أكذوبة الإلحاد (1): الحوار بين موسى (عليه السلام) وفرعون في سورة طه
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ليس هناك من شكٍ بأن الإلحاد هو أكذوبة كبرى عبر التاريخ؛ لأن الخالق العظيم (سبحانه وتعالى) غرس في الفطرة الإنسانية، بأن لهذا الإنسان، ولهذا الكون خالق عظيم، وأرشد العقل الإنساني إلى الدلالات على ذلك، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد الأحد، وتزاحمت الأدلة في وجود الله سبحانه وتعالى وتساندت وتعاضدت على إثبات وجوده سبحانه وتعالى سواء أدلة الفطرة أو العقل أو الوجدان، وحفظ الله تعالى للإنسانية كتابه العظيم الذي تحدى فيه البشر أن يأتوا بمثله أو بآيةٍ منه أو بعشر آيات، قال تعالى: }قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا{ الإسراء88:، وتحدى فيه البشر أن يجدوا اختلافاً أو تناقضاً فيه }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا{ النساء: 82.
وإن من عظمة القرآن الكريم أن حفظ فيه المولى تبارك وتعالى ما يهم الإنسانية في تاريخها، فذكر أكبر الشخصيات الملحدة، والتي أنكرت وجود الله تعالى بل ادعت الربوبية والألوهية وكفرت به، وفي مقدمتها فرعون مصر أيام دعوة موسى عليه السلام، وذلك لما قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ ]النازعات:١٤[، فهو جاوز الحد في تجبره وكفره، وفي فجوره وظلمه واستكباره، حتى زعم لنفسه صفة الربوبية. ولما قال: ﴿مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي﴾ [القصص: 38].
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة طه هذا الحوار الشيق المفيد الذي يتغلغل في حنايا النفس البشرية، ويَهز أعماقها، ويُلامس فطرتها، ويُنور عقلها، ويُحيي قلبها، ويُلبي أشواق روحها. قال تعالى على لسان فرعون: ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ﴾ [طه: 49].
فقد كان خطاب فرعون خطاب استعلاء وكبرياء مع هدوء، وكأنه يريد أن يفهم من موسى ما الخلفية التي جاء وانطلق منها، ولكنه كان خطاباً ضيقاً بين موسى وهارون وفرعون وبعض الملأ، ولم يكن خطاباً مفتوحاً في سورة الشعراء كما سيأتي الحديث عنها مفصلاً. فكانت إجابة موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [ طه: 50].
ولا شك إن فرعون لم يضف نفسه إلى الرب مع أنهما صرّحا له بذلك عندما قالا له: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ ]طه:٤٧[، ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ ]طه:٤٧[، وذَكر سبحانه في موضع آخر أنهما قالا له أيضاً: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ]الشعراء:١٦[، فهو ربنا ورب جميع المخلوقات، ولا شك أن إعراض فرعون عن إضافة نفسه إلى الرب سبحانه يدل على شدة طغيانه واستكباره، وهو تجاهل وتغافل عن حقيقة مستقرة في أعماق نفسه، تقول له: إنك مخلوق ومملوك لخالق عظيم، ومربوب لرب كريم، وقد واجهه موسى بهذه الحقيقة في إحدى محاوراته له فقال: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ ]الإسراء:١٠٢[.
ومهما يكن من أمر في حقيقة فرعون مما ذكرنا، فإن موسى عليه السلام ردّ على سؤال فرعون: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾، وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ]طه:٥٠[.
- ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ أيّ: ربنا لا ينبغي لأحد أن يسأل عنه؛ لأنه أوجد كل المخلوقات وأخرجها من العدم، وخص كل مخلوق بصفات وخصائص تُناسبه وتُلائمه، وتميزه عن غيره من المخلوقات، فكلّ المخلوقات تَعرف ربها الذي أوجدها، وأمدها بأسباب استمرار وجودها.
- ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ أيّ: هداهم، فأرشدهم إلى كيفية الانتفاع بما أعطاهم الله جلّ وعلا، فهو الذي هدى النملة إلى تخزين طعامها، والنحلة إلى السُّبل التي تسلكها لجمع غذائها، والسمكة في أعماق البحار إلى أماكن تكاثرها وتناسلها، والطير في جو السماء إلى طريق هجرته الممتدة فوق المحيطات والقارات.. إلخ، فهو الذي أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في الألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به، فسبحانه جلّ وعلا ما أعظم شأنه، وأكمل قدرته (أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، ٤/٤١٩).
وإن إيجاد المخلوقات دليل على وجوده سبحانه وتعالى، وتخصيص كل مخلوق بالخصائص التي تُناسبه دليل أيضاً على وجوده تعالى، وكمال قدرته وعلمه وحكمته، وهداية كل مخلوق إلى طرائق حياته ومعاشه وتكاثره، وهو دليل أيضاً على تمام مشيئته (التفسير الموضوعي، ٥/٢٥٦).
- ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾؛ إن موسى عليه السلام ردّ بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقها لها وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها.
وهذا الوصف الذي يَحكيه القرآن الكريم عن موسى عليه السلام، وهو يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود، وهي هبة الوجود لكل موجود، وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها، وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها، وحين يحول الإنسان ببصره وبصيرته في حدود ما يطيق في جنبات هذا الوجود الكبير، حيث تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة في كل كائن صغير وكبير، من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة.
هذا الوجود الكبير المكوّن مما لا يحصى من الذرات والخلايا والخلائق والأحياء، وكل ذرة فيه تنبض، وكل خليه فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى، وكلها تعمل بمفردها أو مجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها، وذلك بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات، وكل كائن بمفرده كون مستقل وعالم بذاته، وتعمل بداخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته، وفق الفطرة التي فُطرت عليها، أي داخل حدود الناموس العام في توافق وانتظام.
- كل كائن بمفرده
– ودعك من الكون الكبير، حيث يقف علم الإنسان وخياله، قاصراً محدوداً في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان، وهو خلق من خلق الله، وهبه وجوده على الهيئة التي وجد بها، وللوظيفة التي خُلق لأجلها (في ظلال القرآن، سيد قطب، ٤/٢٣٣٨).
فكيف بهؤلاء الذين لا يعقلون ولا يتأملون ولا يتدبرون ولا يتعظون ولا يتساءلون ولا يتفكرون في آلاء الله ونِعمه ومخلوقاته، وبديع صنعه في كونه، وديدنهم الكذب والتضليل، وديباجتهم الشيطانية: إن قوانين الكون هي التي تحكم الكون، ولا داعي للقول بوجود خالق يدبر أمر الكون ويسيره!
ونفسه الشخص المدعو ب”الملحد” يعترف بأن الكون محكومٌ بقوانينَ، فهذا يعود على دعوتِه بالإبطال؛ إذ حاجةُ القانون إلى مُقنِّنٍ كحاجةِ البناء إلى بانٍ، وكحاجةِ الكتابة إلى كاتبٍ. كما أن قول الملحد: (هذه القوانين عمياءُ…) هذه حجة عليه لا له؛ إذ ما دامت قوانينُ الطبيعة عمياءَ، فالأعمى يحتاج إلى مَن يقوده ويُسيِّره؛ فمن الذي يقود قوانين الطبيعة ويُسيِّرها؟! (ربيع أحمد، موقع الألوكة، 19/7/2016)
إن الإلحاد ظاهرة شيطانية وأكذوبة كبرى وإنها صنعة سياسية وأيديولوجية مفضوحة؛ لأن الذي يُنكر وجود الله سبحانه وتعالى ينكر إنسانيته واسمه ولغته وكلامه، ويعري نفسه مادياً ومعنوياً، ويفقد اعتباره في رحم أمه وخارجه، وحتى في طريقة حياته وفي آخرته.
المراجع:
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، 2013.
- التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، د. مصطفى سلم، جامعة الشارقة، الإمارات، 2010.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط32، 2003.
- موسى كليم الله (عليه السلام)، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1 2022م، ص 386 -388.
- مغالطات أكذوبة الملاحدة: أن الكون يسير بقوانين فلا يحتاج خالق ليدبر أمره، د. ربيع أحمد، موقع الألوكة الشرعية، 19/7/2016، رابط: https://2u.pw/vnFVbx