مقالاتمقالات مختارة

أفكار في حوار…في التحصين من الإلحاد 1 – 4

أفكار في حوار…في التحصين من الإلحاد 1 – 4

بقلم إبراهيم منصور

عندما يُحرز الشاب قدرًا من نمو المعرفة وتراكم المعلومات، تتولد عنده رؤى وأفكارٌ حول القضايا الكبرى في عالم الثقافة والمعرفة، التي تتعلق بالإنسان ووجوده، والكون من حوله، والحياة وما قبلها وما بعدها، والخالق والمخلوق، والعبد والمعبود، ونحو ذلك.

وما يزال الشاب المسلم يبحر في لجج هذه الأفكار، يضم بعضها إلى بعض، أو ينقض بعضها ببعض ليبحث من جديد عن تصور صحيح يفيء إلى بَرّ أمانه، ويلقي عنده عصا تسياره، ويطمئن إلى أنه وافق الحقيقة في رؤيته وفكرته.

وسفينة الإبحار في بحار الأفكار هي الحوار.

الحوار الذي يجريه الشاب بين جنبات نفسه، حين يجرد من نفسه حائراً وهادياً، أو سائلاً ومجيباً..

أو الحوار الذي يجريه بينه وبين غيره، سواء أكان مُحاوِرُه مثلَه ما يزال في طور البحث عن التصور الصحيح والرؤية الواضحة، أو كان ذلك المُحاور ممن يَفْضُله علماً وعقلاً وتجربة، ممن سبقه إلى تلك الرحلة، وانتهى من تلك اللجة إلى أرض ثابتة صلبة لا تزل فيها الأقدام، ورؤية واضحة جلية لا تلتبس ولا تضل فيها الأفهام.

وميدان الحوار عند المسلِم في هذه القضايا هو العقل الذي يتمحور حول النص المقدس.

وهذا هو الذي يميز المسلم عن غيره في رحلة البحث عن الحقيقة، لأن معيار الخطأ والصواب عند المسلم هو النص المقدس، كلما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الحقيقة، وإذا وافقه فقد وافق الحقيقة، وإذا جانبه فقد جانب الحقيقة.

وكل من يبحث عن الحقيقة، ويتخذ لنفسه معياراً آخر في الخطأ والصواب، ولا يأبه بموافقة النص المقدس أو مناقضته، فإنه عرضة لضلال مركب، وذلك حين يطمئن إلى أنه وافق الصواب واهتدى إلى الحقيقة والرؤية الصحيحة بزعمه، ولكنها رؤية خاطئة موهمة، تَزهق أمام النص المقدس كما يزهق الباطل إذا جاء الحق.

نعم، قد تلتبس معاني النصوص، وتختلف فيها الفهوم، وتتعدد الدلالات إلى حد قد يُظن فيه التعارضُ بين النص والعقل، أو يُظن فيه تعارض النصوص فيما بينها، ولكن المهم أن يكون النص هو المعيار.

ثم إنّ العالم المتمكن والحاذق المتمرس في الاستنباط وقواعده وأدواته، والناقد البصير، الذي يضع النقاط على حروفها، ويرد الأمور إلى نصابها، يفهم النصوص في سياقها زماناً ومكانا، وتعميماً أو تخصيصا، وإطلاقاً أو تقييداً. وعندئذ تتضح الرؤية ويزول اللبس، ويُدفع التعارض، وتتسق النصوص فيما بينها، كما تتسق مع العقل الصحيح المتجرد عن التعصب والهوى.

وقد أردنا في هذه السطور أن نصوّر حواراً حول بعض الأفكار التي قد تنتاب الشاب المسلم في هذه المرحلة من عمره، وهذا المستوى من معرفته.

وقد اخترنا أن يكون طرفا الحوار: الشاب الذي تتولد عنده الأفكار والشبهات، والشيخ الذي يتمتع برصيد من التجربة والمعرفة والخبرة المتراكمة بمثل هذه الشبهات والأفكار.

