تقارير المنتدىتقارير وإضاءات

أضواء على دلالات التطبيع

أضواء على دلالات التطبيع

 

(خاص بالمنتدى)

استنادا إلى المعنى اللغوي الفلسفي يقول الدكتور (عبد الوهاب المسيري): «التطبيع هو تغيير ظاهرة ما، بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتّجاهها مع ما يعدّه البعض طبيعيا، ولكن كلمة «طبيعة» لها عدّة معانٍ، وقد استخدما هذه الكلمة بمعنى (الطبيعة/المادة)، والتطبيع في هذه الحالة يعني إعادة صياغة الإنسان حسب معايير مستمدّة من عالم الطبيعة/المادة، بحيث تصبح الظاهرة الإنسانية في بساطة وواحدية الظاهرة الطبيعية/المادية، ولكن كلمة (طبيعي) يمكن أن تعني «مألوف» و«عادي»، ومن ثمّ فإنّ التطبيع هو إزاله ما يعدّه المطبَّعُ شاذاً، ولا يتّفق مع المألوف و«العادي» و«الطبيعي»، وفي حال «إسرائيل» يصبح المعنى: تحويل المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين إلى أمر طبيعي، أي الاعتراف بشرعية هذا الكيان، وأحقية وجوده في المنطقة.

ففي معناه اللغوي يدور مفهوم التطبيع حول جعل الشاذّ طبيعيا، ومألوفاً تسهيلا لقبوله.

وفي المعنى الاصطلاحي: يُقصد به إقامة علاقات طبيعية وعادية بين الدول العربية، والكيان الصهيوني في فلسطين، «وهو يقوم على ركنين: الاعتراف، والقبول، اعتراف العرب (ومن ورائهم عامة المسلمين) بالدولة الصهيونية، كدولة تتمتّع بالشرعية والسيادة والعضوية في المجتمع الدولي، وقبولهم بما في نسيج ديار العروبة والإسلام، كدولة لها ما لدول المنطقة من حقّ الجوار، وحسن المعاملة، إن لم يكن أكثر من ذلك»، فالتطبيع ثمرة للقبول بالكيان الصهيوني، والاعتراف به، كان من المستحيلات في بداية تجسيد الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، وقادت تحركات المهرولين من العرب مع مرور الوقت إلى التمكين له، بل وجعله واجبا بمقتضى الاتفاقيات المشؤومة للسلام.

 وحقيقة هذا المصطلح تصبُّ في ما يريده منه الصهاينة في الواقع أكثر من تعلّقها بمعناه عند العرب، «فأساس الفكرة أنه في عام 1967م أرادت «إسرائيل» أن توفّر شريحة من العرب يتعاملون معها كعملاء وجواسيس، ولأنه من الصعب أن تشير بشكل مباشر إلى مسألة العملاء أو الجواسيس قالت: إنّ هؤلاء هم مطبّعون، وبهذا الفهم يصبح معنى التطبيع «الخيانة» من خلال القبول بالعدو.. وما معاهدة السلام، والاعتراف السياسي إلا بوابة هذا التطبيع، وأمّا اتفاقات النشاطات الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والسياحية ونحوها بين إسرائيل وغيرها من الدول المجاورة لها، فهي من وسائل تنفيذ مخطط التطبيع»، وصرح السفير الإسرائيلي السابق في مصر (ديفيد بن سلطان) في مذكراته قائلا: «للقضية أهمية كبيرة بالنسبة لنا، لارتباطها باندماجنا في المنطقة، وباحتمال إقامة علاقة جوار سوية ومثمرة، حيث كُتب علينا أن نحيا معا».

إنّ الذّرائع التي يستند عليها المطبعون في موقفهم الخاذل للأمة هي:

  • الرّغبة في السلام وإتمام التسوية.
  • ضرورة إزالة الحاجز النفسي بين العرب واليهود.
  • التعلّل بوجود معسكر للسلام داخل الدولة الصهيونية.
  • التعلّل بعقد الأنظمة في مصر والأردن وفلسطين اتفاقيات اعتراف وصلح مع الكيان الصهيوني، وانتهاء الصراع بين تلك الأنظمة والكيان الغاصب.
  • التعلّل بوقوع شخصيات شهيرة في التطبيع، كان لها تاريخ في النضال والمقاومة.
  • التجارة لا وطن لها ولا دين.
  • الثقافة والفنون مشتركة بين الشعوب.

ويتذرّعُ أنصار هذا التيار أنّهم بجنوحهم للتطبيع، ودعوتهم للسّلام إنما يخترقون الجبهة الصهيونية، ويقسمونها إلى معسكرات تختلف حول هذه القضية، فيشتتون الرأي العام الإسرائيلي، ويشهد الواقع أنّ العكس هو الذي تحقّق، حيث انقسمت الجبهة الداخلية العربية بسبب هذه الخطوة، بل وانفجرت غيضا وكمدا، فرغم التطبيع الرسمي بين مصر والكيان الصهيوني مثلا إلاّ أنّ الشعب في عامته ظل رافضا لهذه العلاقة، وخاصة بعد ثورة 25يناير، «حيث فوجئت إسرائيل قبل غيرها بأنّ هذا الشعب الذي أرادت اختراقه، وتعريته، وعزله، والهيمنة عليه، من خلال التطبيع، وما ارتبط به من المعونة الأمريكية (2.1 مليار دولار سنويا) ثار عليها وأحرق سفارتها مرّتين، وفجر خط الغاز الموصّل إليها بأبخس الأسعار ست عشرة مرة في العامين التاليين للثورة.. فوجئت تل أبيب وواشنطن، ومن دار في فلكها بهذا الشعب، وبتلك الروح التي عادت إليه رافضة «التطبيع» بنفس قوة رفضها للاستبداد، وسياسات الإفقار، والعيش غير الكريم».

كذلك زالت الحماسة في المقاومة، وانخفض سقف مطالبات النخبة العربية في غالبيتها إلى العودة لحدود 67، كما نجح الصهاينة في اختراق الفصائل والمؤسسات الفلسطينية، وبلغ الاختراق ذروته في المؤسسات الأمنية التي أقامتها السلطة الفلسطينية بعد اتفاق (أوسلو) 1993م، ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا.

والحل في نظر المطبّعين هو العدول عن المقاومة التي لم تجرَّ على الشعب الفلسطيني سوى العدوان الانتقامي، والسير في طريق الاعتراف والتفاوض والتسوية، لكن «عمليا لن تنتهي معاناة الفلسطينيين ما بقي الاحتلال، ولن يرحم الإسرائيليون الفلسطينيين في حال توقفهم عن المقاومة والاستسلام، بالعكس، سيزداد الإسرائيليون في بطشهم وإجرامهم، وهم يعلمون أنهم لن يُلاقوا أية مقاومة أو ردع، بل إنّ المقاومة تجعل الصهاينة يفكرون كثيرا في اتخاذ قراراتهم التي تمس حياة الفلسطينيين خشية رد الفعل المقاوم، وتجعل للدم الفلسطيني ثمنا».

فلا أقرب للصهاينة إلى عقول العرب وقلوبهم من العرب المطبعين الذين يلعبون دور الوسيط المشبوه، وتذليل العقبات النفسية، لتحقيق الأهداف التي يبعد تحقيقها بغير هذه الوسيلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى