مقالاتمقالات مختارة

أمة مأزومة.. أفعال حكامها معصومة ولحوم علمائها مسمومة

أمة مأزومة.. أفعال حكامها معصومة ولحوم علمائها مسمومة

بقلم راجي سلطاني

ما هي العصور الوسطى؟

مصطلح العصور الوسطى يشير إلى الحقبة الزمنية التي عاشتها أوروبا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، وقد امتدت هذه الحقبة من القرن الخامس الميلادي حتى القرن الخامس عشر الميلادي، أي حتى بداية عصر النهضة الحديثة.

وكيف كان حال أوروبا في عصورها الوسطى؟

عاشت أوروبا في عصورها الوسطى في ظلام طال كل شيء، فقد انهارت سياسياً، وعاشت في ظل ظلم اجتماعي كبير، وكذلك في ظلم ديني وعقائدي أكبر.

ومن اللطائف التاريخية التي تدل على حال أوروبا في هذه العصور المظلمة، تلك الرسالة التي بعث بها ملك إنجلترا إلى خليفة المسلمين في الأندلس، حيث بعث له بمجموعة من الشباب ليتعلموا علم المسلمين ويعودوا إلى بلادهم التي أظلمت بالجهل، وجاء فيها: (بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقيّ العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة..).

وما سبب تلك الحالة التي عاشتها أوروبا في عصورها الوسطى؟

سببان رئيسان في تلك الحالة التي عاشتها أوروبا في عصورها الوسطى من جهل وضعف وانهيار، فساد رجال الحكم وفساد رجال الدين .

لقد تسلطت على أوروبا في هذه العصور عقيدة دينية فاسدة، حملها ونشرها رجال دين فاسدون، أوهموا الناس كذباً وتدليساً أن في أيديهم مغفرة الله ورضوانه وجنته، فهم الذين يوجبون الجنة لهؤلاء، ويوجبون النار لهؤلاء، وهم المعصومون الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فآراؤهم هي آراء السماء، وكلامهم هو كلام الله.

ومن منطلق هذه القداسة المدّعاة الكاذبة لرجال الدين هؤلاء، رموا بقداستهم هذه للحكام الفاسدين الكاذبين كذلك، وأوهموا الناس كذباً وتدليساً أن الحكم هو حق مقدس للحكام، وأنهم يحكمون باسم الله، وهم ظل الله في أرضه، أو هم بتعبير أدق أرباب الأرض في مقابل رب السماء.

وهكذا عاشت أوروبا في عصورها الوسطى في ظل أنظمة حكم مستبدة طاغية فاسدة، لا يستطيع الناس معارضتها، لأنهم يظنون كما يقول لهم رجال دينهم أن حكامهم معصومون، وأن معارضتهم معارضة لله وللسماء.

عاشت أوروبا في عصورها الوسطى في ظل أنظمة حكم مستبدة طاغية فاسدة، لا يستطيع الناس معارضتها، لأنهم يظنون كما يقول لهم رجال دينهم أن حكامهم معصومون، وأن معارضتهم معارضة لله وللسماء

وكذلك عاشت أوروبا في ظل رجال دين فاسدين يوهمون الناس أنهم الناطقون باسم الله، وأنهم رسله الذين يأتيهم الوحي، فلا ينطقون إلا به، ومعارضتهم تعني معارضة الوحي الإلهي والكفر به.

العرب والمسلمون يعيشون الآن في عصورهم الوسطى!

دار الزمان دورته، وتخلصت أوروبا من عصورها المظلمة، وانطلقت إلى تاريخها الحديث، إلى عصر نهضتها وتقدمها.

وما كان لها أن تفعل ذلك إلا بتخلصها من قداسة رجال الدين وقداسة الحكام، فعمدت إلى إبعاد رجال الدين والكنيسة تماماً عن الحكم وشؤونه، وقيدت الحكام بالدساتير والقوانين والمجالس النيابية والشورية.

وعدنا نحن العرب والمسلمين إلى هذه العصور المظلمة، عندما ورثنا من أوروبا تقديسها لحكامها ولرجال الدين فيها.

لم يجعل الله كهنوتاً في الإسلام فجعلناه نحن بأنفسنا، وأصبح رجال الدين الإسلامي كأنما هم رسل وأنبياء يأتيهم الوحي المباشر من الله، فلا ينطقون إلا بالله ولا يرون إلا به.

