون يصور مدى لهفة الأصولية المسيحية للسيطرة على عقول الشباب، تلك اللهفة التي نادراً ما تختلف عن نظريتها لدى الأصولية الإسلامية بتجسيداتها الباكستانية والأفغانية – والكلام لا يزال حتى الآن لكمبرلي بلاكر، حرفياً-.
ويتطرق حديث بلاكر إلى أن عدداً كبيراً من أطفال باكستان ينشؤون في محيط من سيطرة كتلك التي يتمتع بها دوبسون في أمريكا، فهم ينشؤون في مدارس دينية بمجرد بلوغهم السادسة، ويقضون معظم صباهم في تعلم شكل متطرف من الإسلام، ولا يتوافر لهم إلا قليل من التواصل الاجتماعي.
اللافت في الأمر أن البحث يقرر أن المتطرفين المسيحيين يفعلون ذلك؛ فهم يدرسون أولادهم في المنازل، أو يرسلونهم إلى مدارس مسيحية ذات توجه محافظ شددي المغالاة، للحد من التفاعل الاجتماعي الذي قد يفتح أمامهم أبواب التفكير النقدي، وفي هذا يقول دوبسون:
(إذا كان خلاص أطفالنا بهذا القدر من الأهمية فإن تدريبنا الروحي لهم يجب أن يبدأ حتى قبل أن يفقهوا الغرض من ورائه… يجب تعريف أطفالنا بأن الخطيئة عاقبتها الموت، ومن حق الأطفال أن يعوا تلك الحقيقة).
وتبدي عبارات بلاكر الارتياب في أن بعض الأصوليين النصارى عازمون على تكوين جيش من المغفلين يحركونهم كالدمى، وأنهم على استعداد للقتل والتضحية بأرواحهم في قضية تم تحديدها لهم سلفاً. ليتوصل القارئ إلى مقطع من الكتاب، يصرّح بأن أمريكا تخوض حرباً ضد الإرهابيين، لكن بشرط ألا يكونوا مسيحيين أو أمريكيين؛ لأنها تتعامل مع الإرهابيين بازدواجية مثيرة للقلق، وعلى سبيل المثال: فإن إدارة بوش حصرت جهدها في القضاء على الإرهاب في الخارج، وتجاهلت التعامل مع الأخطار التي يواجهه الأمريكيون من الإرهابيين المسيحيين داخل أمتهم.
لا يجد البحث حرجاً في أن يكشف لقارئه أن أمريكا ليست معصومة من تغذية التطرف، ويستدل لذلك بقيام مسيحيين مثل: تيري نيكولاس وتيموثي ماكفي بتفجيرات أوكلاهوما، تحت تأثير الهوية المسيحية المتطرفة، وقد كان التفجير هو الطريقة التي اختارها ماكفي كي يعارض على الملأ غزو الحكومة لمقر جماعة دينية منشقة اسمها (برانش ديفيديانز)، وليثأر لمقتل أسرة كانت تروج لفكرة السمو العرقي للبيض، ويتبعون عقيدة الهوية المسيحية، التي تؤكد أن الجنس الآري هو العرق المختار لدى الرب، وأن الأوربيين البيض يشكلون القبائل الإسرائيلية العشر المفقودة.
ويذكر نص الكتاب أن جماعة (جيش الرب) الصغيرة الراديكالية من الأمثلة على ذلك، فقد استهدفت عيادات الإجهاض، وتورطت في اختطاف وتفجير وقتل، وكانت على صلة باستهداف العيادات بمائة وثمانين رسالة ملوثة بمادة الأنثراكس السامة في أكتوبر الذي تلا مباشرة هجمات الحادي من سبتمبر على أبراج التجارة العالمية، فجرت هجمات الطائرات التي ارتكبها إرهابيون ينتمون إلى الإسلام، وهجمات المواد السامة التي ارتكبها الإرهابيون المنتمون إلى المسيحية في شهرين متعاقبين.
ويوضح الكتاب كيف أن الأصوليين (أي: في أمريكا) يعتقدون أن الرب قد كلفهم واجب تحويل كل الأطفال الأمريكيين إلى شكل متطرف من المسيحية. وإن أسرع السبل إلى ذلك أن تحقق بعض المراكز اليمينية أهدافها، ومن الوسائل لتحقيق أهدافها: مهاجمة التعليم العام، ونشر المعلومات المضللة، وتضخيم مسألة فشل الطلاب، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خصخصة المدارس، وتصفية نظام التعليم العام، ومن أجل ذلك تراهم ينشرون على ويروجون لأن التعليم العام قد فشل، وهذا يعزز ويؤيد خصخصة المدارس، الذي هو منتهى حلم الأصوليين؛ لكي يتاح لهم أن يدرسوا الطلبة ما يشاؤون، وسوف تستطيع هذه المدارس الدينية أن تنتقي الطلبة، وتستبعد من بينهم مثيري المشكلات أو ضعفاء الولاء، وتركز في الأذكياء والأقوياء الذين لهم ولاء قوي وإخلاص كامل لمعلميهم المتشددين.
وبالرغم من كل هذا تتوصل مشاركة بلاكر في ختامها إلى أن مؤلفي كتاب أصول التطرف (اليمين المسيحي) يدركون أن أكثر الأصوليين ومن على شاكلتهم أناس طيبون، لا يختلفون عن الأشخاص العاديين من نواح كثيرة، ولا يرجو أحد أن يلحق الأذى أحداً منهم، وإنما يُراد فهم الأسباب التي تؤدي إلى تؤدي إلى أن يتحولوا إلى أشخاص مؤذين أو ضارين، والحيلولة دون ذلك.
يذكر أن جون. إم. سوومي، الأستاذ الفخري للآداب الاجتماعية في مدرس القديس بولس للدراسات اللاهوتية، ومؤلف كتاب: (الحرية الدينية والعلمانية)، وصف هذا الكتاب بأنه محكم التوثيق حول أخطار الأصولية في شقيها الروتستانتي والكاثوليكي، وبأنه يكشف بالوقائع والأدلة الموثقة خطر السيطرة على العقل، ويميط اللثام عن العلاقة بين الأصولية من جانب، وبين التحيز والتمييز وجرائم الكراهية من جانب آخر.
(المصدر: موقع المثقف الجديد)