مقالاتمقالات مختارة

أفيون الجماهير.. كيف تخدم كرة القدم الأنظمة الاستبدادية؟

أفيون الجماهير.. كيف تخدم كرة القدم الأنظمة الاستبدادية؟

بقلم أمين طاهر

لا شك في أن كرة القدم هي اللعبة الأكثر إمتاعا والأكثر شعبية وجماهيرية عبر أرجاء المعمورة، فلقد تخطى تأثيرها حدود الرياضة بعد أن صارت من وسائل التغني بالأمجاد والعزة الوطنية، خاصة حينما يتم تحقيق إنجاز معين كالفوز بتظاهرة دولية أو التأهل لكأس العالم، كما أنها في خضم التنافس المحموم بين الدول غالبا ما شكلت عاملا في توتر العلاقات بينها خاصة في تلك التي تغيب فيها الحدود بين الرياضة والسياسة.

تعددت حالات الارتباط بين كرة القدم والسلطة السياسية واتخذت أنماطا متشابهة، فنظرا لجاذبيتها المميزة وكيف تستحوذ على عقول الجماهير، ولأن السلطة السياسية بطبعها انتهازية لا تفوت أي فرصة لتحقيق مآربها، فقد عمل الساسة على تجاوز بساطتها كرياضة شعبية وتلويثها برسائل سياسية، وبالتالي تحويلها إلى سلاح فعال ضمن ترسانتهم الناعمة لإخضاع الجماهير وتغييب عقولها، ولا عجب في أن ارتماء السياسة في أحضان الكرة قد صار بحكم الأمر الواقع زواجا كاثوليكيا لا طلاق فيه، ويتضح بصورة حادة وفجة في الأنظمة الاستبدادية.

بدأت قصة الارتباط بين الكرة والسياسة مبكرا نتيجة لعدة ظروف ساعدت على ذلك، ففي أوروبا مهده الأول منذ عقد الثلاثينيات شكلت انتصارات المنتخب الإيطالي وفوزه بكأس العالم سنتي 1934 و1938 تجليات الحقبة الزاهرة للدوتشي موسولويني الذي أعاد أمجاد الرومان الغابرة، وهو الخطاب الذي سوقه جهازه الإعلامي الفاشي للجماهير الإيطالية حتى تتناسى مناخ القمع والقهر المخيم على الحياة العامة، كما شكلت العلاقة العشق بين الديكتاتور فرانكو وريال مدريد أبرز قصص تسييس كرة القدم، إذ سخٌر الجنرال الإسباني كل سبل الدعم المادي والمعنوي لتيسير اكتساح ناديه لأوروبا إذ احتكر مسابقة دوري الأبطال في نسخته القديمة لعدة مواسم متتالية خلال حقبة الخمسينات، وساهم ذلك في كسر طوق العزلة المفروضة على نظامه السياسي الذي كان ممقوتا من قبل جيرانه الأوروبيين بفعل سوابقه وعلاقاته مع النازية والفاشية إبان الحرب العالمية الثانية.

وعلى المنوال نفسه صار الجنرال بينو تشي في التشيلي الذي جاء إلى السلطة عبر انقلاب دموي راح ضحيته آلاف من التشيليين، فلقد استثمر مشاركة بلاده في كأس العالم 1974 كنوع من مساحيق التجميل لإخفاء الصورة القبيحة عن الوضع الحقوقي والإنساني المتردي، وتكرر نفس الوضع مع الأنظمة العسكرية في الأرجنتين في كأس العالم 1978 والبرازيل خلال الثمانينات مرورا بالديكتوريات في أفريقيا والأنظمة السلطوية بالعالم العربي، تكرار حالات تسييس كرة القدم يكشف طبيعة المقاصد السلطوية فهي تُوظف إما لإستمالة كتل الجماهير الرياضية وكسب ودها في المعارك الانتخابية وإما لإظهار إنجازات السلطة السياسية واستعراض نزعتها الوطنية.

وفي حالات أخرى وُظفت كإحدى أدوات الصراع السياسي بين الدول، ولا تزال الأحداث التي صاحبت مباراة الجزائر ومصر إبان تصفيات كأس العالم سنة 2010 ماثلة أمام الأعين، والتي بلغت ذروتها بعد خطاب الرئيس المخلوع حسني مبارك بأنه لن يقبل إهانة وإذلال المصريين، والواقع أن ذلك كان نتاج لتراكمات سياسية أججها الصراع بين البلدين لتأكيد مكانتهم كقوى مؤثرة، فما كان إلا أن تحولت كرة القدم إلى ميدان لتصريفها.

يمكن فهم دلالة تسييس كرة القدم من منطلق أنها وسيلة حديثة لعقدة إخضاع الجماهير لدى الأنظمة السلطوية، فهي قاعدة عامة بينها وقاسم مشترك تتقاطع فيه جلها على مر العصور، فالرومان استغلوا مباريات مصارعة الإنسان للحيوان العنيفة والمثيرة بهدف ضبط الجماهير وكسب ودها وضمان ولائها خاصة بعد انقلابهم الشهير على الحكم الديمقراطي وانحرافهم نحو التوجه الاستبدادي، وبما أن هذا الشكل من الترفيه لم يعد موجودا فقد عوضته كرة القدم إذ لم تشذ عن هذا المبدأ حيث تقاطعت معه في عدة جوانب، كالحفاظ على وجود السلطة وحماية مصالحها وكسب الشرعية إضافة إلى كونها جزء من عملية متكاملة للتحكم الناعم الذي يسبغ وجها مشرقا على السلطة، فضلا عن أهميتها في الموازنة بين آليات القمع والترهيب والترويع، وعليها يمكن فهم حالة الانفاق السخي المبالغ فيها فيما يتعلق بالتمويل والرعاية الرسمية والاهتمام الإعلامي المبالغ فيه بأدق تفاصيل المستوى الفني وأخبار النجوم.

