أسس ومعايير النجاح والإنجاز في الحياة من منظور التصور الإسلامي
بقلم أحمد التلاوي
من بين أهم الأمور الغائبة في فهم واستيعاب عدد كبير من عوام المسلمين لمفهوم الدين، وماهيته، ودوره في حياتنا، قضية أنه الأداة الرئيسة التي يجب أن يرى بها الإنسان المسلم هذا العالم، أو ما يُعرَف بالتصوُّر الإسلامي.
ويرتبط هذا الأمر بعدد من الأمور العقدية المهمة، وعلى رأسها، شرط التسليم والإذعان، وهو من صميم الإسلام الصحيح للمرء؛ حيث إن تحرُّك الإنسان في الحياة الدنيا من خلال التصور الإسلامي، يعني تحقيق جوهر هذا الدين، وهو التسليم لله تعالى وأحكامه في كل شيء ، وبالتالي، هو جزء لا يتجزَّأ من توحيده وإفراده بالربوبية والألوهية، وإفراده بالعبادة.
كما أن هذا الأمر يتضمن كذلك إيمانًا بشمول وتمام هذا الدين، وبأن فيه، وبالتحديد في الوثيقة الأساس لهذا الدين –لو صحَّ التعبير– أي القرآن الكريم، إجابات على كل ما يقابل الإنسان من مسائل وإشكالات، وآليات وتوجيهات للتعامل مع كل المواقف.
وحتى الذين لديهم مثل هذا الفهم؛ فإنه لا يوجد لديهم بشكل كامل، ويعتقدون أن الدين فقط هو العقيدة، وحتى مفهوم العقيدة لديهم قاصر؛ إذ يرونها فقط في نطق الشَّهادتَيْن، بينما الشهادتَان هما مفتاح الدخول إلى الإسلام، بينما ما سبق وغيره، هو جزء من عقيدة الإسلام التي تتضمن باقي ما نعلم من عبادات ومعاملات.
والأخيرة بالذات هي التي تتضمن قضية التصور الإسلامي للحياة بالمفهوم القريب لهذه القضية؛ حيث يغلب عليها نقطة السعي وتفاعلات الإنسان مع الآخرين، ومع مفردات الحياة من حوله بشكل عام.
ولعل عبقرية الإسلام في هذا الأمر، هو أنه قد كوَّن إطارًا شاملاً في هذا الصدد، كما تقدم، ولكن مع مرونة كاملة تسمح باستيعاب كل جيد ومفيد من أي إطار إنساني آخر. فالإسلام لم يحرِّم الأخذ من الأنماط الفكرية والاجتماعية الأخرى مادامت لم تتعارض مع صريح أحكام الدين، ولا تصادف محرَّمًا أو مضرَّة .
والإسلام بشكل عام، هو دينٌ مبنيٌّ في تعاليمه وتصوراته على الفطرة السليمة، ولا يتضاد معها، لأن كليهما – الدين والفطرة والخلق – من مصدر واحد، وهو الخالق عزَّ وجل وبالتالي؛ فإنه في الأصل؛ لا تعارض بين الدين وبين كل ما هو نافع وسويٍّ من الأمور.
وتعود أوجه الخلل والقصور في فهم المسلمين لهذا الأمر، إلى سبب أساس، وهو غياب التعليم الديني السليم في منظومات التربية والتلقين كافة، سواء في مدارسنا، أو على مستوى العمل الإعلامي وحالة النشر، ربما باستثناء بعض طاقات النور التي بدأت هنا وهناك من خلال رموز وحركات إصلاحية ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وحتى يومنا هذا.
ومن بين أقرب الأمور لقضية التصور الإسلامي الذي يجب أن يحكمنا في حياتنا، هي قضية السعي، الذي هو المجال التطبيقي للعقيدة والأفكار ومرتكزات القيمة التي نؤمن بها كمسلمين.
وفي عصرنا الحديث، احتلت قضايا بعينها أولوية لدى شريحة الشباب، مثل تنمية الذات وكيفية رسم مسارات حياتهم وفق ميولهم ورؤيتهم حول أدوارهم التي يرونها لأنفسهم في الدنيا، وما يريدون تحقيقه، وكيف يصلون إلى مرتبة الإنجاز والنجاح.
وهناك تيارات متعددة داخل هذا السياق لنقطة الغَائيَّة، فهناك مَن يضع تحقيق شهرة في أي مجال من المجالات، وهناك مَن يطمح في تحقيق ثروة، وهناك مَن له طموح في المجال الثقافي والكتابة.
وحتى على مستوى الدول؛ فإن هناك مستهدفات متعارف عليها، ظهرت مع ظهور الدولة بمفهومها المتعارف عليه؛ سلطة وشعب وحدود وقوانين وما إلى ذلك، حملتها لنا كتب العلم، وحملتها لنا الممارسة التاريخية، عن قضية النجاح والازدهار، والتي تدور حول رفاهية المواطن وحماية المجتمع واستقراره، والحفاظ على تماسكه، وضمان بقاء الكيان المُسَمَّى بالدولة.
ومن المعروف أن ذلك لن يتم إلا من خلال تحكيم القانون واحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك الأقليات، وضمان تطبيق منظومة قواعد الحكم الرشيد، أو ما يطلق عليه بعض المفكرين المسلمين، بالرشد السياسي وأسسه المعيارية، ومنهم المفكر السوري لؤي صافي.
وكل هذا لا غبار عليه، ولا يملك أحدٌ توجيه اللوم أو العتب إلى أصحاب هذه الطموحات والأحلام، وهي من صميم قواعد العمران السياسي والاجتماعي، وهي منظومة التطور الحضاري في الأصل، والتي التزمت أول ما التزمت بهذه الأمور، ولذلك حققت السيادة على العالم القديم بالكامل لقرون طويلة، وحتى في قلب أوروبا ذاته، عندما كانت دولة الإسلام في الأندلس هي مفتاح الغرب لدخول عصر التنوير الذي امتد أثره إلى وقتنا الحالي.
إلا أنه ثمة بعض الأمور التي قد تغيب عن مفاهيمنا في الوقت الحالي، وهي أنه من صميم كونك مسلمًا، أن يكون ضمن معايير الإنجاز وتحقيق النجاح لديك، هي أن تقوم برسالتك كمسلم.
فنحن كمسلمين لو قصرنا حراكنا في هذه الدنيا على التطور الاقتصادي، وتحقيق منجزات مهنية أو ما شابه؛ فما الذي يميزنا عن الآخرين في المجتمعات والحضارات الأخرى؟!.. في الحقيقة لا شيء، وبالتالي؛ فإن الأمر قريب في توصيفه، بأننا لم نُقِم إسلامنا كما ينبغي.
لو قصرنا حراكنا في هذه الدنيا على التطور الاقتصادي، وتحقيق منجزات مهنية أو ما شابه؛ فما الذي يميزنا عن الآخرين في المجتمعات والحضارات الأخرى؟!.. في الحقيقة لا شيء، وبالتالي؛ فإن الأمر قريب في توصيفه، بأننا لم نُقِم إسلامنا كما ينبغي
وهنا يجب أن نقف أمام مفهوم “إقامة الإسلام”، فهذا المفهوم ليس كما يتبادر إلى الذهن البسيط، أنه الجهر بالأذان أو إقامة الشعائر المختلفة؛ حيث الإسلام –كما في عقيدتنا ونؤمن به– هو دينٌ شامل وتام، وبالتالي؛ فهو حضارة كاملة، ومن تمام إقامتنا كمسلمين، فرادى ومجتمعات وأمة، للإسلام كإطار شامل للحياة.
ومن ثَمَّ؛ فإن هناك واجبات إضافية على كل شاب ساعٍ للتفوق والتميُّز في مجاله، أولها على الأقل في أن يبرز هويته المسلمة، وأن يقول كيف أن الإسلام بقواعده قد قاده إلى تحقيق هذا النجاح، وعلى أقل تقدير؛ كيف أن الإسلام لا يعيق التطور؛ بل على العكس، وكما أثبتت الخبرة التاريخية؛ هو يساعد ويدعم كل صور العمران والتطور، الفردي وعلى مستوى المجتمعات والأمم على حدٍ سواء.
ولا يختلف الفرد المسلم في ذلك عن الدولة المسلمة، والجماعة المسلمة؛ حيث إنها في كل أمورها، يجب أن تتحرك وفق منظور كيفية تقديم النموذج الإسلامي الشامل، وتقديم نموذج طيب لمعنى أن تكون مسلمًا.
الجانب الأهم من ذلك، هو خدمة الإسلام نفسه؛ حيث إن معيار الإنجاز بالنسبة للمسلم في الحياة الدنيا، لا يُقاس بما يحققه لنفسه فحسب، وإنما عليه واجبات عظيمة تجاه دينه، تبدأ بتقديم النموذج الدعوي الطيب، وصولاً إلى خدمة قضايا الأمة الأهم، والمسلمين في كل مكان، بدءًا من الدعوة وصولاً إلى رعاية حقوق المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
إن معيار الإنجاز بالنسبة للمسلم في الحياة الدنيا، لا يُقاس بما يحققه لنفسه فحسب، وإنما عليه واجبات عظيمة تجاه دينه، تبدأ بتقديم النموذج الدعوي الطيب، وصولاً إلى خدمة قضايا الأمة الأهم، والمسلمين في كل مكان
والواجب الأخير يكتسب الكثير من الأهمية في عصرنا الحالي؛ حيث تواجهه شعوبٌ مسلمة بالكامل خطر الإبادة، كما في حالة الروهينجيا في ميانمار، والإيجور في الصين، وكذلك الأزمات الضخمة التي يواجهها المسلمون في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في ظل تصاعد وجود التيارات اليمينية الشعبوية، وتنامي جرائم “الإسلاموفوبيا”.
وهنا ثمَّة بعض الأمور الواجب إدراكها، وهي أن كل ما يستطيع أن يقوم به المسلم، أيًّا كان موقعه، ومهما كان ما يقوم به بسيطًا.
وهذا الأمر من الأهمية بمكان إدراكه منَّا جميعًا، لأن البعض يبلغ من الحماسة، بحيث يتوجه للقيام بأمور تخرج عن قوانين مهمة وضعها اللهُ تعالى في خلقه، ونحن من أهم مفردات هذا الخلق، مثل قوانين الاستطاعة والملائمة، وكذلك قضية الرعاية.
فكل واحد منَّا لو قام بواجبٍ بسيط في إطار دوائر رعايته –أيًّا كانت– ووفق نطاقات قدراته –مهما كانت بسيطة ومتواضعة– وملائمة لما هو عليه من سمْت وطاقات؛ فإننا سوف نقف أمام أثرٍ تراكمي عميق.
وفي الأخير؛ فإن الرسالة المهمة التي يجب أن يصل بها تربويونا وإعلاميونا وكل العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة للنشء الجديد والشباب المسلم الصاعد، هو أن أهم معايير النجاح والإنجاز، هو كيف قد خدمت دينك، ورسالتك في الحياة، لا تقف عند حدود الإنجازات الشخصية؛ لأن الدين هو جذر هوية الإنسان المسلم، ودائرة انتمائه الأكبر، وأي شيء خارج هذا النطاق، لا يُعتبر إنجازًا!
(المصدر: موقع بصائر)