أكذوبة الإلحاد (20) | بعد سطوع حقائق الإيمان.. فرعون يتهدد ويتوعد!
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
بعد أن تمّ التحدي الأكبر بين موسى (عليه السلام) وفرعون والملأ وانتصر فيه موسى عليه السلام – بفضل الله ورحمته – حصل ما شكّل صدمة كبرى لدى فرعون والمتجبرين من أتباعه؛ وهي قضية إيمان السحرة، التي ذكرنا تفاصيلها في المقال السابق، فتوعدهم فرعون – عقوبة لهم –بإنزال أشد أنواع العذاب، وأقسى العقوبات في حقهم، فقال:
قال تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)﴾ ]الشعراء:٤٩-٥١[.
فالرجل غاضب لكبريائه المجروح بسبب مبادرة السحرة إلى الإيمان بالله تعالى من غير استئذانه، فهو لا يشك في أن ما رآه السحرة موجب للإيمان فهو لا يشكك في ذلك، لكن المسألة كلها ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ فما يزال حريصاً على ألوهيته وجبروته حتى بعد أن كشف أمره وظهر كذبه، وآمن السحرة بالإله الحق، ثم أراد أن يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد إنه هزم وضاعت هيبته.(تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٧١).
- فقال: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر، لكن فرعون يأخذها ذريعة لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدم وألوهيته التي ضاعت، ثم يهددهم بأسلوب ينم عن اضطرابه وأنه فقد توازنه واختل حتى في تعبيره حيث يقول. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٧٢).
- ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي: تعلمون وبال تآمركم، وسوف تدل على أن المستقبل مع أنه لم يؤخر تهديده لهم بدليل أنه قال: (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٧٢).
- ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يعني: لأقطعن اليد اليمنى والرجل اليسرى، ولأصلبنكم على جذوع النخل.
وهكذا شرع فرعون يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل وهذا دليل على الحماقة التي يرتكبها كل طاغية حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة بلا تحرج من قلب أو ضمير وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول، فماذا كانت كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور؟ فماذا كانت كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجد؟ إنه القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل بالطغيان، القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٧).
- ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)﴾:
وضح السحرة المؤمنون سبب انتقام فرعون منهم، وواجهوا تهديده وتعذيبه وانتقامه بالإيمان والصبر والثبات والإقبال على الله والتوكل عليه، والرغبة فيما عنده ولننظر على ما قالوه لفرعون جواباً على تهديده.
- ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾: الضير هو الضرر الشديد، ولم ترد كلمة ﴿ضَيْرَ﴾ في غير هذا الموضع من القرآن، ومعنى قولهم: ﴿لَا ضَيْرَ﴾: إن تهديدك لنا بالتقتيل والتصليب لا يضيرنا، إنه قد يضرنا، لكنه لا يضيرنا.
وفرق بين “الضرر” وبين “الضير”:
الضرر هو ما يصيب الإنسان من سوء، قال الإمام الراغب: “الضرر” سوء الحال، إما في نفسه، لقلة العلم والفضل والعفة، وإما في بدنه لذهاب جارحة، وإما في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه.
إن فرعون قد يوقع بهم الضر -بإذن الله- وقد يقطع أطرافهم ويقضي على أبدانهم، وهذا ضرّ واضح، لكنه ضر مادي خارجي، يصيب الجوارح والأطراف والأبدان، ولا يصل إلى القلوب والأرواح والمشاعر، تبقى قلوبهم وأرواحهم في مناعة ولهذا يبقون ثابتين على الحق والإيمان، يواجهون كل ما يصيبهم من ضرّ ظاهري بصبر وتحمّل وثبات.
