أمة عزيزة بلا قيادة رشيدة
بقلم د. مجدي شلش
أمة خصها الله بالمناقب والمزايا بما ليس لغيرها، فهي وارثة الخلافة في الأرض بعد سقوط وضياع اليهود والنصاري في دهاليز التحريف والتزييف والقتل والإرهاب.
جعل الله سبحانه وتعالى شريعته صالحة لكل زمان ومكان باجتهاد أهل الحل والعقد في تفاصيل العمومات والإطلاقات التي جاءت بها النصوص، فأهل الذكر والاختصاص يقومون مقام النبوة في قوله تعالى في حق النبي: ” … لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ…” فقال في أهل العلم والذكر: ” … لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ…” وهذه منزلة وخصيصة للأمة، علماؤها ورثة نبيها، وفي مقام أنبياء غيرها.
أمة صلى الله عليها وملائكته فقال: “هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ…” وقال جل شأنه:” أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ…” أمة رضي الله عنها وأرضاها فقال: ” … رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ …”
أمة غفر الله لها ذنبها، وكفر عنها سيئاتها، وأتم النعمة عليها، وطهرها وزكاها وأنزل الوحي موافقاً لبعض أبنائها، وسمع شكاية امرأة منها، وبرأ السيدة عائشة بشرف ذكرها في القرآن؛ إذ قالت رضي الله عنها: “وأنا حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النوم رؤيا يبرئنى الله بها “.
أمة ميزها الله بالشفاعة لشهدائها وعلمائها وأوليائها، وشرح صدرها، وأعلى ذكرها، ورفع قدرها، فجعلها أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس، وجعلها شاهدة على الأمم التي سبقتها، وأحبها وأكرمها وأعزها .
أمة مَن والاها فقد والى الله ورسوله، ومَن عاداها فقد عادى الله ورسوله، اجتباها وهداها ورفع عنها الحرج وأورثها الكتاب وثبتها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
أعطاها من غير منة، وخاطبها بكل شفقة وحنان فقال: ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ…” وقال: ” يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا” وقال: “وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا “.
أمة لا تجتمع على ضلالة، عصمها الله من الغي المطلق، والزيغ التام، والفساد الذين ليس معه إصلاح، والانحراف والزلل، فما رأته حسناً فهو عند الله حسن، وما رأته قبيح فهو عند الله قبيح، من سنّ من أبنائها سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
نعم كل هذه السمات والصفات وغيرها مرهون باتباع كتاب ربها وسنة حبيبها، لا خيرية باللون، ولا كرامة للعرق، ولا مزية للحسب، ولا رفعة بالنسب، كل ذلك من أوزار الجاهلية العفنة النتنة، وقد أبدلنا الله خيراً منها بدينه وشريعته فقال: “أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ “.
أعلنها بكل قوة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”. ومن بعده ربعي بن عامر – رضى الله عنه – فقال: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق االدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
نعم أمتنا هي الأمة الخاتمة، جعل الله الخيرية فيها إلى يوم القيامة، إن لم يكن في كلها لكن لا تزال طائفة منها قائمة على الحق لا يضرها من خالفها أو خذلها إلى يوم القيامة، فالأمة باقية وظاهرة ما بقى الزمان، لن تأتي أمة بعدها، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام حين نزوله يكون متبعاً لها، حاكماً بشريعتها، واحداً من أبنائها، تابعاً لنبيها.
هذه الخيرية تقوى وتزداد بقيادة راشدة حكيمة واعية، قيادة تنهل من سلسبيل الفكرة، وتكرع من رحيق النبوة، وتأخذ من نهر السلف الصالح، وتقتدي بالأبطال والمغاوير والأماجد.
قيادة نزهت نفسها من سفاف الأمور، وأعلت قدرها بعظائم الأهداف والغايات، قيادة تعرف للقريب والحبيب حقه وقدره، وللبعيد والعدو والطريد ما يناسبه، قيادة زكية طاهرة من رجس الدنيا، هواها من هوى دينها وأمتها، ومزاجها من مزاج نبيها وصحابته.
القيادة الراشدة روح الأمة ومظهر فخرها وعزها وقوتها، قيادة تستعلي بدينها على عدوها المتكبر المتغطرس، وفي نفس الوقت رحيمة بالخلق جميعاً إلا من شذ وند.
قيادة عقلها رشيد، وقلبها فسيح، وإيمانها بأمتها كبير، قيادة شجاعة بلا تهور، وكريمة بلا إسراف، ومتواضعة بلا انكسار أو دعة، الله غايتها، والجهاد سبيلها، والقرآن دستورها، والإسلام شرعتها، والموت في سبيل الله أسمي أمانيها.
قيادة مدركة للتاريخ والماضي، ومخططة للواقع والحاضر، ومستشرفة للآتي والمستقبل، قيادة تحترم العلماء وتقدرهم وتنزل الناس منازلهم، تأتمر بالشورى وتنزل عليها، وتؤمن بالمؤسسية في كل قراراتها.
كفي حُكماً للفرد وإن كان عبداً تقياً، أو موهوباً وإن كان عاقلاً ذكياً، وللهوى والمزاج وإن خرج من ولي أو صالح أو تقي، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، وبالأخص في المنصب والجاه والسلطان.
نحن في أمس الحاجة إلى قيادة ربانية مجاهدة لنفسها ولعدوها، عاشقة لدينها وتاريخها، تعيد لنا تاريخ الأبطال من أمثال أبي عبيدة في قوته وإخلاصه وأمانته، وخالد في جرأته وإقدامه وشجاعته، وسعد في حكمته وصبره وصلابته، والمقداد في سيرته وتقدمه ومنزلته، وصلاح الدين في نصرته وعزته وإدارته، وقطز في تصدره وعلو همته وجهاده، وغيرهم الكثير والكثير.
نكبتنا الآن في قيادتنا التي زلت، وعن الصواب انحرفت وتخلت، وللباطل انحازت ووالت وتجلت، ماذا يفعل حكام المسلمين اليوم سوى الانبطاح للعدو، والتعري له، والقرب منه، والأخذ عنه، والخوف والرجاء منه، جعلت حياتها مرهونة بحياته، وقوتها من قوته.
ألا لا بارك الله في كل قائد لئيم لا يقدر حق من له حق وإن كان أمام الناس تقياً، ولعن الله كل مستبد متعجرف ولو كان للقرآن حافظاً تالياً، وهزم الله كل متصدر تعالى وتكبر وظلم ولو كان في الظاهر ولياً، وقاتل الله كل زعيم طاغية قاتل غشوم جهول عن نصرة الحق كسول وإن كان ذكياً.
سيرة العظماء تبقي بحسن الذكر والقدوة والعمل، لا بالجعجعة وعلو الصوت والدجل، اللهم إن كانت القيادة رزقاً منك للأمة فاجعل خير رزقك لنا في قيادتنا، وإن كانت القيادة هبة منك فاجعل خير هبتك لنا قيادة تعز بها دينك، وترفع بها شريعتك، وتعلي بها قدر أمة حبيبك المصطفي صلي الله عليه وسلم.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)