أصول علم المستقبل
بقلم د. حسن سلمان
الحمد لله عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين:
آفاق المستقبل المرتقب
الغيب هو ذلكم المجهول في أعماق التاريخ السالف أو آفاق المستقبل المرتقب..
والنفس البشرية مجبولة على التطلع نحو المعرفة لاستكشافه وتسلك البشرية دروباً شتى للمعرفة..
فمنها من سلك دروب التنجيم والكهانة والأساطير والاتصال بعوالم خفية كالاستعانة بالجن بحثاً عن الغيب والمجهول..
ومنهم من سلك دروب البحث والتنقيب والسير في الأرض دون هدايات تحدد البدايات.
كل ذلك بعيداً عن الوحي والارتباط بالسماء..
وأما من سلك هذا الدرب منطلقاً من الدين والتلقي عن رب العالمين فقد اعتمد على النبوة؛
وهي في حقيقتها علوم ومعارف يختص الله بها من شاء من عباده وهم:
الأنبياء لكشف المجهول الماضي أو اللاحق من خلال الوحي بكافة أشكاله..
المقصود بعلم المستقبل
ومن خلال الوقوف على ذلك يمكننا أن نلج إلى المقصود بعلم المستقبل والذي هو بعض النبوة إن قلنا إن النبوة من علومها علم
( التوحيد- المستقبل-الماضي-القصص)
ففي ظل هدايات النبوة كيف يمكننا أن نؤسس لعلم المستقبل هذا العلم الذي أهملناه وتقدم فيه غيرنا وفقاً للمنظورات المادية أو العلم الظاهري وفقاً لمصطلح التنزيل الحكيم قال تعالى:
(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [الروم 7]
والسبب هو القطيعة مع علم النبوة المتلقى عن الله تعالى،
وبذلك تخسر البشرية كثيراً بقطيعتها مع الوحى وقطيعتها مع الواقع المادي..
حيث العلم في التنزيل هو( ما ثبت بالوحي والحس والتجربة )
فكل من سلك سبيل التجزئة في هذه الثلاثية فهو يقدم علماً ناقصاً مهما ادعى الكمال..
وبناء على ذلك يمكننا أن نضع لبنات وأصول علم المستقبل على النحو التالي:
أصول علم المستقبل
(1) الوحى
وهو النبأ الصادق المتلقى عن الله تعالى من خلال انبيائه عن المستقبل وحيثياته وحوادثه..
ويندرج في ذلك كل غيب المستقبل وهذا في الحقيقة يتكشف للناس شيئاً فشيئاً وصولاً للتكشف الكلي يوم القيامة..
المعبر عنه قرآنياً بالتأويل أي المآل والمنتهى والسائد في الناس في ذلك التكذيب به بسبب عدم الإحاطة والجهل به قال تعالى:
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [يونس 39]
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ..
فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف 53]
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت 53]
والوحي قد يكون قرآنا قامت البينات على صدق من جاء به مبلغا للبشرية هدايات السماء في كافة مجالات الحياة المعرفية والتشريعية والتعبدية والجمالية..
فهو قطعي الثبوت لا يتطرق إليه الشك والتكذيب..
ولكنه قد يكون قطعيا أو ظنيا في دلالاته وقد يكون الوحي سنة وبيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم (وحي غير متلو)
وفيه كذلك القطعي والظني ثبوتا ودلالة وهذا الوحي المنقول من كتاب وسنة فيه الكثير مما يدخل في تشكيل علم المستقبل القريب والبعيد..
وهنا يتميز المسلم والمؤمن عن غير في سعة علمه بالمستقبل عن غيره ممن لا يستند على الوحي أو ينحي الوحي جانبا في دراساته المستقبلية.
الوحي والحوادث المستقبلية
والوحي قد يعطي دلالات واضحة وصريحة عن الحوادث المستقبلية التي وقعت في العهد النبوي،
كما ورد الحديث في سورة الروم عن انتصار الروم على الفرس بسنوات ومراهنة بعض المؤمنين على صحة ذلك بناء على وروده في القرآن..
وكالرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة وكهزيمة أهل بدر (سيهزم الجمع ويولون الدبر)
عن عكرمة قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب
(أي جمع يهزم أي جمع يغلب؟
قال عمر فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت الدرع وهو يقول (سيهزم الجمع ويولون الدبر)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط / من حديث أبي هريرة وأنس.
نبوءات فتح فارس والروم والقسطنطينية وروما
وهناك أخبار وقعت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كأحاديث النبوءات الواردة عن فتح بلاد فارس والروم وفتح القسطنطينية وروما..
وأخبار ستقع في آخر الزمان كالدجال والفتن التي تسبق آخر الزمان ونزول عيسى عليه السلام..
