أشرف نعالوة.. رجلٌ دوّخ جيشاً بأكمله!
بقلم أحمد قنيطة
صباح السابع من أكتوبر2018 م لم يكن يوماً عادياً عند الفلسطينيين، حيث استيقظوا على أخبار سارّة مفادها أن فدائياً فلسطينياً تمكّن من تنفيذ عملية اطلاق نار على عدد من المغتصبين الصهاينة في المنطقة الصناعية “بركان” قرب مستوطنة “أريئيل” المُقامة على الأراضي المحتلة بمحافظة سلفيت شمال الضفة الغربية المحتلة، ليُردي اثنين من المغتصبين المحتلين صرعى، ويصيب ثالث بجراح خطيرة، ثم ينسحب من مسرح العملية بسلام متجاوزاً كل الإجراءات الأمنية المعقدة في المناطق المحتلة، وينجح في التخفّي عن مخابرات العدو واستخباراته التي واصلت الليل بالنهار من أجل الوصول إليه واعتقاله وفشلت في ذلك عدة مرات.
جاءت هذه العميلة النوعية في مرحلة تكاد تكون من أصعب المراحل التي تعيشها الضفة الغربية المحتلة، حيث ترزح مدنها وقراها تحت ظلم وجبروت الاحتلال الصهيوني الذي يستبيحها بشكل يومي، وينفّذ حملات الملاحقة والاعتقال بحق أي فلسطيني قد يشك الاحتلال أن له ميولاً نحو العمل المقاوِم، ومن جهة أخرى فإن الأيادي الآثمة للأجهزة الأمنية التابعة لسلطة “فتح” لا تدّخر جهداً في تقديم المعلومات للعدو من أجل ملاحقة واعتقال الثوّار والفدائيين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فلقد أعلن قبل أيام رئيس السلطة “عباس” متفاخراً، بأن سلطته تمكنت من مصادرة 90% من الأموال التي تُرسلها حماس من غزة المحاصرة للضفة الثائرة من أجل تشكيل خلايا للمقاومة، وأن ال10% التي نفذت هي التي نجحت حماس فيها بتنفيذ العمليات الأخيرة وقتل عدد من جنود الاحتلال!
عملية “بركان” التي نفذها البطل “أشرف نعالوة” جاءت في هذه الظروف القاسية التي تمر بها المقاومة في الضفة، وفي ظل حصار خانق يعانيه قطاع غزة، لتشفي صدور قومٍ مؤمنين، وتُذهب غيظ قلوب المُحاصَرين، وتستنهض همم الأبطال الغيورين، الذين كبّلتهم أغلال الملاحقة والمتابعة الأمنية، وهم يرون قدسهم تهوّد وأقصاهم يدنّس، فكانت باكورة لعدد من العمليات التي أشعلت لهيب الثأر في قلوب المجاهدين، وأبقت على جذوة الصراع في متوقدّة في نفوسهم، لتتحول الضفة إلى ساحة حرب مفتوحة بعمليات الطعن والدهس وإطلاق النار أسفرت عن مقتل 5 من جنود الاحتلال وإصابة ما يزيد عن 22 آخرين.
أشرف نعالوة لم يكن مقاتلاً عادياً نفّذ عمليته المباركة ثم ارتقى على الفور شهيداً، أو عاد بسلام بعد تنفيذ العملية إلى مناطقه “الآمنة” دون ملاحقة أو متابعة أمنية شديدة ومكثّفة، في الحقيقة أن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فهذا البطل ومنذ تنفيذه لعمليته الجريئة ونجاحه في الإفلات من الاجراءات الأمنية المعقّدة، التي تتمثل بعشرات الحواجز ونقاط التفتيش ومئات كاميرات المراقبة المنتشرة في معظم شوارع الأراضي المحتلة، أصبح كابوساً مزعجاً أرّق قادة العدو وحطّم منظومتهم الأمنية المتطورة، ليبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياته ويُصبح المُطارد والمطلوب الأول لدى جيش العدو في الضفة الغربية المحتلة، فمن هو أشرف نعالوة؟؟
أشرف وليد نعالوة (23 عامًا)، هو أحد أبناء ضاحية شويكة في محافظة طولكرم بالضفة الغربية المحتلة، كان شابًا عاديًا ولم يكن يظهر عليه أي توجهات فكرية ثورية قد تُثير الريبة والشكوك لدى العدو، تقول شقيقته: “لم يظهر على أشرف أي نشاط سياسي أو حزبي منذ البداية، ولم يشعر أحد بشيء، فقد كان كتوماً، وكانت العملية مفاجئة و صادمة للجميع، حتى للاحتلال الذي منحه إذناً للعمل داخل المغتصبات”. إذاً فقد نجح بطلنا في تضليل العدو وانتزاع “تصريح عمل” في الأراضي المحتلة، ليبدأ التخطيط لتنفيذ عمليته البطولية، فيراقب تفاصيل المنطقة بشكل جيد، ويتعرف على مداخلها ومخارجها وثغراتها ونقاط الضعف فيها، ويرسم لنفسه خطة مُحكمة لتنفيذ الهجوم ثم الانسحاب بسلام، فكان له ما أراد.