وذلك على النحو التالي:

الشاب: سؤال كثيراً ما راودني وتأثمت منه، ولكن إلحاحه على عقلي يقتضيني أن ألقيه عليك لا محالة.

الشيخ: سل عما بدا لك، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، كما في حديث أبي داود، ولَأنْ يسألَ المتشكك فيعرف الحق، خير له من أن يعيش في قلق الشبهة.

فما سؤالك؟

الشاب: سؤالي يقول: هل يحب الله الشقاء والعذاب لخلقه؟!!

الشيخ: سبحان الله! ما الذي دعاك إلى هذا؟ احذر أن تعتقد شيئاً من ذلك، فإن ذلك من سوء الظن بالله، وهو من شأن المشركين والمنافقين الذين قال الله عنهم في سورة الفتح: (وَیُعَذِّبَ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ وَٱلۡمُشۡرِكَـٰتِ *ٱلظَّاۤنِّینَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِۚ* عَلَیۡهِمۡ دَاۤىِٕرَةُ ٱلسَّوۡءِۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡ وَلَعَنَهُمۡ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرࣰا) أعاذنا الله وإياكَ منهم.

الشاب: أستغفر الله، ولكن الذي حملني على هذا السؤال هو ما شُحن به القرآن الكريم من ذكر النار الحامية والعين الآنية، والحميم واليحموم، والضريع والزقوم، والعذاب الشديد ومقامع الحديد وتبديل الجلود …. إلى غير ذلك مما هو معروف مشهور في الآيات القرآنية، وفي الأحاديث النبوية أيضا، من العذاب والشقاء، إن كان في الحياة الدنيا، أو كان في عالم القبور، أو بعد النشور.

ثم إني قد رأيت بنفسي أو سمعت من المناظر والبوادر، ما يدل على شقاء عظيم وعذاب مقيم يصبه الله تعالى على بعض الناس، أو يتوعدهم بصبه.

الشيخ: ماذا رأيت؟ وماذا سمعت؟

الشاب: أما الذي رأيتُه فمَهُول، إنه ذلك الصديق الذي لا تفارق خيالي صورتُه، ولا تزال تؤرقني خاتمتُه، وقد كان من أقرب الناس إلى قلبي.

فقد خرج بسيارته من مجلس طرب وشراب، فما لبث أن انقلبت به سيارته وأودت بحياته، فرأيت من ظلمة وجهه ونتن رائحته بعد موته ما أكاد أجزم بأن الله تعالى يحب له الشقاء.

وأما الذي سمعته فكثير يتناقله الناس قديماً وحديثاً، مكتوبا ومسموعا، عن أفاعي القبور وعقاربها، وعن نيرانها ومقامعها، وعن صياح المعذبين فيها، وعن المَرائي والمنامات عن أهل القبور التي تملأ القلب فزعاً ورهبة. هذا بالإضافة إلى ما لا تكاد تخلو منه الأخبار كل يوم من الجوائح والمهالك والفتن والمجاعات والحروب وسفك الدماء والتهجير والتدمير.!

أليس في كل هذا ما يدل على أن الله تعالى يعامل بعض خلقه معاملة عداوة ونقمة، ويحب لهم الشقاء والعذاب؟!

الشيخ: حُقَّ لمن رأى ذاك أو سمع هذا أن يفزع ويرهب، ونحن لا ننكر أن تبدو على بعض الناس بوادر سوء الخاتمة، أو علائم معاداة الله لهم، ولكننا ننكر أنّ ذلك يدل على أن الله سبحانه يحب العذاب والشقاء لخلقه، حاشا لله.

الشاب: كيف؟! أليست معاداة الله لبعض خلقه، دليلاً على أنه سبحانه يحب لهم الشقاء؟!

الشيخ: لا بد لبيان ذلك من توضيح ثلاث حقائق.