فإنه كذلك يعطي دلالات ظنية تحتاج لتدقيق في تنزيلها ويختلف الأمر بطبيعة الحال بين القطعيات الحتمية وبين الظنيات المحتملة..
وغالبا تظهر حقيقة الظنيات بل ظهورها وتكشفها فيترجح التأويل الصحيح بين التأويلات المحتملة..
وبذلك فإن الوحي يشكل مخزونا معرفيا كبيرا ومهما في منظومة علوم المستقبل.
ومن الأمور المهمة التي يتناولها الوحي في الدراسات المستقبلية العلوم المتعلقة بالسنن الكونية والأقدار الإنسانية وطبيعة عملها ودورها في معرفة المسارات المستقبلية والتنبؤ بها.
الظلم مؤذن بخراب العمران
(2) التجربة والحس وهذه تشكل نسبة كبيرة في العلوم الطبيعية والإنسانية..
فمن خلالها يمكن تلمس اتجاهات المستقبل وتلعب المراكز البحثية دوراً مهماً في ذلك..
خاصة في ظل ما سبق من الهدايات الإلهية عن السنن الكونية والأقدار الإنسانية..
فمثلاً تقول الهدايات والسنن إنه كلما زاد الظلم والفساد في المجتمعات أسرع إليهم الهلاك ولخصها ابن خلدون بقوله:
[الظلم مؤذن بخراب العمران]
ووفقاً لهذه القاعدة تبحث اتجاهات الرصد والمتابعة إلى أين يتجه المجتمع مستقبلاً تطوراً وتخلفاً وانتهاضاً وانحطاطاً وسلاماً واحترابا..
والقرآن يحدد الاتجاهات من خلال ما يمكن أن نسميه بالسنن
(سنة الحياة والموت – سنة النصر والهزيمة – سنة النجاة والهلاك – سنة الإصلاح والفساد- إلخ)
أي المنظومات والقوانين والسنن في كل ذلك فكل من تعرف على هذه السنن كان أقدر على التعامل معها في سيرها وصيرورتها بحسب ما هو متاح للإنسان وفق منطق التسليم لله والعمل ضمن مشيئته الكونية والشرعية.
يقول المفكر المسلم علي عزت بيجوفيتش:
(للطبيعة حتمية تحكمها وللإنسان قدره والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للإسلام)
والتجارب والمحسوسات تشكل اتجاهات عامة في قراءة المستقبل.. وخاصة في الدراسات الإنسانية..
وأما في الدراسات الطبيعية فكل ما ثبت بالتجربة وتم التحقق منه فهو للحقيقة أقرب منه للنظرية الظنية،
لأن الطبيعة قوانينها ثابتة وسننها حتمية ولكنها تحتاج للكشف والمعرفة.
الرؤيا الصالحة أو الصادقة
(3) وتحدث التنزيل الحكيم وأضاف بعداً جديداً في علم المستقبليات وهو الرؤيا الصالحة أو الصادقة
وهي من المبشرات وهي جزء من النبوات ولم يبق من النبوة إلا ذلك وهي من المبشرات وقد وردت قصة كاملة عن ذلك في القرآن الكريم وهي قصة يوسف والتي افتتحت برؤيا يوسف
(يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
وتوسطتها رؤيا السجناء
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
ورؤيا الملك
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ )
وتنتهي بتكشف الرؤيا وتنزلها كحقيقة واقعية وهو المعبر عنه قرآنيا بالتأويل وهو التحقق والتنزل على الواقع عيناً وحقيقة بعد أن كان رؤيا منامية
(هَذَا تَأْوِيلُ رؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)
أي حقيقة ماثلة للعيان وبالتالي ما حدث من يعقوب ويوسف من قبل هو تفسير وفتيا لا تأويل
(يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا في سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنْبُلاتٍ خضْرٍ وَأخَرَ يَابِسَاتٍ)،
(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رؤْيَايَ إِنْ كنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ )
وبالتالي من كان له علم بالتعبير يمكنه الفتيا فيها وتفسيرها وتشكيل علم ظني بذلك على أن ينتظر تأويله واقعاً وهذا باب واسع يحتاج إلى تأمل وتدبر.
والمقصود من سرد القصص القرءاني هو العبرة
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كلِّ شَيْءٍ وَهدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يؤْمِنُونَ)
والعبرة من العبور وهو التجاوز من طرف إلى طرف (المعابر) وهو ما قصدناه في الاستدلال بقصة يوسف عليه السلام في التأسيس للمستقبل.
وخلاصة القول فإن المسلم يتعرف على المستقبل من خلال هذه الأصول (الرواية والرأي والرؤيا)
وهذه الكلمات عساها أن تفتح مجالا للتوسع في البحث العلمي وصولاً للكمال المنشود.
المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية