أكذوبة الإلحاد (15) الطغيان الفرعوني على موسى – عليه السلام – بعد ظهور الحجج والبينات
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ذكرنا في عدّة مقالات سابقة من سلسلة (أكذوبة الإلحاد) الحوار بين موسى عليه السلام وفرعون كما عرضَته سورة الشعراء، والذي يدور الكلام فيها حول التعريف بالربّ الخالق بأبلغ الأدلة العقلية المقنعة التي تلامس الفطر السوية السليمة والقلوب الصحيحة المستقيمة، والمشاهدة لكل ذي باصرة، وقد كان الرد الفرعوني متوجهاً نحو التكذيب بالعناد واللجاج فلما أخبره موسى عن ربه وعرفه به بدأ فرعون بالمرواغة والهروب من المحاورة إلى التهديد بالسجن والعذاب الأليم.
قال تعالى: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ ]الشعراء:٢٩[
هذه هي الحجة وهذا هو الدليل، التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين، فليس السجن عليه ببعيد وما بالإجراء الجديد، وهذا هو دليل العجز وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع، وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد.
ولكن تهديد فرعون لم يثن موسى عن إيمانه ودعوته ولم يقذف الخوف في قلبه، فقد كان يوقن أن الله معه، ويسمع ويرى معه، يحفظه ويحميه، ولهذا بقي ثابتاً على الحق رغم التهديد والوعيد وكذلك لم يخرجه تهديد فرعون عن هدوئه وحكمته وموضوعيته ولهذا ردّ على تهديده ونزقه وغلظته بقوله: (القصص القرآني، ٢/٤٢٠)
قال تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ ]الشعراء:٣٠[.
وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إحراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى، ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته وهو يدعي أنه مجنون، ومن ثم وجد نفسه مضطراً أن يطلب منه الدليل. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٣)
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)﴾ ]الشعراء:٣١-٣٣[.
انظر إلى تعارض فرعون مع نفسه، فكان عليه ساعة أن يسمع من موسى هذا الكلام أن يصر على سجنه، لكن الحق -تبارك وتعالى- يريد أن يظهر حجته، فيجعل فرعون هو الذي يطلبها بنفسه: ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ]الشعراء:٣١[، وما كان لموسى أن يأتي بآية إلا أن يطلبها منه فرعون.
إلقاء العصا له في القرآن ثلاث مراحل؛ الأولى: هي التي واكبت اختيار الله لموسى ليكون رسولاً حين قال له: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ ]طه:١٧[.
قال الشعراوي: إن موسى عليه السلام أطال في إجابة هذا السؤال لحرصه على إطالة مدة الأنس بالله عز وجل، فقال: ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ]طه:١٨[، فالعصا في نظر موسى -عليه السلام- عود من الخشب قريب عهده بأصله، كغصن في شجرة، لكنها عند الله لها قصة أخرى: ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠)﴾ ]طه:١٩-٢٠[.
- ﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ ]طه:٢١[.
كانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلام ليألف العصا على هذه الحالة، وكأن الله تعالى أراد لموسى أن يجري هذه التجربة أمامه ليكون على ثقة من صدق هذه الآية فإذا ما جاء لقاء فرعون ألقاها دون خوف وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة، إذن: كان الإلقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته، ثم كان الإلقاء للمرة الثالثة أمام السحرة. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٦١)
ومعنى ﴿ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ يعني: بيِّن الثعبانية، فيه حياة وحركة، ﴿ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾: يعني واضح للجميع، لأنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويخيَّلون للناس مثل هذه الأشياء، ويجعلونها تسعى وتتحرك ولم تكن عصا موسى كذلك، إنما كانت ثعباناً مبيناً واضحاً وحقيقياً لا يشك في حقيقته أحد، والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد السياق يسميها مرة ثعبان ومرة حية ومرة جاناً، لماذا؟
قالوا: لأنها جمعت كل هذه الصفات، فهي في خفة حركتها كالجان وفي شكلها المركب كأنها حية وفي التلوّي كأنها ثعبان، والجان فرخ الحية.
وهذه الآية “العصا” تثبت أن الألوهية والربوبية لا تكون إلا لله، فالله الخالق هو الذي جعل الحياة تدب في العصا الخشبية اليابسة، فتتحول إلى ثعبان وهو الذي يسلبها الحياة بعد ذلك ويعيدها خشبة يابسة كما كانت. (القصص القرآني، ٢/٤٢٢)
﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ ]الشعراء:٣٣[.
أيّ: نزع موسى يده من تحت إبطه بعد أن أدخلها فيه، فإذا هي بيضاء بياضاً منيراً متلألئاً تجذب إليها أنظار الناظرين، ولا شك أن فرعون وحاشيته قد بهروا بسلطان المعجزتين ولكن عنادهم جعلهم يخفون تأثرهم وانفعالهم، ويظهرون غير ما يبطنون. (التفسير الموضوعي، (٦/١٥٦)
إن العصا واليد آيتان بينتان على نبوة موسى عليه السلام أيضاً، فالله هو الذي أجرى على يديه معجزة العصا ومعجزة اليد، وهذا تصديق عملي من الله لموسى في دعوى النبوة، وشهادة فعلية من الله له أنه نبي رسول عليه السلام. (القصص القرآني، (٢/٤٢٢)
وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها، فأسرع يقاومها ويدفعها، وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق القوم من حوله ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة. (في ظلال القرآن، (٥/٢٥٩٤).
المراجع:
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى عليه السلام كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: ” القصص القرآني” للشيخ صلاح الخالدي.
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
- التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، عبد الحميد محمود طهماز، دمشق، دار القلم، ط2، 1435ه/ 2014م.
- زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة (ت: 1394ه)، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت، 1393ه)، جدة، السعودية، مجمع الفقه الإسلامي، دار علم الفوائد، (د. ت).
- موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.