الشاب: أتُوقُ إلى تلك الحقائق وإلى توضيحها.

الشيخ:  (الحقيقة الأولى: أن هذا الذي تذكره من علامة سوء الخاتمة، أو علامة عداوة الله سبحانه لبعض خلقه، إنما هو اختيار العبد لنفسه، وليس مبادرة عداوةٍ من الرب سبحانه.)

العبد هو الذي اختار أن يكون اللهُ عدوَّه، وأن يكون الشيطان وليَّه.

ألا ترى أن ما ذكرتَ من الحميم واليحموم والعذاب الشديد ومقامع الحديد، إنما جاء في القرآن وعيداً لأهل الباطل المصرين عليه المكابرين به؟!

انظر إلى قوله تعالى في الواقعة:

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِين (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)}

أليس هؤلاء المصرون على الإثم العظيم، هم الذي اختاروا لأنفسهم هذا الوعيد وذلك المصير، وأصروا عليه؟!

ثم انظر إلى قوله تعالى في سورة الحج:

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)}

فإنه سبحانه توعد ووعد في هذه الآيات، أفليس العبد هو المسؤول عن اصطفافه مع أهل الوعيد دون أهل الوعد؟!

أجل، إن بعض العباد هم الذي اختاروا لأنفسهم الشقاوة ليكونوا غرضاً لعذاب الله وموضعًا لنقمته سبحانه، وإلا فإن الله تعالى – ومع غناه عن العالمين – يحب لعباده أن يشكروه ولا يكفروه، وأن يطيعوه ولا يعصوه، ليعافيهم من عذابه ويجزل لهم المثوبة على طاعته.

الشاب: هل من دليل أو قرينة، على أن الله تعالى يحب لعباده الطاعة ليجزل لهم المثوبة؟

الشيخ: أجل، إنها ليست دليلا واحداً، وإنما هي أدلة متظاهرة.

الدليل الأول: أن الله سبحانه خلق الناس جميعاً على الفطرة – والفطرة: الإسلام – وهذا أمر معلوم دلت عليه نصوص الوحيين، كما جمعهما حديث الصحيحين، عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أو َيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. [الروم: 30]

البهيمة الجمعاء: هي المجتمعة الاعضاء السليمة من النقص، فلا قطع فيها ولا كيّ. البهيمة الجدعاء: هي مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء.

ومعناه: أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الاعضاء لا نقص فيها، وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها.

وفي الحديث القدسي في صحيح مسلم: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا).

الدليل الثاني: أنه سبحانه أرسل الرسل إلى كل أمة من الناس، يدعونهم إلى الهدى ومغانمه في الدنيا والآخرة، ويحذرونهم من الضلال ومغارمه، في الدنيا والآخرة، ويحثونهم ويحرضونهم على موالاة الرحمن ومعاداة الشيطان.

ولولا أنه سبحانه يحب لعباده الهدى وثوابه، لما كانت الشرائع ولا الرسل، ولا الأمر ولا النهي، ولا الوعد ولا الوعيد.

واقرأ في ذلك قوله تعالى في سورة يس: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]

وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24])

الدليل الثالث: أنه سبحانه قد أخبرنا عن نفسه، بصريح بيان القرآن، أنه يحب لعباده الإيمان والطاعة، ويكره لهم الكفر والمعصية، لأنه لا يحب أن يعذبهم.

وإنك لتجد هذا المعنى في مواضع شتى من الكتاب العزيز، ألم تقرأ قوله تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]

وقوله تعالى في سورة النساء: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا}

وفي سورة النساء أيضاً: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}؟؟

فكيف نُغفل كل هذه الحقائق بأدلتها الجلية، لنقول: إن الله يحب الشقاء للناس؟! تعالى الله عن ذلك وتنزه.

——-

وللحوار صلة في الجزء الثاني إن شاء الله….

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى