أكذوبة الإلحاد (21)
إهلاك الظلمة واستبدالهم.. سنة لا تتغير ولا تتبدل
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
بعد أن عرضنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة اللقاء المطوّل الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون والملأ، والذي كان موسى مع أخيه هارون يدعون المملكة الفرعونية وعلى رأسها فرعون إلى الله تعالى، والتعريف به من خلال الآيات الكونية المشاهدة، ولكنه استكبر وطغى واتهمه بالسحر والكذب، فأقيم لقاء يجمع موسى مع كبار السحرة كبرهان منه على قوة حجته وصدق آياته، فانتصر على إثر هذا اللقاء الحق وزهق الباطل، وآمن السحرة ورجعوا إلى الفطرة التي كان يدعو إليها موسى عليه السلام، ولكن فرعون طغى وتجبر ووعدهم بإنزال أشد العذاب، وأقسى العقوبات.
١-قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ ]الشعراء:٥٢[.
- ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى﴾ الوحي لغة: إعلام بخفاء، وشرعاً: إعلام من الله لرسول من رسله بمنهج خير لخلقه. (تفسير الشعراوي، (١٧/١٠٥٧٣).
ومن الوحي المطلق قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ ]النحل:٦٨[، وقوله سبحانه: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ ]الأنعام:١٢١[، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ ]القصص:٧[، فالوحي العام إذن لا نسأل عن الموحي والموحى إليه أو موضوع الوحي، فقد يكون الوحي من الشيطان، والموحى إليه قد يكون الأرض أو الملائكة أو الحيوان على خلاف الوحي الشرعي فهو محدد ومعلوم.
- ﴿أَنْ أَسْرِ﴾ من الإسراء وهو السير ليلاً، يقال: سرى وأسرى، لغتان. (التدبر والبيان، المغراوي، ٢٤/٣٣٤)
- ﴿بِعِبَادِي﴾: وعبادي جمع عبد والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم والتعبير بعبادي فيه إشارة على أن الله عامل على إنقاذهم من فرعون وقومه، وأنه منقذهم كما شاء سبحانه، وأن نصر بني إسرائيل على الله تعالى وأنهم سينصرون.
- ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ يعني سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم، لقد أوحى الله إلى موسى أن يسري بعباده أن يرحل بهم ليلاً بعد تدبير وتنظيم ونبأه بأن فرعون سيتبعهم بجنده وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٧).
٢- قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)﴾ ]الشعراء:٥٣-٥٦[.
أمر فرعون بالتعبئة العامة وأرسل في المدائن حاشرين، لقد أرسل فرعون في المدائن حاشرين مرتين:
المرة الأولى: أمر بحشر السحرة من مختلف المدائن، وإحضارهم إلى العاصمة ليواجهوا موسى عليه السلام، وورد هذا الحشر في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)﴾ ]الشعراء:٣٦-٣٧[، فكان الحشر في المرة الأولى حشر سحره فقط.
المرة الثانية: عند أمر بحشر الجنود من مختلف المدائن، وتجميعهم في العاصمة، ليلحقوا ببني إسرائيل الخارجين ويُلقوا القبض عليهم. (القصص القرآني، ٣/٧٩).
أخبر فرعون جنوده في المدائن بأن بني إسرائيل ﴿لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ ومعنى شرذمة: طائفة قليلة، قال الراغب: الشرذمة: الجماعة المنقطعة وهي مأخوذة من قولهم: ثواب شراذم أي: متقطع.
في كلام فرعون لجنوده عن بني إسرائيل، تقليل وتحقير وتهوين لبني إسرائيل وهذا التهوين ورد في اللفظين “شرذمة” و “قليلون”، ومن خلال معنى ﴿لَشِرْذِمَةٌ﴾ كما أوردناه عن الإمام الراغب الأصفهاني نعرف أن “شرذمة” في الآية لا يُراد بها قلة بني إسرائيل لأن القلة لها لفظ خاص هو ﴿قَلِيلُونَ﴾، إنما أراد بكلمة “شرذمة” أن بني إسرائيل جماعة متقطعة متشرذمة متفرقة، أي أنهم شراذم متقطعة لا أصل لها ولا وطن ولا جامع يجمعها، وأنهم شراذم متفرقون فيما بينهم وأنهم تجمعوا على موسى.