وأما الضير، فهو تأثر قلوبهم وأرواحهم بالضرر المادي الخارجي المصوب على أبدانهم، وهذا التأثر يدعوها إلى التراجع والانتكاس والارتداد، وترك الحق والرجوع إلى الباطل، فإن حصل هذا فهو ضير، ولهذا قالوا لفرعون: ﴿لَا ضَيْرَ﴾ أي: بإمكانك أن تعذبنا كما تشاء، وأن توقع بأبداننا الضر الشديد كما تشاء لكن هذا لن يكون ضيراً، ولن تصل إلى أرواحنا وقلوبنا ولن تفتّ في هممنا وعزائمنا. (القصص القرآني، ٢/٤٧٣)
كان موقف السحرة بعد إيمانهم برب العالمين رب موسى وهارون موقفاً عظيماً عبروا فيه على قوة الإيمان بالله وحسن التوكل عليه فبالنسبة لهم:
- لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف.
- لا ضير في التصليب والعذاب.
- لا ضير في الموت والاستشهاد.
- لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، وليكن في هذه الأرض ما يكون. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٧)
- لا ضير علينا أن قتلتنا لأننا سنرجع إلى الله ربنا وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة، فكأنك فعلت فينا جميلاً وأسديت لنا معروفاً إذ أسرعت بنا إلى هذا اللقاء وما تظنه في شر هو عين الخير، لذلك فهم الشاعر خبيب بن عدي هذا المعنى: فقال وهو يواجهه الموت ويستعد للشهادة، وسنّ الركعتين عند القتل، وقال له أبو سفيان: أيسرّك أن محمداً عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، ثم قتل وصلبوه وقبل استشهاده قال أبيات عظيمة منها: (السيرة النبوية، ٢/١٣٤).
ولست أبالي حين أقتل مسلمـاً
على أي شقّ كان في الله مصرعي
وذلك ف ذات الإله وإن يشـأ
يبــارك على أوصال شلو ممزع
فلسـت بمبـدٍ للعدو تخشعـاً
ولا جزعاً إني علـى الله مرجعي
كان حديث السحرة بعد إيمانهم في غاية الإيمان وقمة الاعتقاد فيما عند الله وحرصهم على سلامتهم في قدومهم على الله.
فبعد أن كانوا سحرة كفرة يقسمون بعزة فرعون، انقلبوا إلى مؤمنين بررة يرجون من الله العفو والعون، فسبقوا إلى الإيمان من حضر موقف التحدي والرهان وإذا كان جوابهم قد جاء في هذه السورة موجزاً مجملاً فقد سبق في سورة طه مطولاً ومفصلاً: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣)﴾ ]طه:٧٢-٧٣[. (التيسير في أحاديث التفسير، الناصري، ٤/٣٧١-٣٧٢)
قال الألوسي: وقولهم: ﴿أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ويحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من أتباع فرعون، أو أول المؤمنين من أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم، ولعل الإخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالإيمان فهو إخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه، كذا قيل وقيل: أرادوا أول من أظهر الإيمان بالله تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحاً بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد بني إسرائيل لأنهم كانوا في البحر، كانوا مؤمنين قبلهم، إما لعدم علم السحرة بذلك، أو لأن كلاً من المذكورين لم يظهر الإيمان الله تعالى ورسوله عند فرعون كفاحاً بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل. (روح المعاني، ١٩/٨٠-٨١).
واختلف في فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولاً؟ والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى: ﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ ]القصص:٣٥[. وقد قال ابن عاشور: والقرآن لم يتعرض هنا ولا في سورة الشعراء ولا في سورة طه، للإخبار عن وقوع توعدهم به فرعون، لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنة وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما في سورة النازعات: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ ]النازعات:٢٦[، فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية. (التحرير والتنوير، ٩/٥٦-٥٧)
إن إيمان السحرة يدل على روعة نور الإيمان بعدما يتغلغل في القلوب والأفئدة والصدور والضمائر، ويفيض على الأرواح وينعش أشواقها الإيمانية، وهكذا نرى الإيمان برب العالمين يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين، ويملأ القلوب باليقين والقناعة الراسخة فيما عند الله عزّ وجل، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير وزهيد.
هنا يسدل الستار على هذه الروعة الغامرة، لا يزيد شيئاً ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق، ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب، فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين وفرعون ويجمع جنوده أجمعين. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٧).
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
- موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي.
- السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث؛ دروس وعِبر، دمشق، دار ابن كثير، ط9، 2019م
- التيسير في أحاديث التفسير، الناصري.