بسلاحه محلي الصنع من نوع “كارلو” الذي أدخله للمستوطَنة عبر حقيبة كان يحملها على ظهره، وفي دقائق معدودة حوّل أشرف المصنع إلى ساحة قتال حقيقية، ، فما إن بدأت الرصاصات تزغرد حتى سادت حالة من الخوف والرعب في أوساط المغتصبين الصهاينة الذين لاذوا بالفرار فور سماع طلقات الرصاص التي عاجلت اثنين منهم فأردتهم صرعى وأصابت ثالث بجراح خطيرة، وعلى الرغم من أن المغتصبين الصهاينة كيانٌ عسكري مسلّح، أفراده مدرّبون على مواجهة العمليات الفردية، إلا أنهم قوم جبناء يعشقون الحياة ويهربون من الموت ولا يجرؤون على مواجهة شابٍ وحيد يواجه دولة بأكملها بسلاحٍ بدائي.
يقول يوسي داغان رئيس المجلس الإقليمي لمستوطنات “شمرون”: إن “المستوطِنة التي قُتلت تم العثور عليها مكبلة اليدين”، مشيرا إلى أن المنفذ ربط يديها ومن ثم أطلق النار عليها فقتلها، من جهتها ذكرت القناة الصهيونية العاشرة، أن “المنفذ صعد إلى الطابق الثاني الذي يتواجد فيه الإداريون وقتل اثنين منهم وأصاب ثالثة”، ليُنهي بطلنا المهمة بنجاح ويمرّغ أنوف الصهاينة في التراب ويغرق المغتصبين المحتلين في دمائهم وينسحب من المكان بسلام، لتبدأ رحلة أشرف نعالوة مع المُطارَدة ويتحوّل اسمه إلى “أسطورة” أعادت إلينا أمجاد يحيى عياش وعماد عقل ومحمود أبو الهنود.
خمسٌ وستون يوماً من المطاردة والملاحقة اليومية والعمليات العسكرية والمُداهمات لمدن وقرى الضفة المحتلة، مدعومة بكتائب عسكرية ووحدات خاصة ووسائل تكنولوجية متطورة وطائرات استطلاع حديثة، تخللها حملات اعتقال وتحقيق واسعة بين الأهالي سعياً للظفر بمعلومات قد تدل الاحتلال على مكان الأسد الرابض في عرينه دون جدوى، فقد لاحق الفشل جيش العدو في كل مرة كانوا يحاصرون فيها بيتاً من بيوت المواطنين ظناً منهم أن أشرف متواجداً فيه، ثم يعودوا أدراجهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، حتى أصبح جيش الاحتلال يتعامل معه كإبرة اختفت في كومة قش، فجميع المعلومات الاستخبارية التي جمعها العدو منذ تنفيذ العملية كانت عبارة عن سراب، ولم تحقق لقيادة العدو أي انجاز يُذكر.
الحاضنة الشعبية للمقاومة أبلت بلاءً حسناً في دعم البطل المُطارد، ونجحت إلى حد كبير في أن تكون درعاً حصيناً وسداً منيعاً لحمايته وتضليل أجهزة أمن العدو وعملائه عن الوصول إليه، من خلال خروج الشباب الثائر بشكل يومي للتصدي لآليات العدو التي تقتحم المدن والبلدات ورجمهم بالحجارة وزجاجات المولوتوف الحارقة، كذلك الدعوات التي أطلقها رواد مواقع التواصل الاجتماعي لحث أصحاب الشركات والمؤسسات والمحلات والبيوت على إتلاف أجهزة التخزين الخاصة بكاميرات المراقبة التي قد تساعد العدو في تتبع تحركات “أشرف” وتساهم في اعتقاله، وهنا يبرز دور الاهتمام بالحاضنة الشعبية والعمل على رفع مستوى الوعي لدى الشعوب بأهمية تبني خيار الجهاد والمقاومة واحتضان أبطال الأمة الذين يبذلون الغالي والنفيس من أجل حرية وكرامة شعوبهم.
لم يكن “أشرف” المجاهد الوحيد الذي أرهق العدو وزعزع أمنه واستقراره في هذه الفترة بالتحديد، فقد جاءت عملية (عوفرا) البطولية قرب رام الله، التي نفذها البطل صالح عمر البرغوثي بتاريخ 9 ديسمبر2018 م، حيث هاجم نقطة عسكرية صهيونية على طريق عام، وخلال 6 ثواني فقط وفق التقديرات الأمنية للاحتلال أمطر “صالح” النقطة العسكرية بوابل من الرصاص فأصاب “11 جندياً” بجراح مختلفة، ثم انسحب على الفور هو الآخر من المكان بسلام، لتقلب هذه العملية الجديدة الطاولة في وجه قادة العدو وتزيد من تعقيد المشهد الأمني والاستخباري، وتصبح الضفة بركاناً يغلي على شفا الانفجار إيذاناً بانطلاق موجة جديدة من العمليات الفدائية التي من الواضح أنها ستتطور لانتفاضة عارمة.
