أكذوبة الإلحاد (13) الاستدلال بدليل الخلق على وجود الله سبحانه وتعالى
بقلم د. علي محمد الصلاّبي (خاص بالمنتدى)
توحي آيات سورة الشعراء، بأن الحوار بين فرعون وبين موسى كان في جلسة موسّعة حضرها الملأ من قومه والملأ هم كبار رجال دولته، الذين يتولون حكم الدولة باسمه، ويبدو أن فرعون حرص على أن يحاور موسى أمام الملأ من قومه، ليعرفهم على موسى ودعوته، ويبيّن لهم مدى خطورتها عليهم، وذلك ليُهيجهم عليه وينشطهم في حربه، فقال:
أولاً: قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ]الشعراء:٢٣[.
كان فرعون في لقائه الأول مع موسى عليه السلام وبعد طول سنين من الغياب يريد أن يتعرف على الله، لا ليؤمن به، لكن فكر وعقيدة موسى، وكأنه يقول لموسى: من ربكما؟ ما فعله؟ فقال له موسى: ربنا الخالق فهو الذي خلق كل شيء وهداه على حياته، وهنا في سورة الشعراء يقوله له: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟ أي: أي شيء ربك؟ وما هذا الكلام الذي تقوله؟ وما هذا الذي تدعو إليه؟ وما هذه الربوبية التي تتحدث عنها؟ وكأن سؤال فرعون عن الفكرة والمبدأ، ولهذا جاء بلفظ “ما” وهناك سأل عن الله، ولهذا جاء بلفظ “من”. (القصص القرآني، ٢/٤١٥).
إن فرعون قبَّحه الله يسأل في هذه الآية: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، والمستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، بل غير قابلة لأن تكون موضوع حديث. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٢)
وإنما كان أسلوبه أسلوب الجاحد المعاند المتكبر، فأجاب موسى عليه السلام إجابة هادية مرشدة بالصفة المشتملة على ربوبية الله عزّ وجل الدالة على أفعاله سبحانه وتعالى وآثار قدرته. (التفسير الموضوعي، ٦/١٥٤)
ثانياً: قال تعالى: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ]الشعراء:٢٤[.
وهو جواب يكافئ ذلك التجاهل ويغطيه، إنه رب هذا الكون الهائل، هذا الشعب وهذا الجزاء من وادي النيل وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما، وكذلك كان جواب موسى عليه السلام يحمل خلاف ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وهدفه توجيه النظر إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه فهو رب العالمين، ثم عقَّب على هذا التوجيه بما حكايته: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾، فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٢)
لقد كان موسى عليه السلام حكيماً في جوابه، فهو لم يوجهه إلى فرعون السائل، وإنما وجهه إلى الملأ الحاضرين وخاطبهم بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾، وذلك ليشركهم في الحوار وليلمس قلوبهم ويفتح آذانهم، ليعلموا أنهم المقصودون بالكلام والخطاب، فيفكرون فيما يسمعون وبهذا نقل موسى الحكيم الداعية الرسول الكريم المسألة من حوار ثنائي بينه وبين فرعون على ندوة عامة بينه وبين الملأ أجمعين. (القصص القرآني، ٤/٤١٥)
وكان جواب موسى عليه السلام أن الله عزّ وجل رب العالمين، وهو عالم السماوات وعالم الأرض وما بينهما، فهذه العوالم وغيرها من العوالم لله عزّ وجل، ولا يدعي أحد أنه رب السموات والأرض وما بينهما حتى فرعون نفسه لا يدّعي ذلك، فكل ما ادّعاه فرعون أنه رب لقومه وقومه جزء من البشر، والبشر جزء من العالمين، والعالمون جزء من السماوات والأرض، ولهذا ربط موسى في جوابه الحكيم بين الكلي المتمثل في السموات والأرض، والجزئي المتمثل في رعية فرعون وقال للملأ ربكم أيها القوم هو الله، وليس فرعون، لأن الله هو رب العالمين ورب السموات والأرض وما بينهما، بالطبع لم يزعم فرعون ذلك.
