أكذوبة الإلحاد (23)
عبر وعظات من قصة زعيم الملحدين مع موسى عليه الصلاة والسلام
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
بعدما عرض الله سبحانه وتعالى لنا قصة موسى عليه السلام في سورة الشعراء مع فرعون وملئه، وكيف أمره بالذهاب إليه، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، مع ذكر الأدلة والبراهين التي تثبت وجود الله سبحانه، وأنه الخالق الرازق مالك الملك، ولكن فرعون استكبر وتجبّر، وأنكر وجود الله سبحانه، وأعلن الحرب على موسى عليه السلام، فأدركه عقاب الله الشديد، كما مر معنا في المقالات السابقة. ثم يختم الله سبحانه القصة بما فيها من عبر وعظات للجيل اللاحق، فقال سبحانه:
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)﴾ ]الشعراء:٦٧-٦٨[.
- ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:
- ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾: أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة؛ ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتهويل أمر المشار إليه وتفظيعه كتنكير الآية في قوله: ﴿لَآيَةً﴾ أي: آية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه السلام، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويتجنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله كيلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك، أو إن فيما فصل من القصة من حيث حكايته عليه الصلاة والسلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام. (تفسير أبو السعود؛ إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ٦/٢٤٦-٢٤٧)
- ﴿لَآيَةً﴾: وهي الأمر العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة، فيثير إعجاب الناس ويستوجب الالتفاف إليه والنظر فيه والآية تقنع العقل بأن الله مجريها على يدي موسى عليه السلام وتدل على صدق رسالته التي جاءت بوحي من الله، وهي مسألة فوق طاقة البشر. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٨٢).
- ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: وهذا يدل على شدة عنادهم وقسوة قلوبهم، وأن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا، كما يحكي القرآن عنهم: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ ]الأعراف:١٣٨[.
سبحان الله، لقد كفروا بالله وما تزال أقدامهم مبتلّة من عبور البحر، وما زالوا في نشوة النصر وفرحة الغلبة، قال أبو زهرة في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: هذه الجملة تدل بظاهر اللفظ أن الأكثرين لم يؤمنوا، فلم تأخذهم هذه الآية الباهرة إلى الإيمان واليقين، وتدل بمضامينها بأن المصريين من آمن واتبع موسى عليه السلام. (تفسير أبو زهرة،١٠/٥٣٦٢).
استأنف الله تعالى القول ببيان قدرته الظاهرة وحكمته الباهرة فقال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ أي أن الله تعالى الذي خلقك وقام بربوبيتك لحمايتك وهو الحي القيوم.
- ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: الذي له العزة كلها؛ عزة القوة وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته. (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، ص٤٠٦)
- ﴿الرَّحِيمُ﴾: لأنه رب الخلق أجمعين، يرحمهم إن تابوا ويقبلهم إن رجعوا إلى ساحته.
وإن الرب يستحيل أن يكون إلا رحيماً، فرحمته من لوازم ذاته ولذلك كتب على نفسه الرحمة. (ولله الأسماء الحسنى، ص١٢٦)
والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان:
الأول: رحمة ذاتية موصوف بها سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه كسائر صفاته، يجب إثباتها لله كما قال سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ]الأعراف:١٥٦[، وقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ ]الأنعام:١٣٣[.
الثاني: رحمة مخلوقة أنزل الله -عزّ وجل- منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق وأمسك عنده تسعاً وتسعين، رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة كما جاء في قوله ﷺ: “إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة”.
ومن ذلك أيضاً ما جاء في قوله ﷺ: أن الله -عزّ وجل- قال عن الجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وهذه الرحمة من باب إضافة المفعول إلى فاعله، وهذه الرحمة ليست صفة لله تعالى، بل هي من أثر رحمته، والتي هي صفته الذاتية الفعلية.
ورحمة الله عزّ وجل لعباده نوعان:
- رحمة عامة:
وهي لجميع الخلائق بإيجادهم وترتيبهم ورزقهم وإمدادهم بالنعم والعطايا وتصحيح أبدانهم وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم ومساكنهم، ولباسهم ونومهم، وحركاتهم وسكناتهم وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى، قال الله عزّ وجل: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ ]غافر:٧[.
- رحمة خاصة:
وهذه الرحمة لا تكون إلا للمؤمنين فيرحمهم الله -عز وجل- في الدنيا بتوفيقهم على الهداية والصراط المستقيم ويثيبهم عليه، ويدافع عنهم وينصرهم على الكافرين ويرزقهم الحياة الطيبة ويبارك لهم فيما أعطاهم، ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب ويغفر لهم ذنوبهم ويكفرها بالمصائب ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخولهم الجنة ونجاتهم من عذابه -عزّ وجل-، وإن هذه الرحمة هي التي جاء ذكرها في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ ]الأحزاب:٤٣[.
وقد تجلت رحمة الله عزّ وجل في رحمته الخاصة بأوليائه في قصة موسى عليه السلام وتوفيقهم وتسديده، وحفظهم، وتيسير أمورهم، وإجابة دعائهم، ونصرهم على أعدائهم الكافرين وتمكينه لهم في الأرض، وإعانتهم وإغاثتهم في قضاء حوائجهم كما في جلب الرزق والمطر وكشف الكروب وخرق السنن الكونية لهم وإظهار المعجزات على يد موسى عليه السلام. (ولله الأسماء الحسنى، ص١٢٩)
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
- موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي.
- السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث؛ دروس وعِبر، دمشق، دار ابن كثير، ط9، 2019م
- التيسير في أحاديث التفسير، الناصري.