والمثال الواضح عن ما سبق هي المنتخبات الوطنية فعندما تكون مقبلة على استحقاق كروي خارجي أو حينما تحقق انجازا، فغالبا ما يتم تضخيمه إعلاميا بإيعاز من النظام السياسي، والذي بدوره لا يذخر جهدا عن تيسير سبل الرعاية والتمويل السخي، رغم أنه يبقى قطاعا غير منتج يستنزف فقط جزء كبيرا من المال العام، ولا يمكن بحال أن نقارنه بالعالم المتقدم حيث نجده صناعة تدخل ضمن قطاع الخدمات وعنصرا أساسيا في دورة الرأسمال السريع، وقطاعا مركبا ينشط العديد من المجالات الأخرى كالإعلام والبث التلفزيوني والإعلانات والابناك والتأمينات وتجارة التذكارات والقمصان الرياضية والسياحة برقم معاملات يقدر بالملايير من الدولارات، ولعل المفارقة الغريبة والمؤلمة أن هذا السخاء في الانفاق لا نجده بذات الكم فيما يتعلق بتوفير الخدمات للمواطنين أو تحسين ظروف عيشهم.

إن هذا السياسات في الواقع ليست محايدة وبريئة بل تتخللها نوايا مقصودة، ويمكن تأويلها من عدة جوانب، في أحد أشهر الدراسات التي تطرقت لخبايا صناعة الرأي العام وتضليل العقول يعتبر الباحث الأمريكي هربرت في كتابه المتلاعبون بالعقول أن الرياضات وضمنها كرة القدم من حيث الجوهر عنصر لا يمكن فصله عن صناعة متكاملة للوعي الجمعي تتكامل مع عدة وسائل من بينها الإعلام والثقافة والفن، تضخ ألوانا مختلفة من الرسائل المحملة بقيم غايتها الأساس خلق حالة من الهوس الجماعي والهروب من الواقع المرير والتنفيس عن الكبث والحرمان والقهر، علاوة على شحذ المشاعر الوطنية وإيجاد مساحة للتعبير عن الفرح وتسويق صورة مميزة للعالم الخارجية، والحصول على نشوة بتأثير شبيه بأثر تعاطي المخدرات على العقل.

توضح هذه المقاصد معالم سياسة الالهاء التي تمارسها الانظمة السياسية ولفهم حجم عمق التأثير يكفي الاطلاع على محتويات وسائل التواصل الاجتماعي، ففوز المنتخب القومي إنجاز عظيم بينما خروج البلد من تصنيفات العالمية في التنمية أو التعليم أمر عادي لا يشغل بال أحد، والواقع أن هذه السياسة ما كانت لتنجح دون وجود قابلية ذهنية لدى الجماهير، فكرة القدم تجذرت في الحياة اليومية خاصة لدى الطبقات الشعبية، وأصبحت جزء مهما في ثقافة الاحتفالية والترويح عن النفس وإشباع الرغبة في المتعة ولا يخلو شعب من هذا البعد في أسلوب حياته ومما يعززها انعدام البدائل.

والحال أن كرة القدم أضحت بحكم الوضع السياسي المتردي ومناخ القمع والترهيب أكثر من مجرد لعبة، بل صارت فضاءً لتفجير الكبث والخوف والتنفيس عن الاحتقان، حيث يقول الباحث مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور في هذا الصدد: لا عجب في أن تتحول الملاعب الرياضية إلى ميادين لترديد الشعارات السياسية والاجتماعية بعد أن تعذرت سبل ذلك أمام حشود الجماهير وفي القلب منهم الشباب، ويمكن فهم ظواهر الشغب في الملاعب الرياضية على أنها ازاحة لقضايا وهموم الوطن من مواقعها الأصلية إلى مواقع أخرى أرحب، ومما يرسخها فقدان الثقة في تنظيمات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وترهل مؤسسات الدولة، فتندفع هذه الكتل الهائلة لخلق هويات جديدة كظاهرة الاولتراس وجعلها وسيلة للتعبير عن المطالب والاحتياجات.

إن تسييس كرة القدم قد حولها إلى عامل لتثبيط الجماهير وتخديرها وهو ما استعرضه المقال بتفصيل، ورغم ذلك فلا يمكن بأي حال النفي بأنها تظل دوما مصدر للسعادة والتسلية للجماهير والتنفيس عن همومها اليومية، فمن منا لم يجرب متعة مشاهدة أطوار مباراة وتحليل مجرياتها ومن منا لم يشد بأجوائها الحماسية الأشبه بالحروب العنيفة، فلقد وصفها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بأنها الحرب الوحيدة التي تنتهي بالعناق وتبادل التحايا دون مفاوضات ديبلوماسية أو قرارت أممية وهنا مكمن الغرابة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى