“أسلِم تسلَم”… نحو فهم جديد في إطار الممارسة النبوية
بقلم أحمد التلاوي
“أسلم تسلَم”… عبارة قد تبدو بسيطة في مبناها، ولكنها من أكثر الجُمَل التي حفظها التاريخ الإنساني، وليس الإسلامي فحسب، حيث إنها كانت محور الكثير من الأمور الإشكالية، أو –بمعنىً أدق– تحولت إلى إشكالية بسبب التفسير الذي وُضِعَ لها.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه الفقرة بحاجة إلى الكثير من التناول والشرح؛ حيث إن هذه العبارة التي وردت في الرسالة التي بعث بها الرسول الكريم، محمد “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، إلى هرقل عظيم الروم، يدعوه فيها إلى الإسلام، قد أُسيء تفسيرها من جانب عدد كبير من المفكرين والمفسرين عبر التاريخ الإسلامي، بحيث خدمت أسوأ رسالة سعى خصوم الدين والأمة، وأعداء المشروع الحضاري الإسلامي، إلى غرسها كصورة ذهنية عن الدعوة، وهي أن الإسلام قد انتشر بالتهديد وبحدّ السيف.
وفي حقيقة الأمر، فإن هناك أسباباً كثيرة للغاية قادت إلى هذه القراءة الخاطئة لعبارة الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، من بينها طبيعة البيئة العربية التي ظهر فيها الإسلام، والتي تستند إلى مشاعر الفخر والعزة والحماسة، والفتوحات الإسلامية وقت الخلفاء الراشدين، والتي لم يتم النظر إلى جذور أسبابها، والتي كانت بالفعل تُعتَبر امتدادًا لحروب دفاعية الطابع قام بها النبي “عليه الصلاة والسلام” في أواخر سنوات البعثة لرد الاعتداءات عن أطراف دولة الإسلام الأولى.
وبنفس المنطق أسيء فهم أحاديثه “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، التي قدَّم فيها بعض التصورات المستقبلية، ومن بينها أحاديث فتح مصر وبلاد فارس وبلاد الشام؛ حيث إن هذه الأحاديث –كما عبارة “أسلم تسلَم”– لم تعنِ إطلاقًا أن الرسول “عليه الصلاة والسلام” قد دعا إلى نشر الإسلام بالحرب، وإنما أتت في إطار ما أطلعه الله سبحانه وتعالى عليه من أمور تتعلق بأن المسلمين سوف يفتحون هذه البلاد كتطور لحروب المسلمين دفاعًا عن أطراف الدولة الإسلامية ضد هجمات الفرس والروم، وعوانهم من ساسانيين وغساسنة، في العراق وبلاد الشام.
إن أحاديث فتح العراق والشام –كما عبارة “أسلم تسلَم”– لم تعنِ إطلاقًا أن الرسول “عليه الصلاة والسلام” قد دعا إلى نشر الإسلام بالحرب، وإنما أتت في إطار ما أطلعه الله سبحانه وتعالى عليه من أمور تتعلق بأن المسلمين سوف يفتحون هذه البلاد كتطور لحروب المسلمين دفاعًا عن أطراف الدولة الإسلامية
ولذلك، فإنه وقت أمير المؤمنين، عمر بن الخطَّاب “رضي الله عنه”، كان هناك إدراك أن هذه الأحاديث سوف تحدِث الكثير من اللبس، فمنع عمر تداولها، وكان أبو هريرة “رضي الله عنه” من أول من استجاب لذلك.
وفي حقيقة الأمر، فإن هناك بواعث عديدة للتساؤل عن سبب وضع الأقدمين لهذا التفسير لعبارة الرسول الكريم “صلَّى الله عليه وسلَّم”، والذي ترتب عليه –هذا التفسير، أو هذه الرؤية– في ظل مدرسة أو منهج السلف، أن تكون بمثابة “عقيدة” راسخة، وإن كانت خاطئة، لدى الأجيال التالية من المسلمين.
فالرسالة النبوية لهرقل، فيها الجملة كاملة كالتالي: “أسْلِم تسلم يُؤْتِكَ اللهُ أجرك مرتَيْن فإن تولَّيْت فإن عليك إثم الأريسيِّين”، ثم تلا قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سُورة “آلِ عمران”–الآية: 64].
فالرسالة لا يُوجد بها أي تهديد بفرض الإسلام بالقوة على الروم. إطلاقًا، فهي تكلمت عن أن أجر الإسلام سيكون لله تعالى، والعقاب من الله تعالى، وهذا موجود في كل آيات القرآن الكريم التي دعت إلى دخول الإسلام، فهي تعني بذلك سلامة الإنسان في الدنيا والآخرة.