وما العلماء في الحقيقة إلا مفسرين ومبيّنين للدين في نصّيه المقدسين (القرآن والسنة)، فكل عملهم في الحقيقة آراء بشرية غير معصومة في محاولة فهم نصّين معصومين .

وضعت هالات التقديس على علماء الإسلام حتى أصبحوا كأنهم قساوسة الكنيسة الأوروبية في عصورها الوسطى، ورأينا من يقول: لحوم العلماء مسمومة، في محاولة لمنع أي اعتراض عليهم تحت ادعاء أن ذلك تطاول عليهم وطعن فيهم.

وما أكذب هذا وما أبأسه، يقول الأستاذ عامر شماخ في مقال له بعنوان (لحوم العلماء مسمومة…. كلها؟) ما نصه : هذه الجملة من كلام الإمام الحافظ ابن عساكر (499- 571هـ)، وردت فى كتابه «تبيين كذب المفترى»، ونصها: «اعلم يا أخى -وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله فى هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم».

وهذا كلام طيب لا اعتراض عليه، كما لا اعتراض على صاحبه ذي الباع فى العلم والدين، إنما الاعتراض على من يفهمون الجملة على غير ما قصد الرجل، فمن دون شك هو يقصد العلماء الحقيقيين، الربانيين، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، الحافظين لحدود الله، الأتقياء الأنقياء الذين يخشون الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..} [فاطر: 28]، العاملين بعلمهم على هدى وبصيرة وعلى سنة المعصوم -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، الصادعين بالحق فى وجوه الطغاة، من تجب طاعتهم (وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ..) [النساء: 59].

ولا يقصد العالم الجليل -بالطبع- أولئك الدجالين أشباه العلماء، الذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، ويكتمون العلم، ويشيعون الجهل، ويوقعون العداوة بين المسلمين، وقد تجد فيهم المفوه عليم اللسان. انتهى.

وإذا كنا ننفي هنا عن العلماء كلهم العصمة والقداسة، وعن الكذابين منهم والمدلسين بشكل أخص، فإننا ننفي تبعاً العصمة والقداسة التي يجعلها هؤلاء للحكام والملوك والسلاطين كذباً وادعاء وتدليساً، وهي في الحقيقة عصمة وقداسة يعطيها من لا يملكها لمن لا يستحقها.

إذا كنا ننفي هنا عن العلماء كلهم العصمة والقداسة، وعن الكذابين منهم والمدلسين بشكل أخص، فإننا ننفي تبعاً العصمة والقداسة التي يجعلها هؤلاء للحكام والملوك والسلاطين كذباً وادعاء وتدليساً، وهي في الحقيقة عصمة وقداسة يعطيها من لا يملكها لمن لا يستحقها

يكذب رجال الدين الكذابون المدلسون ويدعون أن منازعة السلاطين للحكم هي منازعة لحق أعطاهم الله إياه. فما أكذبهم وأفسدهم!

وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على عدم منازعة الأمر أهله إذا كانوا أهله حقا، يقومون عليه كما يحب الله ورسوله، ويؤدون حقه كما يحب الله ورسوله ، ولا قداسة لهم حينها ولا عصمة، ولا يمنع الاعتراض عليهم، وقد فعلها السابقون من الصحابة والتابعين، بل ولا يمنع الخروج عليهم إذا حرفوا وبدلوا وحادوا، وتيقن الخارجون أنهم سيصلحون بالخروج ولا يفسدون، وهو يقين بعيد المنال، لما نراه في كل قصص الخروج من بحار الدماء المسفوكة والحرمات المنتهكة والغايات المستحيلة.

العلماء الفاسدون في عصور الظلام التي نعيشها اليوم في بلادنا العربية والإسلامية كرجال الدين الفاسدين في العصور الوسطى في أوروبا ، ولقد أعطوا حكام اليوم عصمة وقداسة كالتي أعطاها رجال الدين للحكام في العصور الوسطى في أوروبا.

تخلصت أوروبا من كهنوتها وحكامها الآلهة فتقدمت وأضاءت، ولن نتقدم نحن العرب والمسلمين إلا بالخلاص من هذين الاثنين، كهنوت رجال الدين الفاسدين الكاذبين، والحكام المتألهين .

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى