مقالاتمقالات المنتدى

أكذوبة الإلحاد (11) ثبات موسى (عليه السلام) بالحجة والبرهان أمام الطغيان الفرعوني

أكذوبة الإلحاد (11) ثبات موسى (عليه السلام) بالحجة والبرهان أمام الطغيان الفرعوني

 

 

بقلم د. علي محمد الصلاّبي (خاص بالمنتدى)

ذهب موسى عليه السلام بأمر الله إلى فرعون، ليدعوه إلى ربه ويعرّفه به، وليرسل معه بني إسرائيل، فكانت نظرة فرعون لموسى نظرة احتقار وازدراء، فلم يتعامل معه باعتباره رسولاً معه الحق، وإنما نظر إليه باعتباره إسرائيلياً من بني إسرائيل، وقومه أذلاء مهانون عبيد للمصريين، فمن هو حتى يواجه فرعون هذه المواجهة، ويخاطبه بهذه المخاطبة، ويدعوه إلى أن يتبعه ويسير معه؟، فقال له: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩)﴾، وحول هذه الآية الكريمة كان حديثنا في المقال السابق، وهنا قال موسى عليه السلام:

قال الله تعالى حاكياً كلاما موسى عليه السلام: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ ]طه:٢٠[.

أيّ: قال موسى: فعلت ما فعلت وأنا حينئذ من الضالين البعيدين عن الرسالة والنبوة، أو كنت من الجاهلين العاقبة ما فعلت فما كنت أحسب أني قاتله بمجرد وكزة واحدة، وما أراد عليه السلام ضلال أهل الجاهلية وكفرهم، فالأنبياء محظوظون منذ صغرهم من مثل هذا الضلال. (التفسير الموضوعي، ٦/١٥٣)

  • قال محمد أبو زهرة: فعلتها إذ ذاك وأنا من الضالين ضلالاً بريئاً، والضلال البريء يكون بالجهل والنسيان والبعد عن التأني والصبر، وأخذِ الأمور والاكتفاء في الدفاع عن الحق بأقل الأضرار التي ينزلها بالمعتدي، فنبي الله النقي يعترف بأنه لم يسلك طريق الجادة المستقيمة، وهذه حال موسى عليه السلام فيما يتعلق بالقبطي معترفاً بأنه ضال ضلالاً بريئاً. (تفسير أبو زهرة، ١٠/٥٣٤٦)
  • قال الخالدي: فوّت موسى عليه السلام على فرعون قصده وردّ عليه بحكمة، وأجاب على سؤاله قائلاً: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ واعترف موسى عليه السلام بأنه قتل، وبأن كان في ذلك الوقت ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾.

وإن المراد بالضلال في هذه الصورة الحالة التي عليها قبل الوحي، وهي حالة جهل لعدم وجود أحكام وتشريعات، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم: ﴿وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ وأنا من الجاهلين، وقال ابن كثير: ﴿وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾: قبل أن يوحي الله إليّ وينعم عليّ بنعمة النبوة والرسالة. (القصص القرآني، ٢/٤٠٧)

  • قال الشنقيطي: لفظ الضلال يطلق في القرآن وفي اللغة العربية ثلاث إطلاقات:

الإطلاق الأول: يطلق الضلال مراداً به الذهاب عن حقيقة الشيء، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضل عنه وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما، وليس من الضلال في الدين، ومن هذا المعنى قوله هنا: ﴿وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم والأسرار التي لا تُعلم إلا عن طريق الوحي لأني في ذلك الوقت لم يوح إليّ، ومنه على التحقيق: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ ]الضحى:٧[، أي ذاهباً عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي.

  • ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ ]طه:٥٢[، فقوله: ﴿لَا يَضِلُّ﴾ أي لا يذهب عنه علم شيء كائناً ما كان.
  • وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ ]البقرة:٢٨٢[، فقوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ أي: تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ]يوسف:٨[، وقوله: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ ]يوسف:٥[، على هذا المعنى قول الشاعر:

               وتظن سلمى أنني أبغي بها

                                               بدلاً أراها في الضلال أهيم.

والإطلاق الثاني: وهو المشهور في اللغة وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر وعن طريق الحق إلى الباطل وعن طريق الجنة إلى النار، ومنه قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ ]الفاتحة:٧[.

والإطلاق الثالث: هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضل الشيء إذا غاب واضمحل ومنه قولهم: ضل السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحل ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالاً، لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ ]السجدة:١٠[، الآية تعني إذا دُفنوا وأكلتهم الأرض، فضلوا فيها أيّ: غابوا فيها واضمحلوا. (أضواء البيان، ٦/٣٧١-٣٧٢)

قوله تعالى: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ]الشعراء:٢١[.