والدليل التاريخي العلمي المادي موجود بعد هذه الرسالة ورفض الرومان لها، فلم يقُم النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” بغزوهم، وما جرى من حروب بين دولة النبوة والدولة الرومانية، وقع في شمال شبه الجزيرة العربية بعد غارات للدولة الرومانية وحلفائها العرب المسيحيين، الغساسنة، على حدود الدولة الإسلامية الوليدة. لم تحدث في داخل حدود الدولة الرومانية.
وهذا السلوك النبوي تكرر في مواقف عديدة، حيث نجده في وصاياه “عليه الصلاة والسلام”، إلى سفرائه الذين بعث بهم إلى أطراف شبه الجزيرة العربية، كما في اليمن، عندما بعث معاذ بن جبل “رضي اللهُ عنه”، لدعوة الناس هناك إلى الإسلام، حيث قال له: (تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله”، وفي وفي رواية “إلى أنْ يوحِّدوا الله”، وفي رواية “إلى أن يعبدوا الله”، ثم: “فإن هم أطاعوك لذلك فأعْلِمْهُم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) [ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما].
ونجد أن الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” قد نهاه تمامًا عن الأخذ من مالهم بغير وجه حق، وغير ذلك من الوصايا التي تبرز أن منهج الإسلام في الدعوة، لا يخرج عن نطاق الحكمة والموعظة الحسنة واللين والإقناع، لا الجبر أو الحرب، وإلا كان الرسول “عليه الصلاة والسلام” قد غزاهم، وكان في حينه قادرًا على ذلك.
وفي حالة رسالته “عليه الصلاة والسلام” إلى هرقل، نجد أنه لم يقدِم على غزو بلاد الروم برغم رفض هرقل للإسلام.
فالرسول “عليه الصلاة والسلام”، كان حاكمًا لدولة المدينة، وأول ما قام به بهذه الصفة، كانت وضع أول دستور مواطنة في التاريخ، ولم يفرض الدين أبدًا على مشركي العرب أو اليهود ممَّن ساكنوا المسلمين في المدينة.
وكذلك هناك وثيقة الأمان الشهيرة التي أعطاها لنصارى نجران في العام التاسع للهجرة، وأورد فيها ابن سعد في طبقاته، والبيهقي في “دلائل النبوة”، الكثير الذي يقول بأنه لا يمكن بحال أن الإسلام يتم فرضه.
وفي هذا الإطار، ثمَّة مشكلة يمكن أن نصفها باطمئنان، بأنها مشكلة أصولية في التعامل مع الكثير من الأمور، وهي الأخذ من النص، وبالذات الحديث النبوي أو النصوص التي صح نسبتها للرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، من دون مطابقتها مع السيرة النبوية، والممارسة النبوية في المجال الذي يتعلق به النص، حيث هناك انفصال كامل لدى نسبة مُعتَبَرة بين الدارسين والعاملين في حقل العمل الإسلامي، بين النص النبوي وبين السيرة النبوية.
ثمَّة مشكلة يمكن أن نصفها بأنها مشكلة أصولية وهي الأخذ من النص، وبالذات الحديث النبوي أو النصوص التي صح نسبتها للرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، من دون مطابقتها مع السيرة النبوية، والممارسة النبوية في المجال الذي يتعلق به النص
فهنا لا تجوز المراجعة بأحاديث نبوية أو منسوبة للرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، تكلم فيها عن أنه أُمِرَ بقتال الناس حتى كذا، أو حتى يدخلوا في دين الله تعالى، فهذا كله مردود عليه من الممارسة النبوية نفسها، حيث لم يفعل الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” ذلك.
وهناك كثير من العلماء الثقاة الذين قالوا بأنه بالتالي، فإن النبي “عليه الصلاة والسلام” لم يقصد المعنى الظاهري من هذا الكلام.
والنموذج الشديد الوضوح هنا، حديث “لقد جئتكم بالذبح”، الذي أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، وضعَّفه البعض، فبينما يعتبره بعض الذين يصنِّفون أنفسهم بالجهاديين، يعتبرونه “علامةً” على النبي “عليه الصلاة والسلام”، يعرفونه بها، وأساسًا للدعوة وسياقات نشر الإسلام، فإن “ما فعله” الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” بعد فتح مكَّة، ينفي المعنى الظاهري بالإطلاق لهذا الحديث، حيث عفا بعد الفتح حتى عن شخصيات من قريش كانت حاضرةً للموقف الذي قيل إنه قد قال فيه هذه الجملة، وقصدهم بها.
