أكذوبة الإلحاد (12) مقارنات بين حوار موسى عليه السلام مع فرعون في سورتي طه والشعراء
بقلم د. علي محمد الصلاّبي (خاص بالمنتدى)
بعد ما ردّ موسى على فرعون استصغاره له، وأنكر عليه تعبيد بني إسرائيل له، وبعدما سمع فرعون كلام موسى بأنه رسول من الله رب العالمين سأله عن ربه، لقد ذكرت سورة طه موجزاً لأول حوار بين موسى وبين فرعون حول الألوهية والأدلة على الوحدانية، أما سورة الشعراء فقد فصلت قليلاً في هذا الحوار وفي أسئلة فرعون وإجابات موسى عليه السلام عليهما
لدى المقارنة بين موضوع آيات سورة طه السابقة، وموضوع هذه الآيات من سورة الشعراء، فإننا نجد “تصعيداً” من فرعون في حواره مع موسى عليه السلام، ونرى ارتفاعاً وحدة في لهجة فرعون وهو يحاوره، ففي سورة طه طرح فرعون سؤالين بطريقة هادئة حيث قال: فمن ربكما يا موسى؟ وبعدما سمع جواب موسى أتبعه بسؤال آخر فقال: فما بال القرون الأولى؟ فتوسع موسى قليلاً في جوابه، أما في سورة الشعراء فقد كان فرعون محتداً في كلامه وحواره مع موسى عليه السلام.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)…} [الشعراء: 40]} [الشعراء: 23 – 40]
كان الحوار الذي سجلته آيات سورة طه – والتي تكلمنا عنها تفصيلا بثمانية مقالات سابقة من نفس هذه السلسلة – في جلسة خاصة حضرها موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وتوحي الآيات أنه لم يكن معهم أحد ولهذا كان كلام فرعون هادئاً في الظاهر، لأنه كان يريد أن يتعرف على موسى ودعوته ورسالته ومهمته فكان حاداً في البحث راغباً في المعرفة، لا ليؤمن ويهتدي ولكن ليكون صورة متكاملة عن موسى، ليعرف كيف يواجهه ويحاربه.
ويبدو أنه كَوَّن صورة متكاملة عن موسى عليه السلام، وتَعرّف على حقيقة دعوته وأبعاد رسالته في ذلك اللقاء الخاص الذي أعده له. (القصص القرآني، ٢/٤١٣)
وأما آيات سورة الشعراء، فإنها توحي بأن الحوار بينه وبين موسى كان في جلسة موسّعة حضرها الملأ من قومه والملأ هم كبار رجال دولته، الذين يتولون حكم الدولة باسمه، ويبدو أن فرعون حرص على أن يحاور موسى أمام الملأ من قومه، ليعرفهم على موسى ودعوته، ويبيّن لهم مدى خطورتها عليهم، وذلك ليُهيجهم عليه وينشطهم في حربه.
ولذلك “صعّدا” فرعون في حواره مع موسى، وعلت نبرته وارتفعت حدة كلامه، وتخلى عن هدوئه الظاهري المقطع الذي ظهر في حوار الأول، كما سجلته آيات سورة طه، ولجأ إلى أسلوب البطش والتهديد والوعيد والملاحظ أن موسى عليه السلام بقي متمتعاً بهدوئه في ذلك الحوار الثاني الموسع، كما بقي محافظاً على الموضوعية الحكمية في الحوار والجواب والكلام، ولم يخرجه تهديد فرعون عن موضوعيته وحكمته، كما أنه لم يضعف أمامه، ولم يخفه ولم يخش تهديده، وبقي يواجهه بعزةٍ وشجاعة وجرأة.
وتوحي آيات سورة الشعراء السابقة أن فرعون دعا الملأ من قومه إلى جلسة خاصة، وكان من كبار الحضور قارون وهامان، وذلك ليسمعوا ما سيقول لموسى وما سيقول موسى له. (القصص القرآني، (٢/414).
ولما بدأ الاجتماع طرح فرعون على موسى سؤاله: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، ولا ننسى أنّ فرعون كان ينكر وجود الله عناداً واستكباراً وكان يدّعي الألوهية والربوبية ويقول لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ و ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ وكان يعبد قومه له، وقد بين الدكتور الخالدي الفرق بين: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ في سورة طه و ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ في سورة الشعراء فقال: وفاجأه موسى عليه السلام في لقائه السابق به بأن الله هو رب العالمين وهو الذي بعثه رسولاً إليهم وقد سأله عن ربه في اللقاء السابق، فعرّفه موسى على بعض أفعال الله في الوجود وبعض آياته الدالة على وحدانية الله.
والآن في هذا اللقاء الموسع يسأل فرعون: ما رب العالمين؟ وسؤاله ليس سؤال الباحث عن الحقيقة الراغب في المعرفة، ولكنه سؤال المستنكر والمستغرب، وهو الذي يريد أن يبني عليه التهديد والوعيد ويثير عليه الآخرين بالتهييج، ونلاحظ أنه طرح سؤاله بصيغة “ما” الدالة على غير العاقل: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، ولم يستعمل بصيغة “من” المستعملة في العاقل.
كما نلاحظ اختلاف صيغة هذا السؤال عن صيغة السؤال السابق في اللقاء الأول، فهناك كان السؤال بلفظ “من” الذي ورد في قوله: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾؟ وجاء جواب موسى عليه: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، وهنا كان السؤال بلفظ “ما” ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. (القصص القرآني، ٢/٤١٤).
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى عليه السلام كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: ” القصص القرآني” للشيخ صلاح الخالدي.
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
- موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.