وتابع موسى اعترافه قائلاً: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ أي: لما قتلت الرجل خفت أن تقتلوني، ففررت منكم قبل أن تدركوني وتلقوا القبض عليّ. (القصص القرآني، ٢/٤٠٧)

  • والفاء: عاطفة وقد ذكر سبحانه وتعالى أسباب الفرار وكيف كان في القصص فقال عزّ من قائل: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)﴾ ]القصص:٢٠-٢١[.
  • والفاء في قوله تعالى: ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾: عاطفة، والحكم هو الحكمة أي التجربة وبعد أن كان يعيش في النعمة في قصر فرعون، اكتسب حكمة وتجربة وعمل وكسب، فإن الشدة تصقل النفس وتربي الحكمة ووزن الأمور والأفعال ويصح أن يكون الحكم بمعنى الرسالة -والنبوة- والأول أولى؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد وجعلني رسولاً من المرسلين الذين أرسلهم رب العالمين، فقد جعله الله من أولي العزم من الرسل. (تفسير أبو زهرة، ١٠/٥٣٤٦)

ثم بيَّن كليم الله موسى عليه السلام أن النعمة التي يمن بها عليه هي نعمة سببها أشد النقم لأنها كانت بسبب إيذائك المطلق لبني إسرائيل؛ مما جعل أمه تلقيه في تابوت في اليم فيكون في قصر فرعون فلولا هذه النقمة الفاجرة ما كانت تلك النعمة التي تمن بها وتستطيل عليّ بذكرها. (تفسير أبو زهرة، ١٠/٥٣٤٧)

قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ]الشعراء:٢٢[.

أي: وهذه النعمة التي تمنها عليّ ليست في الحقيقة إلا بسبب استعبادك لبني إسرائيل، عندما أمرت بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم فلولا ذلك كنت بين أهلي وما ألقوني في اليم، وما وصلت إلى قصرك ونشأت فيه، وهكذا بكل الثبات والجرأة والثقة ردّ موسى عليه السلام منة الطاغية الكبير عليه، مما حمله على الانتقال إلى موضوع رسالة موسى، والاعتراض عليها. (التفسير الموضوعي، ٥/٢٥٣)

  • قال القاسمي: في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: إبطال لمنته عليه في التربية ببيان أنها في الحقيقة نقمة لأنه كان اتخذ بني إسرائيل عبيداً مسخرين في شؤونه، مذللين لأموره، مقهورين لعسفه، وموسى عليه السلام وإن لم ينله من ذلك ما نالهم إلا أنه لما كان منهم فكأنه وصل إليه وحل به كما قيل: “وظلم الجار إذلال المجير” أي: لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم وما أنا إلا عضو منهم، وفي فحوها تقريعة بالكبرياء المتناهية والقسوة البالغة والسلطة العالية التي من ورائها الفرج القريب والمخرج العجيب. (محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي ، ١٣/٩)
  • قال ابن كثير: في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ]الشعراء:٢٢[: أحسنت إليّ وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيداً وخدماً، تُصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، فليكن إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ لا يساوي ما فعلته معي ما فعلته بهم. (تفسير ابن كثير، ٣/٣٢١)

ويدل قول موسى لفرعون معترضاً عليه: ﴿عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أنه كان يعبد بني إسرائيل له، ويجعلهم خاضعين له، وكأنه جعل نفسه رباّ لهم وجعلهم عبيداً له، وهذا دليل على أن فرعون كان يدّعي الألوهية والربوبية، ويعتبر نفسه إلهاً ورباً لرعيته ويدعوهم إلى أن يعبدوه ويؤلهوه ويُعبّدهم له.

  • وفعل “عبّد” الرباعي لم يرد في القرآن في غير هذا الموضوع.

إن موسى يعلم أنه لا يجوز أن يكون الناس عبيداً لغير الله، ولا يجوز لأحد أن يعبدهم ويخضعهم له من دون الله، وكل من عبد الناس فقد اعتدى على حق الله في الألوهية والربوبية ولذلك أنكر فرعون تعبيد واستعباد بني إسرائيل له، وما فعله فرعون من تعبيد بني إسرائيل وهو ما يفعله كل طاغية ظالم، حيث يعتدي على حق الله في الألوهية والربوبية والتشريع والحاكمية ويُعبد رعيته له بدل تعبيدهم لله رب العالمين. (القصص القرآني، ٢/٤٠٩)

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى عليه السلام كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من مادته على كتاب: ” التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم”، لعبد الحميد محمود طهماز.

المراجع:

  1. التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، عبد الحميد محمود طهماز، دمشق، دار القلم، ط2، 1435ه/ 2014م.
  2. زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة (ت: 1394ه)، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م.
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت، 1393ه)، جدة، السعودية، مجمع الفقه الإسلامي، دار علم الفوائد، (د. ت).
  4. محاسن التأويل (تفسير القاسمي)، محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السّود، بيروت، دار الكتب العلمية، 2016م، (١٣/٩).
  5. موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى