أفكار في حوار…في التحصين من الإلحاد (2)
بقلم إبراهيم منصور
الشاب: ولكن ألا ترى يا شيخي أن هذه الآيات التي ذكرتَها تَصْدُق على بعض الناس دون بعض؟ وذلك لأن آيات أخرى، أراها كالصريحة في الأمر الذي أسأل عنه، وهو أن الله سبحانه يحب الشقاء والعذاب لخلقه أو لبعضهم على أقل تقدير.
الشيخ: أيَّ آيات تعني؟
الشاب: أعني قوله تعالى يتحدث عن بعض البُغضاء من خلقه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176]
وقوله في أية أخرى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]
أفليست الآيتان صريحتين في أن الله تعالى يريد لبعض خلقه ضلالاً وغواية، ولا يحب لهم طهارة ولا أجراً.
الشيخ: ولكنك لو تأملت سياق كل من الآيتين لوجدت أن هؤلاء الذين تتحدث عنهم الآيتان هم الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا ممن يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة، وممن لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم.
الشاب: وأين وجدتَ ذلك؟
الشيخ: ألا ترى أن الله تعالى يتحدث في آية آل عمران عن المجترئين على الكفر المسارعين فيه فيقول في أولها: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176]
ويتحدث في آية المائدة أيضا عن المسارعين في الكفر المسرفين في الافتراء والكذب على الله وعلى عباد الله، فيقول في أولها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 41]
فهل يقول منصف: إن الله تعالى أحب لهم ذلك واختاره لهم ابتداءً؟!!
إن الناظر في النص الكامل لكل من الآيتين لا يسعه إلا أن يقول: إن هؤلاء اختاروا لأنفسهم أن يريد الله لهم الضلال والشقاء بدل الهداية والسعادة، فهي من الله مجازاة لا مبادأة.
الشاب: ولكن هاهنا إشكالاً يبدو قوياً في الدلالة على خلاف ما قررتَه يا شيخي، وهو – في نظري – مؤيد بآيات القرآن.
الشيخ: وما ذاك؟ إياك أن تكون ممن يضرب آيات القرآن بعضَها ببعض، فإن المرء لا يَسْلم من هذا إلا إذا انتهج التدبر، ونأى بنفسه عن السطحية والتسرع في تناول الآيات.
الشاب: معاذ الله أن أكون ممن يضرب الآيات بعضَها ببعض، وإن حذري من ذلك هو الذي حملني على التقصي والسؤال.
ولكني أجد إشكالاً في صريح الآيات التي يخبرنا الله فيها عن نفسه بأنه سبحانه هو الذي يُضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته.
أليس في هذا مصادرةٌ على إرادة العبد وعلى كل محاولة منه للصلاح والإصلاح؟!
الشيخ: أيَّ آيات تقصد؟
الشاب: هي آيات كثيرة، وإليك يا شيخي بعضاً منها:
فمثلا: يقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93]
ويقول سبحانه: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام39]
ويقول سبحانه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]
أفليس في هذه الآيات البينات ما يدل على أن الله تعالى يحب الشقاء لهؤلاء الذين شاء إضلالهم ولم يشأ هدايتهم؟!
الشيخ: هذه الآيات يا بُني، تحكي جزءًا من الحقيقة، وقد حذَّرْنا آنفاً من التسرع والسطحية في التعامل مع الآيات.
وكان عليك أن تقرن هذه الآيات بالآيات الأخرى التي تحكي الجزء الآخَر من الحقيقة، لتكتمل الصورة، وعندئذ يستبين لك جلياً، أن هذا الإضلال وما يستتبعه من شقاء، إنما هو – مرةً أخرى – اختيارُ العبد لنفسه، وليس تجنياً من الرب على العبد. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
الشاب: وما بيان ذلك؟ وما الآيات التي يتم بها الشطر الثاني من الحقيقة؟
الشيخ: بيان ذلك يا بُني: أن الله الذي أخبرنا أنه يُضل من يشاء ويهدي من يشاء في الآيات التي ذكرتَها، قد أخبرنا سبحانه في آيات أخرى، عن صفات الذين يشاء هدايتهم وصفات الذين يشاء إضلالهم، وأن ذلك ليس أمراً عشوائياً، حاشا لله، وإنما هي مشيئة تامة تستند إلى علم محيط.
ألا ترى أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ *”وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”*} [القصص: 56]
فأما صفات الذين يشاء الله هدايتهم، فنجدها مفرقة في جملة من الآيات والأحاديث.
فأما الآيات فمنها:
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]
وقوله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]
وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
وأما الأحاديث في بيان صفات من يريد الله هدايتهم، فمنها: حديث البخاري، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).
ومنها حديث الصحيحين عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَال: َ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. َ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ).
فأنت ترى أن هذه الآيات والأحاديث تنادي في الناس بلسان عربي مبين: من أراد أن يكون في عِداد من يريد اللهُ هدايتهم فليسلك سبيل الإنابة، ولْيَتَحرَّ رضوان الله في مظانه، ولْيُقْبِلْ على الله، يُقْبِل الله عليه، ويُعِنْه اللهُ على ما ابتغى لنفسه من الخير، ويكتبْه من أهل هدايته ووَلايته.
وأما صفات الذين يشاء الله إضلالهم، ويتوعدهم بالشقاء والحرمان، فكثيرة هي الأخرى، وهي مفرقة في آيات عِدَّ، منها:
1 – {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]
2 – {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]
3 – {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6]
4 – {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]
5 – {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذابٌ} [غافر: 28]
6 – {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34، 35]
7 – {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]
فمن أحب أن لا يكون له اسم في ديوان أهل الشقاء، فليتحرر جهده من صفات الأشقياء، من الكفر والفسق والظلم والخيانة والكذب والزيغ.
أجل، إذا عرف المكلَّف صفات الموعودين بالهداية، وصفات المتوعَّدين بالإضلال، فعليه أن يجتهد في التحقق بصفات الفريق الأول، فريق الجنة، والتجافي عن صفات الفريق الثاني، فريق السعير.
هكذا وكَلَ الله العباد إلى كسبهم واختيارهم لأنفسهم، ولو شاء سبحانه أن يستكرههم على الهدى لمَا أعجزوه، كما قال سبحانه: (وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِیعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ یَكُونُوا۟ مُؤۡمِنِینَ) [سورة يونس 99]
ولكنّ حكمته سبحانه اقتضت أن يكون العبد مرتهَنا بكسبه في الثواب والعقاب. كما قال سبحانه: (كُلُّ ٱمۡرِىِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِینࣱ) [سورة الطور 21]
وبهذا تقوم حجة الله على خلقه. كما قال سبحانه: (قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَـٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَاۤءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِینَ) [سورة الأنعام 149]
وتنقطع حجة الخلق على ربهم عزّ وجل، كما قال سبحانه: (لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِیزًا حَكِیمࣰا)[سورة النساء 165]
فهل اتضحتْ هذه الحقيقة؟
الشاب: أجل، هذه حقيقة جلية جدا، فما الحقيقة الثانية؟
———
وللحوار صلة في الجزء الثالث إن شاء الله …..
الحلقة السابقة هـــنا
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)