أغلوطة “المثقفين” حول النظام السياسي في الإسلام
بقلم د. معن عبد القادر كوسا
كثر الحديث عن النظام السياسي في الإسلام، وتتواصى جملة من الأطروحات الحديثة بفكرةٍ مفادُها أنّ النصوص الواردة في النظام السياسي الإسلامي نزر يسير، وأنّها من قبيل القواعد العامة، وأنّ التفاصيل متروكة للناس يجتهدون فيها بحسب الزمان والمكان، وأنّ أنظمة الحكم في الإسلام هي في معظمها اجتهادات بشرية، وأنّ ما عُمِلَ به في عصر من العصور ليس ملزمًا لمن بعده.
وتقارن بعض هذه الأطروحات بين مجال العبادات في الإسلام كالصلاة مثلًا، وبين المجال السياسي، وكيف جاءت النصوص بأدقّ التفاصيل عن شروط الصلاة وهيئاتها وأحكامها ونواقضها، بينما لا نجد في المجال السياسي ومجال الدولة والحكم إلا قواعد عامة كبرى.
ولي مع هذه الأطروحات وقفات:
1. قد لا نختلف في هذه المقدّمة “العامة”، والفرق بين قدر التفصيل في نصوص العبادات ونصوص الدولة والشأن العام بيّن، والحكمة في ذلك ظاهرة، فلا إشكال في هذا الطرح العام، ولكن الخلاف يكمن في التفاصيل.
يبدأ حديث “النظام السياسي” عن طرق اختيار الولاة، وتداول السلطة، وآليات الشورى، والفصل بين السلطات، وأشباهها من المسائل التي لا يكاد يختلف أهل العلم في مرونتها وتكيّفها مع الزمان والمكان والظرف، لكن لا يطول الأمر كثيرًا حتى تُحشر تحت عباءة “النظام السياسي الذي يسع الاجتهاد فيه” مسائل ثابتة بالنصّ، مثل فرض الجزية، وحدّ الردة، والولاية العامة للمرأة، وولاية الكافر على المسلم، وأمثالها!
والخوض في هذه المسائل ليس بحثًا في مسائلَ مسكوتٍ عنها، ولكنّه اجتهادٌ مع النص!
وليس مقصود هذا المقال أن ينصر حكمًا معيّنًا في هذه المسائل، ولكن لأبين أنّ الجدل حولها لا علاقة له بالمقدّمة، فالقول بأنّ النظام السياسي في الإسلام قليل التفاصيل كيف يفضي إلى أن نناقش عينَ المسائل التفصيلية القليلة التي جاءت بها النصوص!
2. يحملنا حسن الظن على الاعتقاد أنّ النتيجة التي يريد أصحاب هذه الأطروحات أن يصلوا إليها إنّما حملهم عليها غيرتهم على حال الأمة، وتألمهم على مصابها، فكأنّهم أرادوا أن يخذّلوا عنها بعض أعدائها بحذف هذه المسائل “المستفزّة” لهم، وأن يمدّوا الجسور ويقرّبوا المسافات مع شركاء الوطن ممن لا يدينون بدين الإسلام من الطوائف وأهل الملل الأخرى، أو لا يقرّون بمرجعيته في التشريع وحركة المجتمع كالعلمانيين.
وغيرتُهم هذه مشكورة، ولكن “كم من مُريد للخير لا يصيبه”.
إنّ تخذيل الأعداء ومدّ الجسور مع أبناء الوطن الواحد لا يلزم -بل لا يجوز- أن يكون على حساب تبديل المعتقدات والأصول، وإنّما تكون بالتوافق معهم على أمور عملية إجرائية تنصف جميع الأطراف. وفي ديننا والحمد لله -من خلال فقه الاستطاعة والموازنة بين المصالح والمفاسد- بحبوحة وسَعة لتحقيق التعايش مع الآخرين دون ظلم أو بغي أو إجحاف، والمسلمون إذا أعطوا العهود والمواثيق فهم أوفى الناس بها؛ لأنّ الوفاء بالعهد عندهم دين، فليهنأ حليفهم، ولا يخش غدرًا، ولا يخفَ ظلمًا ولا هضمًا .
لقد عقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين صلح الحديبية وفيه شروط قد تبدو مجحفة بالمسلمين؛ فالتزم بها، وكان المشركون هم من نكث العهد، ولم يبدّل-صلى الله عليه وسلم- لأجل الصلح معهم شيئًا من دينه، ولم يطلب منهم أن يغيّروا شيئًا من عقائدهم، بل حين رفضوا أن يكتب “محمد رسول الله”؛ لأنّهم لا يؤمنون بذلك، أجابهم رسمًا في صحيفة الصلح، وقال لهم (إنّي رسول الله وإن كذبتموني).
إنّ محاولة “تأصيل” ما تمليه الظروف الواقعية من رخص وموازنات على أنّه “الأصل” في الإسلام خطيرٌ جدًا، لأنّ هذه الظروف كما أنّها لم تكن موجودة في عصر سابق، فستزول في عصر لاحق، فهل نجعل أصول ديننا تبعًا للظرف والواقع؟ أم نحفظه ناصعًا صافيًا كما أنزل، ويعمل الناس به في كل عصر على قدر وسعهم واستطاعتهم؟
3. أمّا إذا أصرّ أصحاب هذه الأطروحات على “تأصيل” آرائهم في مسائل الدولة والنظام السياسي على خلاف ما هو مستقرّ ومشتهر في مدارس الفقه الإسلامي، فليُعلم:
- أنّ باب الاجتهاد – فيما هو من مسائل الاجتهاد- مفتوحٌ، ولا يملك أحدٌ أن يمنع من مراجعة المسائل الفقهية حين تدعو الحاجة إلى ذلك، وحين يأتي من أهله من العلماء المجتهدين. وليس في هذا القول تقديس لفئة معينة، إذ ليس في الإسلام كهنوتية ولا “رجال دين”، ولكنه استجابة لأمر الله {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، ودعوة إلى احترام التخصّص، على الوجه الذي نطالب به في كلّ العلوم والفنون، ومن خاض في غير فنه أتى بالعجائب، فضلًا عن أنّه بتقحّمه ما لا يُحسن يُجرّئ الناس على الخوض في دين الله بغير علم، فيكون عليه من وزرهم نصيب.
- أنّ ثمة أقوالًا فقهية استقرّت واشتهرت في الأمّة، وقال بها جبال العلم من كبار الأئمة المجتهدين ممن تلقّت الأمّة أقوالهم بالثقة والقبول، وتناقلتها جيلًا بعد جيل، فمن عارض أقوالهم فيها من غير طبقتهم فإنّه يجني على نفسه، ويضع دينه موضع التهمة. بل يجب بحث مثل هذا الأمور في عصرنا الحاضر في المجامع الفقهية والهيئات العلمية التي تضم نخبة من أهل العلم المبرّزين ممن يثق الناس بعلمهم ودينهم، وأن يستشيروا في ذلك أهل العلوم والفنون الأخرى مما له صلة بموضوع الفتوى، ولن تحظى هذه الأمور الجسام بثقة الأمّة إلا بمثل ذلك.
- أنّ أصحاب هذه الأطروحات يخلقون التنازع، ويفتحون المجال لجدل واسع، ويشغلون الطاقات العلمية والفكرية -بل شرائح واسعة من المجتمع- بالردّ والردّ المقابل، في وقتٍ الأمة أحوج ما تكون فيه إلى التلاحم، والاتفاق على مواقف عملية، وإرجاء المناقشات والجدالات العلمية إلى وقت لاحق، فإن كان ولا بد فلتكن في الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة، وبشكل لا تؤثر على وحدة الموقف العملي.
4. قد يزيَّن للبعض أنّهم بهذا الخطاب يحسنون إلى “الأقليات والطوائف” ولا يستعدون العالم، وهم في ذلك واهمون، فالإسلاميون في بعض البلدان قدّموا مثل هذا الخطاب “اللين المعتدل”، فهل رضي عنهم أولئك؟
ثم لنفرض جدلًا أنّ هذا قد حصل، أليس ذات “الخطاب المعتدل” الذي يرضي أولئك يثير سواد الأمة، فينفضّوا عن أصحابه؟
فهل من السياسة والواقعية أن نتبنّى خطابًا يقرّب إلينا القليل من الأباعد ويبعد عنا الكثير من الأقارب؟ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ بل إنّه لو قيل إنّ هذا هو مُراد خصومنا: دكُّ الأسفين بين النخب وسواد الأمة، لما كان بعيدًا !.
(المصدر: موقع “على بصيرة”)