أسس واتجاهات المدرسة الإصلاحية الحديثة بالمغرب (1من2)
بقلم بلال التليدي
من الضروري أن نشير إلى تعدد زوايا النظر التي حاول من خلالها الباحثون استعراض المدرسة الإصلاحية المغربية الحديثة، بل إنه من المفيد التأكيد أن زاوية الدراسة هي الأخرى تترك تأثيرها، وتجعل الباحث يخلص إلى سمات لا يخلص إليها باحث آخر التمس زاوية نظر أخرى مختلفة. فمن الطبيعي جدا، أن يخلص الباحث في دراسته لعينات من هذا التراث الإصلاحي، تخص جوانب الانفتاح على الثقافة الوافدة، إلى نتائج مخالفة لمن ركز زاوية نظره على دراسة عينات أخرى تركز على الجهاد وأبعاد المقاومة للأجنبي في التراث الإصلاحي .
ولذلك سنحاول في هذه المساهمة أن نلقي الضوء على ستة زوايا نظر مختلفة نحسب أنها تقدم طيفا متعددا يسمح بقدر معتبر من التمثيل لعينات التراث الإصلاحي المغربي:
محمد المنوني والمحاولة الوصفية
ونقصد بهذه المقاربة جهود الفقيه محمد المنوني في إبراز مختلف الطيف المعبر عن الحركة الإصلاحية التجديدية التي عرفها المغرب الحديث، سواء من موقع السلطة (الحكم)، أو من موقع المجتمع (العلماء والمثقفون)، ومحاولة تفسير طبيعة العلاقة بين المحاولتين، واستعراض مختلف الأدبيات الإصلاحية مصنفة في سياق تاريخي مطرد، بذكر عناوين ومصادر ورسائل وفتاوى وكتب ورموز، وأحيانا بذكر التفاعلات التي تحدثها بعض الأدبيات، ووضع ذلك في سياقه التاريخي والسياسي والاجتماعي.
وقد سلك المنوني هذه المنهجية في كتابين اثنين، الأول قصد به الكشف عن مظاهر اليقظة والصحوة الإصلاحية في المغرب الحديث والثاني، جاء في سياق رصد المصادر العربية لتاريخ المغرب، إذ اعتبر في كتابه هذا مختلف الأدبيات الإصلاحية وثائق مرجعية يمكن الاعتماد عليها لكتابة تاريخ المغرب.
ومع ما بين الكتابين من توافق، وأحيانا تطابق في كثير من المعطيات، إلا أن الكتاب الأول، هو الذي يكشف أكثر طريقته وزاوية دراسته لهذه الأدبيات، إذ كان القصد من تأليف الكتاب كما ذكر المؤلف ذلك في مقدمته هو كشف واستعراض أوجه حركة الانبعاث والتجديد التي عرفها المغرب الحديث.
تتسم دراسة المنوني بالسمات الآتية:
ـ التأطير التاريخي والسياقي للأدبيات الإصلاحية: ونقصد بذلك أنه عرض لهذه الأدبيات ضمن سياقها التاريخي، والحالة العامة التي كان يعرفها المغرب.
ـ استعراض مشمولات هذه الأدبيات الإصلاحية وما تضمنته من أفكار مع الإحالة إلى مظانها.
ـ الاستيعاب لمشمولات الفكرة الإصلاحية بمنهجية الإشارة الموضوعية.
أما في كتابه الثاني: “المصادر العربية لتاريخ المغرب”، فقد كان أشمل من حيث استيعابه للموضوعات، فأضاف إلى الموضوعات السابقة موضوع رسائل ومؤلفات العلماء ضد البدع، وموضوع المحجر الصحي واستثمار الاستعمار له لفرض سلطته وتدخله، وموضوع مواقف العلماء من دعوات حرية العقيدة، والموقف من التجارة مع أوروبا، والموقف من حظر المخدرات وقضية السكنى تحت حكم ألأجنبي وغيرها من الموضوعات الأخرى.
ـ الانضباط لمنهج الوصف الكتبي من غير تحيز إيديولوجي أو سياسي: فقد سلك المنوني منهج القيمين على المكتبات، في لفت العناية للكتب التي تم تأليفها في أطوار من تاريخ المغرب مع بيان ملابساتها، والموضوعات التي اشتغلت عليها، والتعريف بأعلامها ونبذ من ترجماتهم، وخلفيات عن دعوتهم ورسائلهم وكتبهم، مع جهد في التصنيف بحسب الموضوعات.
ـ الجمع بين استعراض الأدبيات الإصلاحية العامة والأدبيات الإصلاحية الجزئية: فقد تضمن كتابه إشارات لكتب ومؤلفات وأعلام إصلاحية دعت إلى إصلاح الحالة للمغرب بمختلف جوانبها الإدارية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والعقدية والأخلاقية، وبين مؤلفات وأعلام إصلاحية، كان لها وجهات نظر في قضايا إصلاحية جزئية مثل محاربة البدع أو الدعوة إلى الجهاد أو غيرها من القضايا الجزئية.
وعلى العموم، هذا ما توقفنا عليه عند دراستنا لمساهمة المنوني من الخصائص في تناوله للتراث الإصلاحي للمغرب الحديث. وهي المساهمة التي أضحت تشكل مدخل كل باحث للفكر الإصلاحي المغربي، بحكم أن الفقيه المنوني يتجاوز عرض الرسالة ومضمونها إلى الإشارة إلى مظانها داخل الخزنات العامة وحتى الخاصة، وبعض التوجيهات البحثية التي تلفت الانتباه إلى بعض كتب المؤلف التي لم يعثر عليها أو بعض النسخ التي توجد في خزانات خاصة يذكرها، أو كتب أخرى مفقودة، فضلا عن إشارته لمؤلفات كثيرة في موضوع واحد، شكلت مادة خاما للباحثين في دراسة جوانب مهمة من الفكر الإصلاحي للمغرب الحديث.
المقاربة التاريخيانية في دراسة الحركة الإصلاحية الحديثة نموذج عبد الله العروي
لا يمكن لباحث في التراث الإصلاحي المغربي أن يتجاهل أو يقفز على الجهد البحثي الذي قام به الدكتور عبد الله العروي مبكرا (دكتوراه في جامعة السربون سنة 1977) والذي حاول فيه دراسة الأصول الثقافية والاجتماعية للحركة الوطنية ما بين سنة 19830 و1912، إذ حاول في هذا العمل أن يدرج جهود العلماء الإصلاحية ضمن بحثه، محاولا من خلال منهجه تفسير مبرراتها في سياقها الواقعي، سواء باعتبار الموقع الاجتماعي (التشكيلة الاجتماعية) أو المصالح التي تنطلق منها هذه التعبيرات، أو باعتبار الصلة بالسلطة السياسية، إذ عمد في هذا البحث ـ كعادة العروي في كثير من أعماله ـ أن يجمع بين تفسير سياق هذه المواقف المعبر عنها في شكل مؤلفات أو رسائل أو فتاوى للعلماء، وبين تقييمها في ضوء شروطها الواقعية وجدوائيتها في هذا السياق (النظرة التاريخانية).
من هذه الزاوية، قدم العروي قراءته لمؤلفات العلماء في موضوع التجارة مع الأوروبيين والاحتماء بهم والتعامل معهم، إذ أطر هذه القضية في سياقها السياسي، الذي كان فيه المغرب يعرف ارتفاع وتيرة التجارة الخارجية الأوروبية وتوسع ظاهرة التسرب الأوروبي، وكان السلطان المغربي يدرك أن مشروعيته السياسية مرتبطة بصد هذا التسرب وتقليصه، وأن التجارة الأوروبية تهدد استقلال المغرب، ولذلك اعتبر العروي أن رفض المغاربة التعامل مع الأجانب لم يكن ظاهرة فطرية، وإنما جاء بناء على ملامستهم لانعكاسات هذه التجارة على نقصان أسباب عيشهم، وما ينتج عن ذلك من تهديد الاستقلال والسقوط في يد الأجنبي.
كما قرأ أدبيات العلماء الإصلاحية في هذا الاتجاه (أي رفض التجارة مع الأوروبيين) من نفس الزاوية، وإن كانوا قد ركزوا اهتمامهم على نقد المظاهر المخالفة للأحكام الشرعية، وأدانوا بشدة السيرة الممنهجة الهادفة للنيل من مكانة القضاة الموكول إليهم أمر صيانة الدين، وصبوا جام غضبهم على من اعتبروهم سببا في تفاقم الأزمة، وهم أهل الحمايات واليهود والمخالطين للأجانب، مما أدى بهم الأمر إلى معاداة كل تجديد، وانتقاد موقف السلطان المهادن ضمنيا في وقت أول، ثم علنا في وقت لاحق .
ويسجل العروي في خلاصاته لمواقف العلماء والنخب الإصلاحية في المغرب لحظة توسع التسرب الأوروبي وضعف السلطة المركزية ومواردها المالية، لجوؤهم الضمني في الأخير إلى قبول علاج الداء بالدواء المر، أي استحسان مقترحات الدول الأوروبية، مما دفع بعض الفقهاء للتعبير بشكل صريح عن تراجع المخزن عن تطبيق الأحكام الشرعية، كما دفع جماعة من العلماء إلى التوجه بالنداء إلى جماعة المؤمنين لتدارك الوضع، وذلك بالتشبث بالسندين الرئيسيين للدولة الإسلامية المغربية: الشورى والبيعة، بل إن بعضهم ذهب إلى أن من واجب الأمة نفسها الحسم في أمورها في حالات غياب السلطة السياسية أو عجزها أو تهاونها.
وفي تقييمه لمواقف العلماء الإصلاحيين، اعتبر العروي أن جميع المواقف التي أنتجوها حول الجهاد والمتاجرة مع النصارى والتساكن مع الآخر افتقدت للواقعية، ويفسر موقفهم بكونهم لم يكونوا متعامين، ولكنهم من شدة إدراكهم لتردي الأوضاع أوقفوا خياراتهم وأصبحوا يفكرون في تجاوز المحنة من منظار المترتقب للخلاص الذي وعد به الله أمته، وانهم كانوا موقنين أن ساحة الحسم قريبة لا محالة.
ويحلل العروي مواقف العلماء الإصلاحية في هذه الفترة، فيرى أنها خدمت السلطة المركزية في الانفلات من تدخل الأوربيين، وتخفيف شدة ضغوطهم عليها، وخدمت الحرفيين في رفضهم للمكوس غير الشرعية، والملاك في شجبهم للضرائب المبتدعة، وسكان البوادي في تمرداتهم ضد تسلط العمال وجشعهم، وأنهم كانوا لا يفعلون ذلك من موقع الدفاع عن مصالح هذه الفئات، وإنما من دافع ما سماه العروي إحياء الناموس الإلهي ضدا على رغبة البشر في استبداله بتنظيم وضعي محدث .
وينتهي العروي في ملاحظاته إلى أن مواقف العلماء كانت تعبر عن إدراك ملموس لظاهرة تاريخية محددة، تكشف الرغبة في إحياء النهج الإسلامي القويم المتمثل في إحياء الدولة الإسلامية الأولى التي كانت ضعيفة الوسائل قوية بمنطلقاتها الروحية والأخلاقية والتضامنية ، وأنها مواقف ترفض الرضا بالواقع أو تبريره أو التعامل معه بمرونة، وذلك مهما اشتدت الإكراهات، ومهما بلغت كلفة المدافعة .
ويعتبر العروي في خلاصاته، أن هذه المواقف إنما عبرت في نهاية المطاف عن رأي الأقلية، وأنها بطبيعتها المبدئية المقاومة شكلت الأساس الذي حكم تطور المجتمع ما بين سنة 1890 و1930.
المحاولة البحثية في حفريات المسألة الدستورية في المغرب (نموذج علال الفاسي)
هذه الدراسة على قلة صفحاتها، تقدم زاوية مهمة من زوايا البحث في التراث الإصلاحي في المغرب الحديث، ذلك أنها انصرفت إلى الجانب الدستوري، وتم تناولها من زاوية باحث مشتغل بالسياسة، ومنشغل بتوطين الديمقراطية، ويسعى إلى التأصيل لها من خلال البحث في حفريات المسألة الدستورية في المغرب، والتنقيب على مختلف المذكرات والنصوص التي كانت تتضمن أفكارا أو مطالب دستورية موجهة إلى الحاكم.
ومع أن الكتاب أشار في المقدمة إلى ما سبق أن سطره في كتابه “الحركات الاستقلالية” من بوادر وإرهاصات الفكرة الدستورية في المغرب مع جماعة لسان المغرب في طنجة ، إلا انه توقف في هذه الدراسة على وثيقة لكاتب مجهول، قدم مذكرة دستورية متكاملة إلى السلطان مولاي عبد العزيز عقب مؤتمر الجزيرة الخضراء، التي طالبت فيه الدول الأوربية المغرب القيام بالإصلاحات، إذ تضمنت هذه المذكرة توجيها لإقامة نظام نيابي، يفزع إليه الملك لرفض ما لا يمكن قبوله من تلك الإصلاحات المزعومة اعتمادا على ممثلي الشعب، ثم مشروع دستور لتنظيم الدولة بقانون أساسي في إطار ملكية دستورية .
لا يهمنا بشكل كبير هنا البحث في نسبة الوثيقة، وإن كان لذلك أهمية مركزية كونها تحسم في علاقة مشمولها بالتراث الإصلاحي المغربي، لكن ما يهمنا بشكل أساسي هو التوقف على زاوية النظر التي تناولها بها علال الفاسي هذا الجانب المهم من الفكر الإصلاحي الذي انصرف إلى المسألة الدستورية.
استهل علال الفاسي تحليله لهذه الوثيقة بعرض ظروفها والسياق الذي جاءت فيه (الظروف التي خلفتها ولاية السلطان عبد العزيز بعد وفاة والده الحسن الأول وتغلغل النفوذ الاستعماري في المغرب وانعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء ورفض مجلس الأعيان لمقرراته واضطرار الملك إلى توقيعه). وكيف كتبها صاحبها تعبيرا عن رفض الرعية ونفورها من التدخل الأجنبي الذي يستثمر الإصلاح ذريعة لدفع الحكومة للاستدانة من أجل تحكم الأوروبيين في مقدرات البلاد مقترحا وسيلة إنقاذ تتمثل بألا يبقى الملك وحده وجها لوجه مع الدول الأجنبية التي تطالبه بأن يوقع لها ويصادق على مطالبها، محتجة له بكونه صاحب السلطان المطلق، وأن قراراته نافذة، وأن الأجدى له أن يحتمي بالشعب عن طريق إعلان قانون أساسي، وتنظيم مجالس نيابية لانتخاب ممثلي الشعب، حيث سيضطلع هؤلاء الممثلون بتقرير ما إذا كان الإصلاح المقترح من قبل الدول الأجنبية مقبولا شعبيا ودينيا أم لا .
ويستعرض علال الفاسي مضمون هذه الوثيقة وكيف ركز صاحبها على عوامل نجاح الإصلاح الذي تقترحه المذكرة، مذكرا بعوامل النهوض التي سلكتها اليابان، وإيران، مقترحا أن تتم العودة إلى الشعب ليقرر مصيره بنفسه في خير السبل لتحقيق النهوض، وذلك من خلال تشكيل مجلس الأمة، والشروع في تشكيل عسكر جرار على وجه منتظم، وتمويل داخلي يتيسر معه تحقيق ما تطلبه أوربا من الإصلاح بدون حاجة إلى مساعدتها .
ويمضي علال الفاسي في تحليل هذه الوثيقة مستعرضا فوائد تشكيل مجلس الأمة واعتماد النظام النيابي، وغيرها من الإجراءات “الديمقراطية” التي دعا إليها صاحب المذكرة في مستوياتها الثلاث المذكورة سابقا، ثم يمضي في محور آخر لتحليل أثر هذه الأفكار ودورها في بلورة البيعة الحفيظية وفي تبلور أدبيات حركة لسان المغرب الديمقراطية ليدخل في سياق مقارن بين المشاريع الدستورية التي عرضت مبكرا في تاريخ المغرب الحديث، ويخلص في نهاية دراسته لهذه المشاريع الدستورية إلى تأكيد حقيقة شعور الشعب المغربي بشكل مبكر، أي منذ بداية القرن العشرين، بأن العلاج الوحيد لما حصل من تأخر واضطراب، يتمثل في تجديد أنظمته القومية، وبنائها على أسس ديمقراطية مستمدة من روح الإسلام ومحافظة على أحسن ما عنده من تقاليد.
(المصدر: عربي21)