ولمس موسى الحكيم قلوب الملأ لمسة خفيفة، فقال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾؛ أيّ أن هذه مسألة لا تحتاج إلا إلى يقين، فلا يدعي مخلوق أنه رب السماوات والأرض وما بينهما، مهما بلغ من الكفر والاستكبار، فكيف تناقضون أنفسكم فتوقنون أن رب السماوات والأرض هو الله، وربكم أنتم هو فرعون؟ (القصص القرآني، ٢/٤١٦)
- ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾؛ وجه الدليل أن هذه السماوات وهذه الأرض وهذا الذي بينهما موجودات، حيث يقرر العقل ضرورة أن يكون لها موجد، وهذا الموجد لها أي الخالق لها هو ربها وهو مالكها، وهذا مما يراه كل عاقل هو أهل لأن يكون من أهل اليقين ودليل هذا هو الفطرة والعقل وليست في حاجة إلى كتاب.
وإن الأعرابي الذي كان يوصف بأنه يبول على عقبيه كان يقول: الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، أفلا يدلان على العليم القدير؟ وموسى يعني كل هذا بدليل قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ لأنه لا يعني أنهم موقنون، وإنما يعني إن كنتم مؤهلين لأن تكونوا موقنين وكانت فيكم الفطرة الإنسانية التي تستدل بالبعرة على البعير. (من حديث يوسف وموسى، ص٤٤٤)
- ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾؛ أي إن كنتم تريدون الحق الذي تسيرون عليه في طريق اليقين والإذعان. وقد قال محمد متولي شعراوي في تفسيره للآية الكريمة: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ]طه:٢٤[ لأن السماوات بما فيها من كواكب ونجوم وشمس وقمر وأفلاك وأبراج، والأرض وما فيها من بحار وأنهار وجبال وقفار ونبات وحيوان وإنسان، وقد وجدت قبل أن توجد أنت أيها الفرعون المدعي للألوهية والربوبية، إذن: ردّ عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه وقبل مولده.(تفسير أبو زهرة، ١٠/٥٣٤٧)
وكأن المعنى المراد لموسى عليه السلام: أخبرني يا فرعون يا من تدعي الألوهية، ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له؟ وإن كان هذا الكون كله بسمائه وأرضه لله رب العالمين، فماذا فعلت أنت؟ ولم يقتصر على السماوات والأرض، وإنما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا..﴾ من هواء وطير يسبح في الفضاء وكانوا لا يعرفون ما نعرفه الآن من أسرار الهواء وانتقال الصوت والصورة من خلاله، ففي جو السماء فيما بين السماء والأرض من الأسرار ما يستحق التأمل، ثم يتلطف معهم فيقول: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾؛ إن كنتم موقنين بأن هذه الأشياء لم يخلقها إلا الله. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٥٧)
- قال ابن كثير: في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ أيّ: خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه، وهو لا شريك له، فهو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوان ونيات وثمار وما بين ذلك في الهواء والطيور، وما يحتوي عليه الجو، الجميع خاضعون ذليلون.
- ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ أي: إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة. (تفسير القرآن العظيم، ٥/١٧٨-١٧٩).
قال فضيلة الدكتور سلمان العودة: وهذه دعوة للتدبر وللتأمل والنظر في ملكوت السماوات والأرض وهكذا فعل إبراهيم الخليل حين دعا النمرود بالطريقة ذاتها قال: إذا كان عندكم استعداد لليقين والإيمان فانظروا في ملكوت السماوات والأرض الذي يدلكم على الله، وآيات الله لا تحتاج إلى مختبر أو متخصص أو عالم فيزيائي أو فلكي، الأعرابي في صحرائه والمزارع في حقله، والإنسان البسيط في عقله ومستواه ومعلوماته يستطيع أن يهتدي إلى الله سبحانه وتعالى.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى عليه السلام كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي.
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
- التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، عبد الحميد محمود طهماز، دمشق، دار القلم، ط2، 1435ه/ 2014م.
- زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة (ت: 1394ه)، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت، 1393ه)، جدة، السعودية، مجمع الفقه الإسلامي، دار علم الفوائد، (د. ت).
- محاسن التأويل (تفسير القاسمي)، محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السّود، بيروت، دار الكتب العلمية، 2016م، (١٣/٩).
- موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.