أكذوبة الإلحاد (24)
قصة إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنعام… وكشف أكاذيب أهل الشرك والإلحاد
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تعدّ قضية الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة؛ هي الأشهر في القرآن الكريم، لا سيما في القرآن المكي الذي كان جلّ تركيز آياته على هذه القضية الحساسة، التي أسرف بها كثير من العرب في تلك الحقبة التاريخية. فهي قضية يجب أن يعنى بها علماء الأمة في كل العصور سيراً على المنهج القرآني العظيم، خصوصاً في المجتمعات التي فشا فيها أنواع من الشرك وطرائق من الإلحاد لم تكن في العصور السابقة تشكّل ظاهرة خطيرة كما هي الآن.
والقرآن الكريم ركز في مواضع منه – في سياق ذكر قصص الأنبياء – على علاج هذه الظواهر إما إجمالا أو تفصيلا، ومن القصص التي عالجت بعض قضايا الشرك القديمة بشيء من التفصيل؛ قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام. وشخصية سيدنا إبراهيم – عليه السّلام – حازت مكاناً بارزاً في الخطاب القرآني؛ فهي شخصية مركزية بين جميع الرسل الذين ذكروا في القرآن الكريم، ولعلَّ هذا الاهتمام بشخصيته يرجع إلى مكانتها لدى مختلف الطوائف والنّحَل، فالمشركون وأهل الكتاب من اليهود والنصارى يعترفون بفضله ويتشرّفون بالانتساب إليه. (رسالات الأنبياء “دين واحد وشرائع عدة”، عبد الرحمن حللي، ص73)
فهو واحد من أهم الشخصيات في التاريخ الديني، حتى إن علم الأحافير لم ينحصر في البحث عن تاريخ أحد كما بحث عن تاريخ إبراهيم عليه السّلام.
وجاءت في سورة الأنعام مشاهد من قصة إبراهيم – عليه السّلام – في مناظراته لعبدة الكواكب والقمر والشمس، وهي القصة الوحيدة في سورة الأنعام التي اهتمّت بردِّ الشبهات وإقامة الحجج لإلزام المشركين، بل لإلزام أولئك الذين يجحدون الحق في شأن الألوهية والرسالة في كل زمان ومكان، ومن هنا فليس عجيباً أن لا يذكر في سورة الأنعام أي قصة من قصص الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام- ولكن الخبر الوحيد الذي ذكر في هذه السورة هو خبر إبراهيم عليه السّلام، وقد ذكرت هذه القصة من الجهة التي يعالجها موضوع السورة، وهو إقامة البراهين على وحدانية الله تبارك وتعالى، وإبطال كل ما يُعبد من دونه، هكذا جاءت قصة إبراهيم – عليه السّلام – في سورة الأنعام، وهي إقامة الحجة على أولئك الذين يدّعون أنهم على دين إبراهيم عليه السّلام، ومع ذلك يعبدون الأصنام ويستهجنون أمر التوحيد، وهكذا بدأت قصة إبراهيم – عليه السّلام – فهو ينكر على أبيه آزر أن يتخذ أصناماً آلهة، إن هذا لضلال مبين يتّبعه آزر وقومه. (قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص289)
مثَّلت قصة إبراهيم الخليل – عليه السّلام – في سورة الأنعام أحداثاً متّسقة مع موضوع السورة الكريمة؛ وذلك لأن سورة الأنعام هي سورة الحجج والأدلة على العقيدة الصحيحة، وكما قلت من قبل، أنّها القصة الوحيدة في قصص الأنبياء التي ذكرت في هذه السورة، وفيها الحجّة الدّامغة على أولئك الذين انحرفوا عن ملّة إبراهيم – عليه السّلام – فجلبوا الأصنام للبيت الذي بناه.
إنَّ هذه الآيات الكريمة -كما حدثتنا عنها سورة الأنعام – نجد في آخرها بعد ذكر الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام- بياناً شافياً كافياً تاماً كاملاً، بأن أولئك هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، وهناك من أبى من أقوامهم إلا الكفر، ولكن هناك من أكرمهم الله بالإيمان، وهم الذين هداهم الله تبارك وتعالى، فبهداهم يُقتدَى ويُهتدَى.
ولا بُدَّ أن ننتبّه هنا إلى أنه قد وردت أقوال كثيرة في تفسير هذه الآيات يُفهم منها أن إبراهيم – عليه السّلام- كان جاداً حينما قال عن كل واحد من هذه الكواكب هذا ربّي، قاله على سبيل الإخبار والاعتقاد؛ لأنه لم يكن معروفاً شيئاً غير هذا، وإننا نُجِل شيخ الحنفاء وأبا الأنبياء (عليه الصلاة والسلام) عن مثل هذه الأقوال، وهي مما حُشيَت بها الكتب – للأسف – فينبغي أن نبتعد بها عن الآيات الكريمة تفسيراً وشرحاً، فهو من قال: {هَذَا رَبِّي} منكِراً على قومه ساخراً منهم . (قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص291)
ونحن نرى الخليل – عليه السّلام – يستدرجهم إلى التفكير فيما يعبدون، ويترقّى معهم من معبود إلى آخر أعظم منه وأروع، فمال من معه من القوم إليه وأنصتوا لقوله ثلاث مرات: {هَذَا رَبِّي} {هَذَا رَبِّي} {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ}، وهو يُشير مرة إلى الكوكب، ومرة إلى القمر، ومرة ثالثة إلى الشمس، ولكننا نراه – عليه السّلام – في كل مرة يكشف لهم عيباً في هذه الأرباب التي تغيب، فهي لا تصلح أن تُعبد، وعن طريق خفيّ ينتفض – عليه السّلام – للقوم في كل مرة ما قاله عن كل كوكب، ويقرر أنَّ كلاً من الكوكب والقمر والشمس لا يمكن أن يكون ربّاً، ولا يصلح أن يُعبد مع الله عزّ وجل، وفي ختام المناظرة يُعلن الخليل – عليه السّلام – أنه بريء مما يشركون، ويقرر أنه لن يوجه وجهه، ولن يتوجه بالعبادة إلا إلى الله وحده الذي فطر السماوات والأرض، فهو الدائم الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو ولا ربّ سواه ولا شريك له.
فحذار حذار أيّها القرّاء الأكارم أن يظن ظانّ أن سيدنا إبراهيم عليه السّلام كان في حِيرة من أمره أو في شكّ من ربّه، وكيف تقع منه حيرة، وقد آتاه الله رشده من قبل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} ]الأنبياء:51[!؟
وكيف يحدث عندك شكّ، وقد أراه الله ملكوت السماوات والأرض، فزاد عنده اليقين رسوخاً، وهو ما جاء في مطلع الآيات: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ]الأنعام:75[!؟
وقد جاء في تفسير البحر المحيط قول مجاهد (رحمه الله): “فُرجت لإبراهيم السماوات والأرض، فرأى ببصره الملكوت الأسفل، أيّ: أظهر الله سبحانه وتعالى للخليل – عليه السّلام – بعض أسرار ملكوته الدالة على ربوبيته ووحدانيته، وليكون من أهل اليقين الراسخين في الإيمان”. (البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان الأندلسي، 4/165).
إذ لا يعقل أيها الأخوة العقلاء أن يحتار الخليل إبراهيم – عليه السّلام – في شأن العقيدة، فيقول حقيقة لكوكب أو قمر أو شمس: {هَذَا رَبِّي}، وإن قوله هذا إنما هو طريقة عقلية في الاحتجاج وبراعة منطقية في المناظرة، يفترض صحة ما يقوله خصمه؛ ليستنتج من ذلك الدليل على بطلانه، وإنّ من أبلغ الحجج وأقوى البراهين أن توافق الخصم في العبارة على طريق الإلزام.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين “، للدكتور علي محمد محمد الصلابيّ.
المراجع:
- رسالات الأنبياء “دين واحد وشرائع عدة”، عبد الرحمن حللي، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، ط1، 2015م.
- قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، دار النفائس للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط 3، 1430هـ، 2010 م.
- البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان الأندلسي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1420 ه.
- من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين (آدم ونوح وإبراهيم)، محمد فؤاد سندي، مكتبة الملك فهد الوطنية، السعودية، ط1، 2002م.
- صناعة الحوار “مقاربة تداولية جمالية لحوارات سيدنا إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم”، حمد عبد الله السيف، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، لبنان، ط1، 2015م.
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.