وبالمنطق البسيط، فإن السلوك النبوي مقدَّم على أي نص منسوب للنبي “عليه الصلاة والسلام”، لو حدث تعارضٌ ظاهري بين النص والممارسة، وأنه أولى نفي النص أو بحث جذوره أو ما شابه، للتأكُّد منه؛ لأن الفعل العمدي لا جدال فيه، ومُوثَّق بشكل أكبر، وهذا حكمة من الله تعالى أن تكون السيرة النبوية كأوضح ما يكون؛ لأنها المرجعية الأساسية للإسلام في المجال التطبيقي.
السلوك النبوي مقدَّم على أي نص منسوب للنبي “عليه الصلاة والسلام”، لو حدث تعارضٌ ظاهري بين النص والممارسة لأن الفعل العمدي لا جدال فيه، ومُوثَّق بشكل أكبر
ناهينا في ذلك عن أن القرآن الكريم مليء بمئات الآيات التي تؤكد أن حساب الناس على الله تعالى وحده، وأن الدين لا إكراه فيه .
وفي السيرة النبوية أمورٌ كذلك تجُبّ ما يقوله البعض بشأن نقطة “تمام الدين” التي يطبقونها من دون فهم مُعمَّق لها، بسبب عدم الاهتمام بدراسة السيرة النبوية، حيث إن المواقف التي أخذ فيها الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، بعض القرارات التي استجابت لمتطلبات المواقف بالمهادنة، ويقولون بأن ذلك بطل بعد تمام الدين بانتهاء الوحي ووفاته “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، والتمكين للمسلمين، فإننا بمراجعة السيرة النبوية، سوف نجد مواقف أخرى سابقة على مواقف المهادنة، كان القرار النبوي فيها واضحًا، وهو قرار الحرب والمواجهة مهما كانت صعوبتها وعواقبها.
وذلك مثل الحال بين غزوة “الخندق” أو “الأحزاب” وصلح الحديبية مثلاً، فلا يوجد ترتيب مقصود بين المهادنة/ السلم، وبين قرارات الحرب والغزو، وبين قضية التمكين.
والآن، ما هي نتيجة هذا الفهم الخاطئ؟! جماعات مارقة عن الدين، فرضته بكل وسائل القهر على الناس، فكانت النتيجة واضحة، وهي حلق اللحية وحرق النقاب أمام وسائل الإعلام بعد إخراج هذه المجموعات من المناطق التي سيطرت عليها، كما تم في مناطق سيطرة تنظيم الدولة “داعش” قبلاً، في سوريا والعراق.
وفي الأخير، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن السيرة النبوية عامل فصلٍ شديد الأهمية في معرفة كيفية إسقاط الحكم الشرعي على واقع الحال، وتطبيق التعاليم الشرعية التي وردت في القرآن الكريم، وأمر اللهُ تعالى بها المسلمين .
وتزداد أهمية السيرة النبوية في الأمور ذات الطابع الإشكالي التي يقع فيها الخلاف، مع غياب النص الواضح في القرآن الكريم في صددها لحِكَمٍ عدَّة شاءها الله عز وجل.
وتصل هذه الأهمية إلى قمتها في شأن ما يتعلق بأمرَيْن أساسيَّيْن، أحدهما سكتَ عنه القرآن الكريم بشكل كبير، والثاني، يحدث فيه الكثير من الخلط لدى القائمين على العمل الإسلامي.
الأمر الأول، هو نظام الحكم والسياسة في الإسلام، حيث المرجع الوحيد التفصيلي للمسلمين في الجانب التطبيقي في هذا المجال، هو السيرة النبوية، وبالتحديد تلكم الفترة التي قضاها الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، حاكمًا لدولة المدينة، وحتى وفاته عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني، هو ذلك المتعلق بالدعوة، ولعل أهم ما يتعلق بأمر الدعوة، وطرائقها، وهو التدرج واختلاف التعامل مع الموقف الواحد باختلاف الظروف، والتدقيق في خلفيات نزول أحكام الجهاد والقتال وغير ذلك، في القرآن الكريم، حيث السيرة النبوية تمثل التطبيق الصحيح، والصحيح الوحيد بنسبة تامة كاملة، للنص في هذه الأمور.
(المصدر: موقع بصائر)