“صالح البرغوثي” هو بطلٌ سليل عائلة مباركة مشهودٌ لها بالجهاد والتضحية، فوالده هو “عمر البرغوثي” الذي قضى “26 عاماً” في السجون، وشقيقه عاصم قضى “11 عام” وعمّه هو “نائل البرغوثي” أقدم أسير في العالم، قضى في سجون الاحتلال قرابة الـ 37″عام”، وأُفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار عام 2011 م، ليعيد الاحتلال اعتقاله مرة أخرى عام 2014 م، وخاله هو الأسير المحرر المُبعد إلى قطاع غزة “جاسر البرغوثي” الذي تمكّنت المقاومة من تحريره في صفقة وفاء الأحرار، وهو محكوم عليه بـ 8″ مؤبدات” قضى منها 8 سنوات، ويتهمه الاحتلال بتأسيس مجموعات لكتائب القسام بمدينة رام الله ساهَمت في قتل 18 صهيونياً.
13 ديسمبر 2018 م، كان صباحاً قاسياً وضربة مؤلمة تلقاها الشعب الفلسطيني، امتزجت فيه المشاعر حزناً وفخراً بارتقاء بطلين من أبطال الأمة ممن أقضّوا مضاجع الاحتلال وسلبوا النوم من عيون قادته ومغتصبيه، حيث اقتحمت قوة صهيونية خاصة مدينة رام الله وأطلقت النار نحو سيارة فلسطينية، كان يستقلها منفذ عملية “عوفرا” صالح البرغوثي، ليرتقي شهيداً –نحسبه كذلك- بعد أن نكّل وأثخن في جنود الاحتلال ومستوطنيه، وبعد ساعات من عملية الاغتيال تلك، توجّهت الأنظار نحو مدينة نابلس حيث وقع اشتباك مسلّح بين قوة من جيش الاحتلال ومقاوم فلسطيني، فكانت الفاجعة بارتقاء البطل المُطارد أشرف نعالوة منفذ عملية (بركان) بعد أن جرّع الاحتلال مرارة ظلمه وجبروته وسقى جنوده الموت والقهر أشكالاً وألواناً
سريعاً وقبل أن تجف دماء الشهداء الطاهرة التي روّت ثرى أرض فلسطين المباركة، وبعد ساعات قليلة من عمليتي الاغتيال، جاء الرد حاسماً ليشفي صدور قومٍ مؤمنين ويذهب غيظ قلوب الموحّدين، بعملية طعن جريئة في القدس المحتلة نفذها الشهيد البطل “مجد مطير” حيث هاجم بـ “سكين مطبخ” جنديين صهيونيين مدججيْنِ بالسلاح فأصابهما بجراح، بعد ساعتين فقط من عملية الطعن وقعت عملية إطلاق نار بطولية نفذها بطل جديد من أبطال الضفة قرب مستوطنة “جفعات أساف” شرق رام الله أسفرت على الفور عن مقتل ثلاث جنود صهاينة وإصابة آخر بجراح خطيرة، واغتنام قطعة سلاح بعد سحق المنفّذ البطل الجنود الصهاينة وأجهز عليهم، ثم انسحب بسلام.
كتائب الشهيد عز الدين القسام تبنت عمليتي إطلاق النار “بركان” و “عوفرا” وأعلنت أن الشهيدين “أشرف نعالوة” و”صالح البرغوثي” هما مجاهديْن من جنود كتائب القسام وتوعّدت العدو بمزيد من العمليات التي ستحرق العدو، تذيقه بأس رجالها من حيث لا يحتسب العدو ولا يتوقع، فيما لا يزال منفذ عملية “جفعات أساف” مطارداً حتى اليوم، وبصمات كتائب القسام تبدو واضحة على هذه العملية، حيث تشير التقديرات الأمنية لدى العدو أن منفّذ العملية ينتمي لنفس الخلية التي نفّذت عملية “عوفرا”، وتدعي الأوساط الأمنية الصهيونية أن “عاصم” شقيق الشهيد “صالح البرغوثي” هو من يقف خلفها.
وتستمر ضفة العياش في مفاجأة العدو وارباك حساباته الأمنية، وتوجيه الضربات المستمرة لجنوده ومغتصبيه حتى يعلموا أن بلادنا حرامٌ عليهم، وأنه لا مُقام لهم في أرضنا، ولن يحلموا بالأمن فيها ما دام فينا عرقٌ ينبض، وبرغم كل المحاولات الآثمة من أباطرة السلام والتعايش والتعاون الأمني مع العدو الغاصب، إلا أن آساد الضفة الأُباة ما زالوا على العهد والوعد، ولا زال في جعبة القسام وفصائل المقاومة وشباب الانتفاضة، ما يسوء العدو ويكسر شوكته ويعيد للضفة وَهَجَها وأمجادها وجذوة الجهاد فيها بانتظار نصرٍ عظيم وفرجٍ قريب وعودةٍ مباركة للقدس والأقصى فاتحين محررين، ويقولون متى هو، قل عسى أي يكون قريباً.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)