وهؤلاء الشراذم ليسوا كثيرين ولا يشكّلون أغلبية، إنهم قليلون، والناس ليسوا معهم ولا يؤيدونهم ولو كانوا على حق وصواب لما كانوا شرذمة قليلين وقد وقع فرعون في تناقض ظاهر وهو لا يدري، فبينما وصف بني إسرائيل بأنهم شرذمة قليلون، وصفهم بأنهم غائظون له ولملئه ولقومه. (القصص القرآني، ٣/٨٠).
والمعنى أنهم أغاظوهم جميعاً وملئوا قلوبهم غيظاً عليهم، وبسبب مخالفتهم لهم في دينهم، وخروجهم على نظامهم وحكمهم وتحرّرهم من سيطرتهم واستعبادهم، وهذا اعتراف من فرعون بأن بني إسرائيل خطيرون مزعجون له ولنظامه ودولته، يشكلون عليهم خطراً مباشراً، فإذا كانوا “شرذمة قليلين” لا وزن لهم ولا قيمة، فكيف يكونون خطيرين على دولة كبيرة؟
وإذ فرعون في هجومه على بني إسرائيل وفي تحذير قومه منهم فقال في مرسوم التعبئة العامة عنهم: (القصص القرآني، ٣/٨٠).
والمعنى: نحن جميعاً حذرون منهم، حاذرون لهم، منتبهون لمشكلتهم، مدركون لخطرهم، حريصون عل التخلص منهم.
و ﴿حَاذِرُونَ﴾: مستيقظون لمكائدهم، محتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور، إنها حيرة الباطل المتجبر دائماً في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين. (القصص القرآني، ٣/٨٠).
وقبل أن يعرض المشهد الأخير، يعجل السياق بالعاقبة الأخيرة من إخراج فرعون وملئه مما كانوا فيه من متاع ووراثة بني إسرائيل المستضعفين.
4- قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾ ]الشعراء:٥٧-٥٩[.
- قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فأخرجنا فرعون وقومه من بساتين وعيون ماء وكنوز ذهب وفضة ومقام كريم، قيل: إن ذلك المقام الكريم: المنابر.
وقوله ﴿كَذَلِكَ﴾ يقول: هكذا أخرجناهم من ذلك كما وصفت لكم من هذه الآية والتي قبلها ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا﴾ يقول: وأورثناها تلك الجنات التي أخرجناهم منها والعيون والكنوز والمقام الكريم عنهم بهلاكهم بني إسرائيل. (تفسير الطبري، ١٩/٧٨).
- قال السعدي: فخرج فرعون وجنوده في جيش عظيم ونفير عام، لم يتخلف منهم سوى أهل الأعذار الذي منعهم العجز.
- قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي: بساتين مصر وجنانها الفائقة، وعيونها المتدفقة، وزروع قد ملأت أراضيهم، وعمرت بها حاضرتهم بواديهم.
- ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾: يعجب الناظرين، ويلهي المتأملين تمتعوا به دهراً طويلاً، وقضوا بلذاته وشهواته عمراً مديداً على الكفر والعناد والتكبر على العباد والتيه العظيم.
- ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا﴾ أي: هذه البساتين والعيون والزروع والمقام الكريم “بني إسرائيل” الذين جعلوهم من قبل عبيدهم وسخروا في أعمالهم الشاقة، فسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء وينزعه عمّن يشاء ويعزّ من يشاء بطاعته ويذل من يشاء بمعصيته. (تفسير السعدي، ٣/١٢٢٠).
- قال محمد متولي شعراوي: ﴿كَذَلِكَ﴾: أي الأمر كما أقول لكم وكما وصفت.
- ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل، وهنا قد يسأل سائل: كيف وقد ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها، ولم يأخذوا شيئاً من هذا النعيم؟
قالوا: المعنى أورثهم الله أرضاً مثلها وقد وعدهم بها في الشام.
- وقال القرطبي: في قوله:﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل، قال الحسن وغيره: رجع بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه، وقيل: أراد بالوراثة ما استعاروه من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى. (الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، ١٣/٩٩).
لا شكّ أن الظلم من أهم أسباب هلاك الأمم والشعوب والدول والحضارات، وبه بدأ هلاك المملكة الفرعونية، وبه تهلك الأمم وتباد الحضارات؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾]هود:١١٧[. وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾]هود:١٠٢[.
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
- موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي.
- السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث؛ دروس وعِبر، دمشق، دار ابن كثير، ط9، 2019م
- التيسير في أحاديث التفسير، الناصري.